fbpx

نظام دونالد ترامب العالمي الجديد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبدو الفلسطينيون الخاسرين المحتملين في الشرق الأوسط الجديد. وووفق ما قال مسؤول عربي بارز عن التحالف الاستراتيجي: “إنه يحدث، مع خطة سلام أو من دونها”. وأوضح أحد كبار مستشاري ترامب قائلاً: “إيران هي السبب في حدوث كل هذا”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعد ظهر يوم 14 ديسمبر/ كانون الأول 2016، ترك السيد رون ديرمر سفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة، سفارته ذاهباً إلى البيت الأبيض لحضور حفل هانوكا (عيد الأنوار الذي يحتفل به اليهود هذا العام من مساء  12 كانون الأول حتى الليلة الـ20 منه). كانت إدارة أوباما في أيامها الأخيرة، وكان من بين الضيوف بعض أنصار الرئيس الأشدّ حماسة لتأييد اليهود، الذين كانوا هناك لتوديعه. لكن ديرمر مثل رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو لم يشاركهم حزنهم وإحساسهم بالخسارة. بالنسبة إلى القيادة الإسرائيلية، لم يكن بوسعها انتظار رئاسة ترامب أكثر من ذلك.

اعتقد نتانياهو أن باراك أوباما لم يحمل أي “مشاعر خاصّة” للدولة اليهودية، على حد قول أحد مُساعديه ذات مرة، واستاء من رؤية أوباما بأن معاملة إسرائيل للفلسطينيين شكلت انتهاكاً لحقوق الإنسان الأساسية وعقبة أمام الأمن، ولا سيما لأمن إسرائيل نفسها. واعتقد أيضاً أن سعي أوباما إلى تحقيق التوازن بين قوى المملكة العربية السعودية وإيران في الشرق الأوسط كان ضرباً من السذاجة، إذ إنه لم يستطع إدراك مدى عمق نيات إيران الخبيثة في أنحاء المنطقة كلها.

لم يكن أوباما معارضاً شرساً لإسرائيل، إذ قدمت إدارته دعماً عسكرياً واستخباراتياً هائلاً للبلاد. وكان يوفر الحماية لنتانياهو في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، عندما استخدم عام 2011 حق النقض مرة وحيدة أوقف من خلاله قراراً يدين بناء المستوطنات اليهودية. كما عارض أوباما جهود الفلسطينيين المبذولة للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، بعد أن صاح نتانياهو في مكالمة هاتفية لمستشاري الرئيس قائلاً، “هذا رأس حربي نووي يستهدفني شخصياً!” (وندد مكتب نتانياهو بالرواية الأميركية لتلك المكالمة الهاتفية).

اقرأ أيضاً: وعد ترامب للعالم: حرب تجاريّة؟

في المقابل، اعتقد بعض أنصار نتانياهو أن رئيس الوزراء يشبه ريتشارد نيكسون، الذي أعطته مؤهلاته المناهضة للشيوعية القدرة السياسية على فتح الباب أمام العلاقات الديبلوماسية مع الصين. كما قال دنيس روس، مستشار شؤون الشرق الأوسط خلال فترة ولاية أوباما الأولى، لرئيس فريق الأمن القومي وأعضائه مراراً، إن هناك شخصيتين لنتانياهو، إحداهما “استراتيجية”، وهي كانت على استعداد لتقديم تنازلات، والأخرى “سياسية” سعت وراء مصالحه الانتخابية المباشرة. وكثيراً ما حكى روس أنه في أثناء لقاء في المكتب الأبيض، أوقفه أوباما بوضع كفه أمام وجهه: لقد سمع ما يكفي.

