fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

العقوبات الأميركيّة تقتل مرضى السرطان في إيران

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أوضحت النتائج أنّ الأضرار التي هددت المرضى الإيرانيّين ليست بالأساطير!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نشرَت وزارة الخارجيّة الأميركيّة الشهرَ الماضي فيديو موجّهاً إلى الشعب الإيرانيّ. يظهر في الفيديو بريان هووك، المسؤول في إدارة ترامب، وهو يزعم أنّه من قبيل الأساطير القول إنّ العقوبات تستهدف إمكان حصول إيران على دواء. لأكثر من عقد، كنتُ وزملائي الإيرانيّون في القطاع الطبّي نكافح من أجل حماية المرضى من تداعيات العقوبات الأميركيّة وآثارهم. لقد درسنا آثار العقوبات على قطاع الرعاية الصحّيّة الإيرانيّ، وناشدنا حكومتنا بتقديم ردود أفضل. أوضحَت نتائجُنا أنّ الأضرار التي هددت المرضى الإيرانيّين ليست بالأساطير.

يعتمد عالَمُ اليوم المتكامل والمترابط على أنظمة مصرفيّة وشبكات تجاريّة تُهيمن عليها الولايات المتّحدة. والحكومة الأميركيّة لديها القدرة على استخدام العقوبات الاقتصاديّة لإلحاق الضرر، بسهولةٍ نسبيّة، بالعلاقات الاقتصاديّة والسياسيّة وحتّى الاجتماعيّة في الدول المستهدفة.

على رغم أنّ العقوبات الأميركيّة صُمّمت بطريقة تبدو وكأنّها لا تستهدف الوصول الإنسانيّ للأغذية والدواء، فإنّها من الناحية العمليّة تؤدّي دورَ أداة من أدوات الحرب الاقتصاديّة. يواصل المسؤولون في واشنطن تأكيدَ أنّهم يحافظون على “استثناءات” من عقوباتهم تلك، من أجل حماية التبادل التجاريّ الإنسانيّ، حتّى بعدما حكمت محكمة العدل الدوليّة أنّ تلك الاستثناءت غير كافية، ولا تدع إلّا “احتماليّة ضئيلة للتحسين” في “الآثار الضارّة والخطيرة على صحّة الإيرانيّين وحياتهم”. في نهاية المطاف، على الولايات المتّحدة أن تولي تلك التحذيرات الإنسانيّة عنايةً وانتباهاً.

زاد الوضعُ سوءاً في ظلّ إدارة الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب. تشير بيانات “مكتب التعداد” الأميركيّ إلى أنّ الولايات المتّحدة صدَّرَت سنويّاً بمعدَّل 26 مليون دولار من المنتجات الصيدلانيّة إلى إيران، خلال فترة العقوبات في عهد باراك أوباما. تضاءل حجم الصادرات إلى ما معدّله 8.6 مليون دولار فقط في العامَين الأخيرَين في ظلّ سياسات العقوبات القصوى التي يتبعها ترامب.

صعّبت إدارة ترامب أيضاً على الدول الأوروبيّة عمليّةَ تصدير الدواء إلى إيران. فقد تراجعت الصادرات الصيدلانيّة السويسريّة إلى إيران بنسبة 30 في المئة، من 235 مليون فرنك سويسريّ (240 مليون دولار) عام 2017 إلى 163 مليون فرنك (167 مليون دولار) العام الماضي، بحسب بيانات الجمارك السويسريّة. وعلى رغم أنّه كان مقرّراً ألّا يُعاد فرض العقوبات سوى في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، فقد تراجعت الصادرات السويسريّة ذلك العام لتصبح أقلّ من المتوسط السنويّ المعتاد منذ 2008 إلى 2015، وهو 173 مليون فرنك (178 مليون دولار).

تشير بيانات “مكتب التعداد” الأميركيّ إلى أنّ الولايات المتّحدة صدَّرَت سنويّاً بمعدَّل 26 مليون دولار من المنتجات الصيدلانيّة إلى إيران

بالمثل، ووفق بيانات مستقاة من يوروستات Eurostat، تراجعت الصادرات الصيدلانيّة الفرنسيّة إلى إيران بنسبة 25 في المئة من 194 مليون يورو (218 مليون دولار) إلى 146 مليون يورو (164 مليون دولار) العام الماضي، لتنخفض تحت سقف المتوسّط السنويّ بين 2008 و2015، وهو 150 مليون يورو (168 مليون دولار).

