fbpx

“التنوير” ليس أفكاراً فحسب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان لأفكار “التنوير” أثر واضح على دفع قضيّة الإصلاح الاجتماعيّ في أوروبا إلى الأمام، وكان من العلامات البارزة على هذا المنحى التحريضُ الذي استهدف إعادة النظر بقوانين العقوبات، كما رمى إلى اعتماد معاملة أكثر إنسانيّة للمساجين… وكم هي مُلحّة هذه المسألة في العالم العربيّ وفي سجون طُغاته

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

غالباً ما يُذكر “التنوير” في الكتابات العربيّة بوصفه مجموعة أفكار ناقضت الرؤيتين الدينيّة والخرافيّة للكون والطبيعة، واضعةً الإنسان والعقل في المركزيّة التي سبق أن حلّ فيها الله.

هذا، بالطبع، صحيح، لكنّه ليس كلّ الصحيح. ذاك أنّه من دون فعلٍ شعبيّ وسياسيّ في حجم الثورة الفرنسيّة كانت أفكار “التنوير” لتبقى أفكاراً فحسب. هذه بديهة. لكن إلى ذلك، ثمّة في التناول السائد ميلٌ إلى محاصرة ما هو سياسيّ مباشر في أفكار “التنوير” نفسها، وإلى التعتيم عليه. وأمر كهذا، طارد لمبدأ التغيير السياسيّ، لا يفعل سوى مفاقمة القمعيّ والفوقيّ في تلك الأفكار بوصفها – مثلها مثل كلّ أفكار مجرّدة – قابلة لأن تستقلّ عن التدخّل والمبادرة الإنسانيّين وتتعالى تالياً عليهما.

لقد كان لأفكار “التنوير” أثر واضح على دفع قضيّة الإصلاح الاجتماعيّ في أوروبا إلى الأمام، وكان من العلامات البارزة على هذا المنحى التحريضُ الذي استهدف إعادة النظر بقوانين العقوبات، كما رمى إلى اعتماد معاملة أكثر إنسانيّة للمساجين (وكم هي مُلحّة هذه المسألة في العالم العربيّ وفي سجون طُغاته).

وبالنسبة إلى الموضوعين هذين، العقوبات ومعاملة المساجين، بدا الإصلاح قاهراً وحاسماً: فالعقوبات التي كانت تُفرض حتّى على الجُنح كانت وحشيّة في جميع الدول الأوروبيّة تقريباً. ذاك أنّ الحكم بالموت كان العقوبة على سرقة حصان أو خروف أو حتّى مبلغ زهيد جدّاً من المال.

وفي النصف الأوّل من القرن الثامن عشر، أضيف ما لا يقلّ عن 60 جريمة إلى قائمة الجرائم التي يعاقَب عليها، في إنكلترا، بالموت، كما كانت بالغةَ القسوة معاملة مَن يصابون بالإفلاس ومَن يمارسون الإقراض. وبسبب التجويع والضرب المبرّح المعمول بهما في السجون كان شائعاً موت الآلاف في الزنزانات القذرة التي حُشروا طويلاً فيها.

لقد كان لشروط كهذه أن حرّكت وحرّضت حساسيّات الإصلاحيّين ودعاة التنوير، وكان في عدادهم سيزار بيكّاريا، وهو قاضٍ من ميلانو بإيطاليا عاش من 1738 حتى 1794 وتأثّر إلى حدّ بعيد بكتابات الفلاسفة العقلانيّين الفرنسيّين، كما نشر في 1764 بحثه الذي اشتُهر حينذاك، وكان عنوانه “الجرائم والعقوبات”. فقد دان بيكّاريا النظريّة السائدة يومها حول “ضرورة” تشديد العقوبات لأنّها وحدها ما يردع المنتهكين والمعتدين المحتملين. وهو أصرّ، في المقابل، على أنّ هدف القوانين الجُرميّة ينبغي أن يكون منع الجريمة وإصلاح المساجين، لا الانتقام منهم. وقد حضّ بيكّاريا على إلغاء التعذيب بوصفه عملاً لا يليق “بأمم متمدّنة”، مثلما دان الحكم بالموت بوصفه سلوكاً يناهض حقوق البشر الطبيعيّة والأوّليّة، إذ يستحيل بداهةً التراجع عنه في حال ثبوت خطأ التهمة التي أودت بمن اتُّهم بها.