وبمرور الوقت، أصبح أوباما ومستشاروه يؤمنون بأن نتانياهو كان يتلاعب بهم، متظاهراً أحياناً باهتمامه بالحل القائم على وجود دولتين، بينما يوسع المستوطنات في الضفة الغربية، ما يجعل إنشاء دولة فلسطينية قابلة للبقاء أمراً يصعب تصوره. وبحلول ولاية أوباما الثانية، لم يعد معاونوه يتكبّدون عناء إخفاء خيبة أملهم إزاء الإسرائيليين. كما قال لي بنيامين رودس، أحد أقرب مستشاري السياسة الخارجية لأوباما: “لم يكونوا صادقين أبداً في التزامهم بعملية السلام، لقد استخدمونا كغطاء لجعل الأمر يبدو وكأنهم كانوا في عملية لحفظ السلام. كانوا يديرون مسرحية، ويقتلون الوقت، يماطلون حتى رحيل الإدارة”.

ازدادت العلاقة بين أوباما ونتانياهو اضطراباً عاماً بعد عام. وساورت فريق أوباما الشكوك في أن القيادة الإسرائيلية دعمت حملة ميت رومني الرئاسية، عام 2012. واشتدت حدة التوتر بين سوزان رايس مستشارة أوباما للأمن القومي ورون ديرمر لدرجة أنهما لم يلتقيا على انفراد اطلاقاً. وأصبحت الإدارة مقتنعة بأن نتانياهو، بعد سنوات من التهديد باستخدام القوة ضد إيران، كان مخادعاً، وأنه كان يحاول حقاً إقناع الأميركيين باتخاذ موقف أكثر تشدداً، وحتى شن هجمات خاصة بهم. ونُقِل عن أحد مستشاري أوباما قوله إن نتانياهو “جبان” ما أثار ضجة ديبلوماسية. لم يأسف كل من كان قريباً من أوباما لاستخدام تلك العبارة. وقال أحد كبار مساعدي الرئيس لآخر، “المشكلة الوحيدة في المقولة هي أنها لم تكن قوية بما فيه الكفاية. كان من المفترض أن تكون “وغداً وجباناً”. بحلول ربيع عام 2015، بعد أن ألقى نتانياهو خطبة مسرحية أمام الكونغرس لإدانة الصفقة النووية الإيرانية، قال رودس إن أوباما “كف رسمياً عن التظاهر”.

بدا أن عهداً قد شارف على الانتهاء. إذ أيقظت اتفاقيات أوسلو عام 1993 والمفاوضات التي تلتها آمالاً بين الفلسطينيين بأنهم سيحصلون على دولة تضم غزة والضفة الغربية تكون عاصمتها جزءاً من القدس الشرقية. ولكن بعد سنوات من بناء المستوطنات، وانتفاضة ثانية، وعدم الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة، وظهور الحكم الاستبدادي المطلق على كلا الجانبين، ترسخ الشعور بالريبة وعدم الثقة. على رغم أن نصف الإسرائيليين والفلسطينيين ما زالوا يريدون دولتين، إلا أن كلاً من الطرفين لا يصدق أن الآخر سيتحرك بحسن نية.

في أواخر ولاية أوباما الثانية، جلب وزير الخارجية جون كيري إلى البيت الأبيض مجموعة من خرائط الضفة الغربية التي أعدتها وزارة الخارجية وتحققت وكالات الاستخبارات الأميركية من صحتها، ثم نشرت على طاولة قهوة كبيرة. كما قال لي فرانك لوينشتاين أحد كبار مستشاري كيري، إن الخرائط بدت له مثل “غابة من الأشجار”. وعندما جمعت مناطق المستوطنات، والبؤر الاستيطانية غير القانونية، والمناطق الأخرى خارج المناطق العمرانية الفلسطينية، وجد أنها تغطي نحو ستين في المئة من الضفة الغربية. وأخبرني أحد المسؤولين الذين حضروا الجلسة إن “الأمر بدا مثل ورم في المخ، بغض النظر عن المصطلح الذي تصف به الأمر، سواء التكتلات القائمة أو المستوطنات الجديدة أو البؤر الاستيطانية غير القانونية، فأنت تواجه نهاية وفشل الحل القائم على دولتين”.

فقد محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية ثقته بأكملها في جهود الإدارة. “أنت تقول لي أن أنتظر، وتطلب مني الانتظار مراراً وتكراراً”، هذا ما ذكره مسؤول سابق في إشارة لما قاله عباس لكيري خلال حوار شديد التوتر. “لا يمكنك ضمان التزام الإسرائيليين”.