ردّاً على هذه الضغوط، وكجزءٍ من سياسات ما بعد ثورة 1979 الساعية للاكتفاء الذاتيّ، قطعَت إيران شوطاً واسعاً ومهمّاً في تأمين حصول شعبها على العلاج والدواء. إذ إن إيران دولة رائدة عالميّاً في إنتاج الأدوية المكافئة، الأمر الذي ساعد بشكلٍ ملحوظ في خفض كلفة الرعاية الصحّيّة. وبحسب أكبر بارانديغي، المدير العام لإدارة الدواء والغذاء الإيرانيّة، فإنّ نسبة 97 في المئة تقريباً من احتياجات البلاد الدوائيّة، توفّرها 100 شركة أدوية محلّيّة، معظمها من القطاع الخاص. وفقط نسبة 3 في المئة من الطلب تلبّيها الواردات التي تُجلَب من من كبرى شركات الدواء العالميّة.

ربّما لا تشكّل هذه المشتريات سوى نسبة صغيرة فقط من مجمل الطلَب، لكنها ترتبط بأدوية محددة بالغة الأهمية لمصلحة كثر من المرضى، وبخاصّة أولئك الذين يُعانون من أمراض مزمِنة أو في أطوار متقدّمة من المرض.

في العام الماضي، نشرَ عدد من زملائي العاملين في مجال “سرطان الأطفال” مقالةً في مجلّة The Lancet الطبّيّة المحكَّمة، توضح أنّ أدوية العلاجَ الكيماويّ، مثل أسباراجينيز ومركابتوبورين المستخدم في علاج سرطان الدم (اللوكيميا)، بل وحتّى مسكّن الألم الأساسيّ باراسيتامول، قد نفدت من الأسواق، ما يشكّل خطراً على علاج آلاف الأطفال. أخلّت العقوبات الأميركيّة ضد إيران بالقدرة على الوصول إلى هذه الأدوية بشكلٍ ملحوظ. يأخذ هذا الخلل ثلاثة أشكال أساسيّة.

أوّلاً أنّ العقوبات تؤثّر في توافر الواردات. بينما تمثّل الواردات نسبة 3 في المئة فقط من إجمالي الطلب بحسب الوحدة في إيران، فإنّها تمثّل نحو 39 في المئة من احتياجات البلاد من حيث القيمة، ما يعكس حقيقة أنّ الأدوية المستوردة هي عادةً أغلى 5 مرّات من الأدوية المُنتجة محلّيّاً، إلى جانب حقيقة أنّ إيران غالباً ما تستورد الأدوية المتخصّصة، وهي أدوية غالباً ما تكون أغلى.

تماماً مثلما هي الحال مع المواد الخام، صعّبت القيودُ المصرفيّة على المستوردين الإيرانيّين دفْعَ تكاليف الأدوية للمورِّدين الأوروبيّين والآسيويّين. إنّ النقص في الأدوية المستورَدة والارتفاع الشديد في التكاليف يجعلان المرضَى الأضعف – مَن لديهم أمراض نادرة أو في أطوار متقدّمة- عُرضةً لأشد المخاطر.

تعمل العقوبات على عرقلة الإنتاج المحلي من خلال قطع سلاسل التوريد. إذ يستخدم مصنّعو الأدوية في إيران أكثرَ من 10 آلاف مركب مختلف في عمليات الإنتاج.

وهناك قلقٌ بالغ حيال الخطر قد يتعرض له مرضى السرطان من الأطفال. ففي مواجهة هذه الاضطرابات التي تجتاح قطاعَ الاستيراد، بدأ الانتهازيّون تهريب أدوية مغشوشة ومنخفضة الجودة إلى إيران عبر طرق تمرّ بباكستان وتركيا والإمارات العربية المتحدة. وفي حال ازدادت تلك الاضطرابات سوءاً، فإنها قد تؤدِّي أيضاً إلى إدخال مكوِّنات مغشوشة أو غير نقيّة إلى الأدوية المُصنَّعة محلياً، الأمر الذي قد لا يؤدي فقط إلى صناعة عقاقير منخفضة الجودة، بل أيضاً إلى ظهور مخاطر صحية عامة جديدة.