“نحن حيال عمليّة متعدّدة المستويات لكنّها وحيدة في الهدف والمطاف الأخير: تحرير الجسد والعقل والإرادة معاً”

كتاب بيكّاريا هذا أثار ضجّة في أوروبا عهدذاك وتُرجم إلى جميع لغاتها تقريباً، كما أطلق جهوداً لتحسين أوضاع السجون في بلدان عدّة. وفعلاً ففي أواخر القرن الثامن عشر، طرأ تحسّن ملحوظ لجهة تخفيف العقوبات عموماً، وكذلك إعفاء الدائنين من التعرّض لها، فضلاً عن توفير العمل ووجبات طعام أفضل للمساجين.

ووجدت روحيّة التنوير الإنسانيّة (الإنسانويّة وفقاً لتعريب آخر) تعابير أخرى: فكثيرون من العلماء والفلاسفة دانوا شرور العبوديّة، وأكثر منهم مَن دانوا تجارة العبيد. يكفي، مثلاً لا حصراً، أن نستعيد هذه الفقرات في “إنسيكلوبيديا” ديدَرو عن العبوديّة وتجارة العبيد: “إنّ تجارة العبيد (تجارة أفريقيا) هي شراء أوروبيّين لزنوج سيّئي الحظّ على شاطىء أفريقيا من أجل استخدامهم عبيداً في مستوطناتهم.

هذا الشراء للزنوج وإحالتهم إلى العبوديّة عمل ينتهك الدين والأخلاق والقوانين الطبيعيّة وكلّ حقوق الطبيعة الإنسانيّة. فالزنوج، كما يقول رجل إنكليزيّ حديث ممتلىء تنوّراً وإنسانيّةً، لم يصبحوا عبيداً [بفعل] حقوق الحرب، ولا هم سلّموا أنفسهم طوعاً للعبوديّة، وبالتالي فإنّ أبناءهم لم يولدوا عبيداً (…) فإذا أمكن تبرير هذا النوع من التجارة عملاً بمبدأ أخلاقيّ، فعندها لا تبقى جريمة، مهما كان ارتكابها فادحاً، إلاّ وتكون قابلة للشرعنة. إنّ الملوك والأمراء والحكّام ليسوا مالكي رعاياهم، ولهذا فإنّهم لا يملكون الحقّ في تبديد حرّيّتهم وبيعهم كعبيد”.

وسريعاً ما لحق بالجهود التي بذلها المثقّفون على هذه الجبهة جهود متحمّسة أخرى بذلها قادة بعض الفرق الدينيّة، خصوصاً منها “الكوايكرز” في الولايات المتّحدة الأميركيّة. وكانت النزعة السلميّة مثالاً آخر من المثالات التي رفعها بعض التنويريّين، فلم تكن قيود فولتير على الحرب المثل الوحيد الدالّ إلى هذه العاطفة الجديدة. ذاك أنّ جان جاك روسّو هاجم التمييز بين الحروب العادلة وغير العادلة بوصفه غير منطقيّ، واشتغل آخرون على وضع خطط وتصوّرات لضمان الوصول إلى سلام أبديّ، كالراهب الفرنسيّ دو سان بيار (1658 – 1743) الداعي إلى عصبة أمم تنسّق أعمال أعضائها وتوحّدها في مواجهة أيّ عمل عدوانيّ (في 1795، وفي غمرة الحروب الأوروبيّة العاصفة التي استثارتها الثورة الفرنسيّة، نشر عمانوئيل كانط نصّه الشهير عن “السلام الدائم”).

وباختصار، لم يكن ما يتّصل بالسياسة وطبيعة السلطة مجرّد تابع مؤجّل لما يتّصل بالعقل والأفكار، ولا العكس أيضاً. فهنا، نحن حيال عمليّة متعدّدة المستويات لكنّها وحيدة في الهدف والمطاف الأخير: تحرير الجسد والعقل والإرادة معاً. وهذا ما ينبغي أن يكون صحيحاً في ما خصّ أجساد العرب وعقولهم وإراداتهم كذلك.

إقرأ أيضاً:
محاولات إنتاج خطاب سياسي للألم: التعذيب في سوريا نموذجاً
حلقات التعذيب في الجزائر: ماذا بعد اعتراف فرنسا بقتل موريس أودان؟

كريم شفيق - صحفي مصري | 26.04.2024

حملة “نور”: حرب “آيات الله” الجديدة على أجساد النساء

تتزامن الحرب على أجساد النساء مع إخفاقات سياسية عدة، محلية وإقليمية، لـ"آيات الله"، بداية من تأثيرات المعارضة السياسية على الانتخابات البرلمانية، والتي شهدت انحساراً شديداً، وتراجعاً لافتاً في مستوى إقبال الناخبين وتدنّي نسب المشاركة. فضلاً عن الهجوم المحدود والاستعراضي للرد الإيراني على اعتداءات إسرائيل على القنصلية، والهجوم الذي طاول قياداتها بين سوريا ولبنان.