في أواخر سبتمبر/ أيلول 2016، سافر أوباما إلى إسرائيل لحضور جنازة شمعون بيريز رئيس الوزراء السابق الذي شارك جائزة نوبل للسلام عام 1994 مع ياسر عرفات وإسحاق رابين لدوره في اتفاقيات أوسلو. كانت علامات تحول المناخ السياسي واضحة جليّة. حضر عباس الجنازة، لكن لم يشد به أي من القادة الإسرائيليين في تصريحاتهم. بعد العزاء، اجتمع المفاوضون المخضرومون في شرفة بفندق الملك داوود (King David Hotel) في القدس لتناول وجبة غداء سريعة. قال مارتن إنديك المبعوث الأميركي السابق الخاص بالمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية للمجموعة، “هذه هي مراسم عملية أوسلو”.

علم أوباما والوفد الأميركي عندما عادوا إلى الولايات المتحدة، أن الحكومة الإسرائيلية صادقت على بناء مستوطنة جديدة في الضفة الغربية. وقال أحد كبار مستشاري أوباما: “تبدو هذه الخطوة وكأنهم يقولون بكل صراحة “تباً لكم”.

وهكذا وبخلاف المدافعين السذج الذين صرخوا “نحن نحبك يا سيدي الرئيس!” لأوباما في حفلة حانوكا بالبيت الأبيض اعتبر ديرمر انتخاب دونالد ترامب فرصة جيدة. ووعد فريق ترامب بانتهاج سياسة أكثر توافقية، في ما يخص اهتمامات إسرائيل. ذهب ديرمر إلى حفلة حانوكا أخرى في وقت لاحق من ذلك اليوم حيث لقي ترحيباً أكبر أسفل درب بنسلفانيا، في فندق ترامب إنترناشونال (Trump International Hotel). “رأينا الضوء في نهاية النفق”، هكذا أخبرني ديرمر.

كان الإسرائيليون خائفين من شيء واحد. لقد كانوا قلقين من أن تحاول الإدارة معاقبتهم في مجلس الأمن الدولي قبل أن يغادر أوباما منصبه. وقد أجرت وكالات الاستخبارات الإسرائيلية مناقشات حول قرارات مجلس الأمن المحتملة، بدءاً من إدانة بناء المستوطنات، وصولاً إلى إجراء من شأنه أن يضع ما يسمى معايير “الوضع النهائي” في إطار القانون الدولي، ما يثبت رؤية أوباما القائمة على حل الدولتين. ويقول المسؤولون الإسرائيليون إن تقارير الاستخبارات التي قدمت إلى نتانياهو أظهرت أن أوباما وفريقه كانوا ينظمون سراً قرارات الأمم المتحدة، وهي تهمة نفاها الأميركيون في وقت لاحق. وبعد فوز ترامب في الانتخابات، عبّر ديرمر عن قلقه حيال قرار محتمل من نائب الرئيس جو بايدن. وأخبر دينيس ماكدونو رئيس الأركان الخاص بأوباما قائلاً “لا تذهب إلى الأمم المتحدة. سوف تجبرنا على المواجهة. سوف تجبرنا على التواصل مع الجانب الآخر”. وكان “الجانب الآخر” في هذه الحالة هو الرئيس المنتخب. (رفض ماكدونو التعليق، لكن المسؤولين المقربين منه عارضوا رواية ديرمر).

هناك بالفعل علاقات ودية بين الإسرائيلين وعائلة ترامب، إذ تجمع نتانياهو وتشارلز كوشنر، والد زوج إيفانكا ترامب (جاريد كوشنر) صداقة طويلة الأمد. وأخيراً تبرع اليهود الأرثوذكس، الذين جمعوا ثرواتهم من خلال تجارتهم بمبالغ طائلة للشؤون الإسرائيلية والمؤسسات الخيرية في الضفة الغربية، كان من ضمنها عشرات الآلاف من الدولارات لمعهد يشيفا في مستوطنة أيل. عندما يزور نتانياهو عائلة كوشنر فى عقر دارهم في نيوجيرسي، فإنه أحياناً يقضي يوماً بليلته هناك وينام في غرفة النوم الخاصة بجاريد، الذي يهبط إلى الطابق السفلي متخلياً عن غرفته.