ثانياً، تعمل العقوبات على عرقلة الإنتاج المحلي من خلال قطع سلاسل التوريد. إذ يستخدم مصنّعو الأدوية في إيران أكثرَ من 10 آلاف مركب مختلف في عمليات الإنتاج. وبسبب الضغوط التي تشكلها العقوبات الأميركية والتأثير السلبي في المصارف الدولية، صار من المستحيل بالفعل على كثر من المورِّدين الحصول على مدفوعاتٍ بشكل يُمكن الاعتماد عليه مقابل المواد الخام التي تُباع لإيران. إذ قد تحتاج بعض الأدوية إلى 15 مادة من مصنِّعين مختلِفِين في بلدان مختلفة لكي يتم إنتاج ذلك الدواء. ولذا فإنّ عدم توفّر مادة واحدة سيُفضي إلى توقّف إنتاج هذا الدواء.

أخيراً، أصابت تأثيرات العقوبات المفروضة على الاقتصاد الإيراني مُقدِّمي الرعاية الصحية والمُستهلكين على حد سواء بالضرر، من خلال حدِّها من القوة الشرائية. فقد أدى انخفاض العائدات الحكومية وصعوبة الحصول على العملات الأجنبية إلى فرض ضغوط شديدة على الإنفاق في قطاع الرعاية الصحية، الأمر الذي جعل من الصعب على المرضى تحمل تكاليف الأدوية المستوردة، على رغم توفرها في المستشفيات. ووفقاً للبيانات الصادرة عن البنك المركزي الإيراني، ارتفعت تكلفة الرعاية الصحية في إيران 20 في المئة تقريباً في الفترة بين تشرين الثاني 2017، وتشرين الثاني 2018.

يُمكن أن يساهم انخفاض الإنتاج في البطالة أيضاً، إذ تُقدِّر نقابة الصناعات الدوائية الإيرانية أن شركات صناعة الأدوية تُوظّف نحو 25 ألف موظف، فيما يعمل 100 ألف عامل آخر في شركات التوزيع والصيدليات وخدمات دعم ما بعد البيع. هؤلاء العمال هم من أفضل وأذكى العاملين في إيران، وما يقرب من 20 في المئة من هؤلاء العاملين من خريجي الجامعات، ولكن مستقبلَهم مُهدد بالضياع.

ما قد يبدو للوهلة الأولى مجرد عقوبات مصرفية عقيمة هو في واقع الأمر أشد خطورة. إذ تُعيق هذه العقوبات وصولَ الشعب الإيراني، وخصوصاً الفقراء إضافة إلى المسنّين والأطفال والنساء والمرضى الذين يعانون من أمراض مزمِنة، إلى الأدوية التي يحتاجونها. فقد أصبحت أسعار الأدوية مرتفعة للغاية وذات جودة سيّئة. وتؤدّي سلسلة التوريد التي لا يُمكن الاعتماد عليها إلى عدم اكتمال علاج الأمراض، التي تصير بدورها أمراضاً مزمِنة. إضافةً إلى ذلك، تتعمَّق الأزمة أكثر عندما يزيد تباطؤُ الإنتاج المحلي حاجةَ البلاد إلى استيراد الأدوية. كل هذا يحدث في ظل تضاؤل موارد الحكومة الإيرانية، بسبب اضطرارها إلى استيراد الأدوية بأسعار أعلى في تلك الحالات التي تتوفر فيها القنوات المصرفية.

يدرك القادة المسؤولون في الولايات المتحدة أنه ليس هناك سوى القليل مما يُمكن كسبه من خلال خنق التجارة في السلع الإنسانيّة، فقد التمست الحكوماتُ الأوروبية توضيحاتٍ بشأن المعاملات التجارية ذات الأغراض الإنسانيّة، إلا أنها قوبلت بالرفض. وقد اضطرت فرنسا وألمانيا وبريطانيا إلى إنشاء آلية مالية خاصة لتسهيل التبادل التجاري مع إيران، تسمى “إينستكس” في محاولة لتسهيل التجارة في السلع الإنسانيّة. شهدت تلك الخطوة ترحيباً من قِبَل الإيرانيين، ولكن لا ينبغي على الولايات المتحدة أيضاً أن تتنصل من مسؤولياتها الأخلاقية. وعلى رغم تفاوض الحكومة السويسرية مباشرةً مع إدارة ترامب لإنشاء قناة مصرفية خاصة بالمعاملات التجارية ذات الأغراض الإنسانيّة، فقد باءت تلك الجهود بالفشل حتى الآن، بسبب المسؤولين الذين يسعون إلى تطبيق التفسير الأكثر تشدّداً لمعنى “الضغوط القصوى”. وفي حين يدرك المورِّدون الأوروبيّون لإيران أن هذا الوضع خطير، إلّا أنّ إدارة ترامب ما زالت لا تُبدي تعاوناً.

غضّت الولاياتُ المتحدة الطرفَ خلال الحرب العراقية الإيرانية عن استخدام صدام حسين الأسلحة الكيماوية والبيولوجية ضد الجنود والمدنيين الإيرانيين والأكراد. والأخطر من ذلك أن الولايات المتحدة لم تعترض على فرض عقوبات على العراق لردعه عن استخدام غازات الأعصاب فحسب، بل رفضت أيضاً مساعدة إيران في الوصول إلى اللقاحات اللازمة لعلاج ضحايا الهجمات الكيماوية.

لقد تصادف أنني كنت أحدَ هؤلاء الضحايا. أحرقَت أسلحة صدام الكيماوية رئتي وعينيّ، ما أحدث إصابات خطيرة ذات عواقب تمتد طوال الحياة، ما زلت أتناول الأدوية بسببها، وتزداد سوءاً مع تقدمي في العمر. لا تزال محفورةً في ذاكرتي صورُ مئات الضحايا الذين رأيتهم في منشآت الطوارئ في مناطق الحرب بالقرب من الحدود الإيرانية العراقية، ولم يكن لديهم سوى فرصة قليلة أو منعدمة للحصول على أدوات العلاج، وبخاصة اللقاحات المضادة.

بعد مرور نحو 40 عاماً، ما زالت حكومة الولايات المتحدة تعاني من الإخفاقات الأخلاقية ذاتها، وما زلتُ أشهد نتائج ذلك عن كثب. وعلى رغم أنني نجوت من هذه الحرب غير التقليدية، فإنّ كثراً من أبناء وطني ومَرضاه لم ينجوا منها، ولم يكن موتهم بسبب العقوبات مجرد أسطورة.

هذا المقال مترجَم عن foreignpolicy.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي

السوريون في لبنان… بدء العدّ التنازليّ

22.08.2019
زمن القراءة: 7 minutes

أوضحت النتائج أنّ الأضرار التي هددت المرضى الإيرانيّين ليست بالأساطير!

نشرَت وزارة الخارجيّة الأميركيّة الشهرَ الماضي فيديو موجّهاً إلى الشعب الإيرانيّ. يظهر في الفيديو بريان هووك، المسؤول في إدارة ترامب، وهو يزعم أنّه من قبيل الأساطير القول إنّ العقوبات تستهدف إمكان حصول إيران على دواء. لأكثر من عقد، كنتُ وزملائي الإيرانيّون في القطاع الطبّي نكافح من أجل حماية المرضى من تداعيات العقوبات الأميركيّة وآثارهم. لقد درسنا آثار العقوبات على قطاع الرعاية الصحّيّة الإيرانيّ، وناشدنا حكومتنا بتقديم ردود أفضل. أوضحَت نتائجُنا أنّ الأضرار التي هددت المرضى الإيرانيّين ليست بالأساطير.

يعتمد عالَمُ اليوم المتكامل والمترابط على أنظمة مصرفيّة وشبكات تجاريّة تُهيمن عليها الولايات المتّحدة. والحكومة الأميركيّة لديها القدرة على استخدام العقوبات الاقتصاديّة لإلحاق الضرر، بسهولةٍ نسبيّة، بالعلاقات الاقتصاديّة والسياسيّة وحتّى الاجتماعيّة في الدول المستهدفة.

على رغم أنّ العقوبات الأميركيّة صُمّمت بطريقة تبدو وكأنّها لا تستهدف الوصول الإنسانيّ للأغذية والدواء، فإنّها من الناحية العمليّة تؤدّي دورَ أداة من أدوات الحرب الاقتصاديّة. يواصل المسؤولون في واشنطن تأكيدَ أنّهم يحافظون على “استثناءات” من عقوباتهم تلك، من أجل حماية التبادل التجاريّ الإنسانيّ، حتّى بعدما حكمت محكمة العدل الدوليّة أنّ تلك الاستثناءت غير كافية، ولا تدع إلّا “احتماليّة ضئيلة للتحسين” في “الآثار الضارّة والخطيرة على صحّة الإيرانيّين وحياتهم”. في نهاية المطاف، على الولايات المتّحدة أن تولي تلك التحذيرات الإنسانيّة عنايةً وانتباهاً.