نشأت هذه العلاقة عندما اصطحب ديرمر، الذي ترعرع في عائلة سياسية علي سواحل ميامي، ثم انتقل إلى إسرائيل عام 1996، نتانياهو معه إلى برج ترامب في نيويورك، لمقابلة دونالد ترامب. ثم تقابل كلٌ من ديرمر وترامب مرةً أخرى عام 2014 فى تجمع على العشاء بمدرسة وارتون للأعمال Wharton school of business. ألقى ديرمر، الذي أصبح سفير إسرائيل في الولايات المتحدة العام الماضي، خطاباً أوضح فيه، أنه اختار وارتون بعد أن قرأ كتاب ترامب “فن عقد الصفقات”. حيث كتب ترامب “إذا كانت لديك رغبة في تأسيس شركة، فإن وارتون هى المكان الأنسب لذلك”. ولم يتوانَ ديرمر عن المجاملة إذ قال لترامب “سيد ترامب، أود حقاً أن أصبح متدرباً لديك”، مشيراً بذلك إلى برنامج تلفزيون الواقع الخاص بترامب. في مارس/ آذار ، قدّم غاري غينسبرغ، المسؤول التنفيذي في Time warner، والمسؤول عن المساعدة في كتابة الخطابات لنتانياهو، ديرمر إلى جاريد كوشنر. وظل ديرمر وكوشنر على اتصال خلال الحملة السياسية وكذلك خلال فترة انتقال السلطة.

ولكن الأمور لم تمضِ كما يجب، وتم دفع ضريبة تلك العلاقات خلال معركة الأمم المتحدة وما تلا ذلك. ففي أواخر ديسمبر، بدأت مصر نيابةً عن الفلسطينيين تقدم مشروع تسوية المستوطنات لأعضاء مجلس الأمن، ما سبب ضجة في مكتب رئيس الوزراء في القدس، وبعد التفاوض مع نتانياهو، اتصل ديرمر بكوشنر وأبلغه بأن إدارة أوباما كانت المسؤولة عن تلك الجهود في الولايات المتحدة. وطلب ديرمر من فريق الإدارة الإنتقالية المساعدة لتثبيط عمل الرئيس الحالي.

تلك كانت خطوة متهورة وبخاصة تجاه دولة موالية للولايات المتحدة. فعادةً ما يتبع الرئيس المنتخب مبدأ “لكل رئيس سياسته الخاصة”.

اعتبر معاونو أوباما أن مشروع المستوطنات المقدم من الأمم المتحدة رمزي بشكلٍ كبير، ولكن نتانياهو يتصرف وكأن إسرائيل في وضعٍ حرج. ويخشى نتانياهو من أن يفضى قريباً إلى مجلس الأمن بقرارٍ ثان يحدد معالم الدولة الفلسطينية. واكتشف الإسرائيليون أن بإمكانهم بسهولة إقناع المقربين من ترامب، حيث يُكره ترامب ومستشاروه أوباما، تماماً مثل نتانياهو. وعلى رغم عدم وجود خبرة حكومية أو ديبلوماسية لديهم، الإ أنهم يرغبون في إرضاء إخلاصهم القوي لإسرائيل وقاعدة الليكود. وقد أخبرني سياسيون إسرائيليون وأميركيون أن استخدام الحكومة الإسرائيلية قدراتها الاستخباراتية لمساندة الرئيس المنتخب ضد الرئيس الحالي، لا يُعد سابقة حديثة. الأكثر من ذلك، يبدو أن ترامب وفريقه يثقون في القائد الأجنبي وذكائه أكثر من ثقتهم في في رئيس الولايات المتحدة ووكالات الاستخبارات الأميركية.