زاد الوضعُ سوءاً في ظلّ إدارة الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب. تشير بيانات “مكتب التعداد” الأميركيّ إلى أنّ الولايات المتّحدة صدَّرَت سنويّاً بمعدَّل 26 مليون دولار من المنتجات الصيدلانيّة إلى إيران، خلال فترة العقوبات في عهد باراك أوباما. تضاءل حجم الصادرات إلى ما معدّله 8.6 مليون دولار فقط في العامَين الأخيرَين في ظلّ سياسات العقوبات القصوى التي يتبعها ترامب.

صعّبت إدارة ترامب أيضاً على الدول الأوروبيّة عمليّةَ تصدير الدواء إلى إيران. فقد تراجعت الصادرات الصيدلانيّة السويسريّة إلى إيران بنسبة 30 في المئة، من 235 مليون فرنك سويسريّ (240 مليون دولار) عام 2017 إلى 163 مليون فرنك (167 مليون دولار) العام الماضي، بحسب بيانات الجمارك السويسريّة. وعلى رغم أنّه كان مقرّراً ألّا يُعاد فرض العقوبات سوى في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، فقد تراجعت الصادرات السويسريّة ذلك العام لتصبح أقلّ من المتوسط السنويّ المعتاد منذ 2008 إلى 2015، وهو 173 مليون فرنك (178 مليون دولار).

تشير بيانات “مكتب التعداد” الأميركيّ إلى أنّ الولايات المتّحدة صدَّرَت سنويّاً بمعدَّل 26 مليون دولار من المنتجات الصيدلانيّة إلى إيران

بالمثل، ووفق بيانات مستقاة من يوروستات Eurostat، تراجعت الصادرات الصيدلانيّة الفرنسيّة إلى إيران بنسبة 25 في المئة من 194 مليون يورو (218 مليون دولار) إلى 146 مليون يورو (164 مليون دولار) العام الماضي، لتنخفض تحت سقف المتوسّط السنويّ بين 2008 و2015، وهو 150 مليون يورو (168 مليون دولار).

ردّاً على هذه الضغوط، وكجزءٍ من سياسات ما بعد ثورة 1979 الساعية للاكتفاء الذاتيّ، قطعَت إيران شوطاً واسعاً ومهمّاً في تأمين حصول شعبها على العلاج والدواء. إذ إن إيران دولة رائدة عالميّاً في إنتاج الأدوية المكافئة، الأمر الذي ساعد بشكلٍ ملحوظ في خفض كلفة الرعاية الصحّيّة. وبحسب أكبر بارانديغي، المدير العام لإدارة الدواء والغذاء الإيرانيّة، فإنّ نسبة 97 في المئة تقريباً من احتياجات البلاد الدوائيّة، توفّرها 100 شركة أدوية محلّيّة، معظمها من القطاع الخاص. وفقط نسبة 3 في المئة من الطلب تلبّيها الواردات التي تُجلَب من من كبرى شركات الدواء العالميّة.

ربّما لا تشكّل هذه المشتريات سوى نسبة صغيرة فقط من مجمل الطلَب، لكنها ترتبط بأدوية محددة بالغة الأهمية لمصلحة كثر من المرضى، وبخاصّة أولئك الذين يُعانون من أمراض مزمِنة أو في أطوار متقدّمة من المرض.

في العام الماضي، نشرَ عدد من زملائي العاملين في مجال “سرطان الأطفال” مقالةً في مجلّة The Lancet الطبّيّة المحكَّمة، توضح أنّ أدوية العلاجَ الكيماويّ، مثل أسباراجينيز ومركابتوبورين المستخدم في علاج سرطان الدم (اللوكيميا)، بل وحتّى مسكّن الألم الأساسيّ باراسيتامول، قد نفدت من الأسواق، ما يشكّل خطراً على علاج آلاف الأطفال. أخلّت العقوبات الأميركيّة ضد إيران بالقدرة على الوصول إلى هذه الأدوية بشكلٍ ملحوظ. يأخذ هذا الخلل ثلاثة أشكال أساسيّة.

أوّلاً أنّ العقوبات تؤثّر في توافر الواردات. بينما تمثّل الواردات نسبة 3 في المئة فقط من إجمالي الطلب بحسب الوحدة في إيران، فإنّها تمثّل نحو 39 في المئة من احتياجات البلاد من حيث القيمة، ما يعكس حقيقة أنّ الأدوية المستوردة هي عادةً أغلى 5 مرّات من الأدوية المُنتجة محلّيّاً، إلى جانب حقيقة أنّ إيران غالباً ما تستورد الأدوية المتخصّصة، وهي أدوية غالباً ما تكون أغلى.

تماماً مثلما هي الحال مع المواد الخام، صعّبت القيودُ المصرفيّة على المستوردين الإيرانيّين دفْعَ تكاليف الأدوية للمورِّدين الأوروبيّين والآسيويّين. إنّ النقص في الأدوية المستورَدة والارتفاع الشديد في التكاليف يجعلان المرضَى الأضعف – مَن لديهم أمراض نادرة أو في أطوار متقدّمة- عُرضةً لأشد المخاطر.

تعمل العقوبات على عرقلة الإنتاج المحلي من خلال قطع سلاسل التوريد. إذ يستخدم مصنّعو الأدوية في إيران أكثرَ من 10 آلاف مركب مختلف في عمليات الإنتاج.

وهناك قلقٌ بالغ حيال الخطر قد يتعرض له مرضى السرطان من الأطفال. ففي مواجهة هذه الاضطرابات التي تجتاح قطاعَ الاستيراد، بدأ الانتهازيّون تهريب أدوية مغشوشة ومنخفضة الجودة إلى إيران عبر طرق تمرّ بباكستان وتركيا والإمارات العربية المتحدة. وفي حال ازدادت تلك الاضطرابات سوءاً، فإنها قد تؤدِّي أيضاً إلى إدخال مكوِّنات مغشوشة أو غير نقيّة إلى الأدوية المُصنَّعة محلياً، الأمر الذي قد لا يؤدي فقط إلى صناعة عقاقير منخفضة الجودة، بل أيضاً إلى ظهور مخاطر صحية عامة جديدة.

ثانياً، تعمل العقوبات على عرقلة الإنتاج المحلي من خلال قطع سلاسل التوريد. إذ يستخدم مصنّعو الأدوية في إيران أكثرَ من 10 آلاف مركب مختلف في عمليات الإنتاج. وبسبب الضغوط التي تشكلها العقوبات الأميركية والتأثير السلبي في المصارف الدولية، صار من المستحيل بالفعل على كثر من المورِّدين الحصول على مدفوعاتٍ بشكل يُمكن الاعتماد عليه مقابل المواد الخام التي تُباع لإيران. إذ قد تحتاج بعض الأدوية إلى 15 مادة من مصنِّعين مختلِفِين في بلدان مختلفة لكي يتم إنتاج ذلك الدواء. ولذا فإنّ عدم توفّر مادة واحدة سيُفضي إلى توقّف إنتاج هذا الدواء.

أخيراً، أصابت تأثيرات العقوبات المفروضة على الاقتصاد الإيراني مُقدِّمي الرعاية الصحية والمُستهلكين على حد سواء بالضرر، من خلال حدِّها من القوة الشرائية. فقد أدى انخفاض العائدات الحكومية وصعوبة الحصول على العملات الأجنبية إلى فرض ضغوط شديدة على الإنفاق في قطاع الرعاية الصحية، الأمر الذي جعل من الصعب على المرضى تحمل تكاليف الأدوية المستوردة، على رغم توفرها في المستشفيات. ووفقاً للبيانات الصادرة عن البنك المركزي الإيراني، ارتفعت تكلفة الرعاية الصحية في إيران 20 في المئة تقريباً في الفترة بين تشرين الثاني 2017، وتشرين الثاني 2018.

يُمكن أن يساهم انخفاض الإنتاج في البطالة أيضاً، إذ تُقدِّر نقابة الصناعات الدوائية الإيرانية أن شركات صناعة الأدوية تُوظّف نحو 25 ألف موظف، فيما يعمل 100 ألف عامل آخر في شركات التوزيع والصيدليات وخدمات دعم ما بعد البيع. هؤلاء العمال هم من أفضل وأذكى العاملين في إيران، وما يقرب من 20 في المئة من هؤلاء العاملين من خريجي الجامعات، ولكن مستقبلَهم مُهدد بالضياع.