تراجعت مصر عن دعمها للمشروع تحت ضغط من ترامب ونتانياهو، ولكن أربعة أعضاء آخرين في مجلس الأمن تمسكوا بالمشروع وقدموه للتصويت. طلب كوشنر من معاوني أوباما اعطاءه “تلميحاً مسبقاً” في حال وصل مشروع القرار إلى مرحلة التصويت، لهذا شعر كوشنر بأن فريق ترامب قد خدع عندما علم بقرب التصويت على المشروع. في الوقت الذي كان فيه أوباما يتخذ خطوته الأخيرة، قال كوشنر لمساعديه: “كانت لديهم فرصة، وأخفقوا فيها، فلماذا يصعبون علينا الخروج من المأزق”. واتصل كوشنر بمايكل فلين، الذي اختير لمنصب مستشار الأمن القومي، وكذلك بستيف بانو، المستشار الاستراتيجي لترامب. لدى بانون حماسة كبيرة تجاه ديرمر وأشار إليه بأنه “ساعدي الأيمن”. واتفق الاثنان على الضغط على أعضاء مجلس الأمن لإلغاء الاقتراع أو إبطال المشروع. وبعد أن أنهى فلين اتصاله مع كوشنر، أخبر المعاونين بأن هذه هي رغبة ترامب الأولى.

أثبت فريق الانتقال لترامب بكل أسى مدى عجزه عن تنفيذ هذه المهمة، وتدافعوا فقط من أجل تقديم أرقام هواتف السفراء ووزراء الخارجية، التي ربما يحتاجونها من أجل الضغط. وكان فلين يعرف أين يجد أحدهم وهو سيرغي كيسلياك، السفير الروسي.

كان كل من فلين وكيسلياك على اتصال دائم، حتى في فترة تسليم السلطة، وأصبح تواصلهم في الفترة الأخيرة يركّز على التحقيق في شأن التدخل الروسي في انتخابات عام 2016، والذي قام به روبرت موللر، المستشار القانوني المختص، هذا وقد جعل مكتب التحقيقات الفيدرالي مراقبة اتصالات كسيلياك روتيناً دائماً له، كمراقبة الجواسيس والديبلوماسيين. ومع ذلك لم يفد هذا الاتصال بشيء. فبدلاً من استخدام حق الفيتو، امتنع أوباما عن التصويت. ومُرر مشروع المستوطنات بدعم من السلطات الروسية، وهو قرار ثان لم يتحقق على أرض الواقع.

بعد أسابيع قليلة من تولي ترامب مقاليد الحكم، زار ديرمر وبعض المسؤولين الإسرائيليين البيت الأبيض لنقل المعلومات الاستخباراتية الإسرائيلية التي توثق دور مسؤولي إدارة أوباما المزعوم بشأن مشروع المستوطنات. كما زودت إسرائيل الأميركيين ببعض تقارير الاستخبارات السرية عن دور الولايات المتحدة، وذلك من خلال قنوات استخبارية سرية. (قال مسؤولون إسرائيليون إن فهمهم لأنشطة إدارة أوباما المزعومة، لم ينشأ من تجسس مباشر على الأميركيين. تتجسس الولايات المتحدة على إسرائيل، ولكن إسرائيل تزعم أنها لا تتجسس بدورها على الولايات المتحدة. يرفض المسؤولون في الولايات المتحدة هذه المزاعم، ويعتبرون إسرائيل واحدة من أكبر التهديدات الاستخباراتية على الولايات المتحدة).

قاد ترامب حملة الترشح للمنصب بوصفه معارضاً التدخل الأميركي في شؤون الدول الأخرى، رافعاً شعار أميركا أولاً. وأخبرني صديق مقرب لترامب “ليس لدى ترامب أدنى رغبة في التدخل في الشرق الأوسط بشكل عام وحتى من الناحية الفلسفية أيضاً”. ومن وجهة نظر ترامب “لم يكن هذا الشأن سوى مصدر إزعاج بالنسبة إليه. لطالما خاض أهل السنة والشيعة واليهود والفلسطينيون هذه الصراعات لألاف السنين، وأنا، دونالد ترامب، لن أستمر في تقديم الاستثمار الحالي المشين الذي يبلغ ما قيمته أكثر من تريليون دولار، في منطقة تفرّخ الإرهابيين ضد أميركا وتمولهم، بينما نعاني نحن من نقص استثمارات البنية التحتية في الوطن”.