ما قد يبدو للوهلة الأولى مجرد عقوبات مصرفية عقيمة هو في واقع الأمر أشد خطورة. إذ تُعيق هذه العقوبات وصولَ الشعب الإيراني، وخصوصاً الفقراء إضافة إلى المسنّين والأطفال والنساء والمرضى الذين يعانون من أمراض مزمِنة، إلى الأدوية التي يحتاجونها. فقد أصبحت أسعار الأدوية مرتفعة للغاية وذات جودة سيّئة. وتؤدّي سلسلة التوريد التي لا يُمكن الاعتماد عليها إلى عدم اكتمال علاج الأمراض، التي تصير بدورها أمراضاً مزمِنة. إضافةً إلى ذلك، تتعمَّق الأزمة أكثر عندما يزيد تباطؤُ الإنتاج المحلي حاجةَ البلاد إلى استيراد الأدوية. كل هذا يحدث في ظل تضاؤل موارد الحكومة الإيرانية، بسبب اضطرارها إلى استيراد الأدوية بأسعار أعلى في تلك الحالات التي تتوفر فيها القنوات المصرفية.

يدرك القادة المسؤولون في الولايات المتحدة أنه ليس هناك سوى القليل مما يُمكن كسبه من خلال خنق التجارة في السلع الإنسانيّة، فقد التمست الحكوماتُ الأوروبية توضيحاتٍ بشأن المعاملات التجارية ذات الأغراض الإنسانيّة، إلا أنها قوبلت بالرفض. وقد اضطرت فرنسا وألمانيا وبريطانيا إلى إنشاء آلية مالية خاصة لتسهيل التبادل التجاري مع إيران، تسمى “إينستكس” في محاولة لتسهيل التجارة في السلع الإنسانيّة. شهدت تلك الخطوة ترحيباً من قِبَل الإيرانيين، ولكن لا ينبغي على الولايات المتحدة أيضاً أن تتنصل من مسؤولياتها الأخلاقية. وعلى رغم تفاوض الحكومة السويسرية مباشرةً مع إدارة ترامب لإنشاء قناة مصرفية خاصة بالمعاملات التجارية ذات الأغراض الإنسانيّة، فقد باءت تلك الجهود بالفشل حتى الآن، بسبب المسؤولين الذين يسعون إلى تطبيق التفسير الأكثر تشدّداً لمعنى “الضغوط القصوى”. وفي حين يدرك المورِّدون الأوروبيّون لإيران أن هذا الوضع خطير، إلّا أنّ إدارة ترامب ما زالت لا تُبدي تعاوناً.

غضّت الولاياتُ المتحدة الطرفَ خلال الحرب العراقية الإيرانية عن استخدام صدام حسين الأسلحة الكيماوية والبيولوجية ضد الجنود والمدنيين الإيرانيين والأكراد. والأخطر من ذلك أن الولايات المتحدة لم تعترض على فرض عقوبات على العراق لردعه عن استخدام غازات الأعصاب فحسب، بل رفضت أيضاً مساعدة إيران في الوصول إلى اللقاحات اللازمة لعلاج ضحايا الهجمات الكيماوية.

لقد تصادف أنني كنت أحدَ هؤلاء الضحايا. أحرقَت أسلحة صدام الكيماوية رئتي وعينيّ، ما أحدث إصابات خطيرة ذات عواقب تمتد طوال الحياة، ما زلت أتناول الأدوية بسببها، وتزداد سوءاً مع تقدمي في العمر. لا تزال محفورةً في ذاكرتي صورُ مئات الضحايا الذين رأيتهم في منشآت الطوارئ في مناطق الحرب بالقرب من الحدود الإيرانية العراقية، ولم يكن لديهم سوى فرصة قليلة أو منعدمة للحصول على أدوات العلاج، وبخاصة اللقاحات المضادة.

بعد مرور نحو 40 عاماً، ما زالت حكومة الولايات المتحدة تعاني من الإخفاقات الأخلاقية ذاتها، وما زلتُ أشهد نتائج ذلك عن كثب. وعلى رغم أنني نجوت من هذه الحرب غير التقليدية، فإنّ كثراً من أبناء وطني ومَرضاه لم ينجوا منها، ولم يكن موتهم بسبب العقوبات مجرد أسطورة.

هذا المقال مترجَم عن foreignpolicy.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي

السوريون في لبنان… بدء العدّ التنازليّ