وبما أن أوباما أصبح أخيراً خارج الصورة، يستطيع نتانياهو التركيز على إقناع فريق ترامب باتباع استراتيجيته الكبرى لتغيير مسار سياسات الشرق الأوسط. كان طموح نتانياهو يتمركز حول التقليل من شأن القضية الفلسطينية التي لطالما جذبت اهتمام العالم وكذلك تكوين تحالف مع المملكة العربية السعودية والإمارات لهزيمة إيران، التي لطالما كانت تدعم “حزب الله” في لبنان وحماس في غزة ولها أيضاً مصلحة استراتيجية في الحماقة الأميركية في العراق والحرب في سوريا.

لم يكن أوباما ساذجاً حيال سياسة إيران وسلوكها، ولكنه شعر بأن الاتفاق النووى سوف يحد من قوتها. وبدت محاولة الإطاحة بالنظام الإيراني بالنسبة إلى أوباما خطراً أشبه بالمغامرات السابقة في الشرق الأوسط، التي بدأت بأحلام الثورة الديموقراطية المدعومة بالقوة ثم انتهت بكابوس. ظل أوباما متحفظاً تجاه مساعي السعودية، والتي نادراً ما كانت نصيراً للديموقراطية وحقوق الإنسان، لتوريطه أكثر في نزاعات إقليمية.

لكن الإسرائيليين والخليج العربي وترامب اعتقدوا خلاف ذلك، واعتبروا إيران العدو الرئيسي في المنطقة وأن الاتفاق النووي ضعيف ويعزز من الطموحات التوسعية الإيرانية. وقبل التنصيب، خطا نتانياهو خطوة جريئة بإرساله يوسي كوهين، رئيس الموساد، وكالة الاستخبارات الإسرائيلية، إلى واشنطن بهدوء. حيث قام كوهين بتحذير فلين من التهديد الإيراني، محاولاً تأكيد أن لدى الحكومتين الغاية ذاتها تقريباً. (وقال بعض العالمين بشأن الأمور الاستخباراتية إن زيارة كوين تعتبر خرقاً للبروتوكول).

لم يلجأ ترامب إلى السلك الديبلوماسي الأميركي لاختيار فريق مستشاري السياسة الخارجية العامل لديه، وكان لدى نتانياهو كل الأسباب التي تدفعه للاعتقاد بأن رموز الإدارة الجديدة لديهم “ميل خاص” تجاه إسرائيل.

عين ترامب جاريد كوشنر لتولي مسؤولية سياسات الشرق الأوسط. واختير ديفيد فريدمان المحامي المختص في قضايا الإفلاس من لونغ آيلاند سفيراً لدى إسرائيل، والذي كان يتبنى وجهات النظر اليمنية حول الشرق الأوسط، كما ساهم بدعم الضفة الغربية بالأموال كما فعل كوشنر.

وسيكون جيسون غرينبلات كبير المبعوثين إلى المنطقة، وهو خريج جامعة يشيفا ويعمل محامياً في مؤسسة ترامب. يثق نتانياهو في أن ترامب يشاطره معارضة السياسات التي انتهجها أوباما في المنطقة ويلبي رغباته.

تحدث المسؤولون الإسرائيليون عن تمتعهم بنفوذ أكبر وحرية أوسع من أي وقت مضى، حتى قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض. وكان ديرمر قد خطط للعودة إلى إسرائيل عام 2017، لكنه وافق على البقاء في مكانه سفيراً لمساعدة نتانياهو على استغلال الأحداث.

في يوم التنصيب، نقلت حافلات وزارة الخارجية أعضاء السلك الديبلوماسي إلى مبنى الكابيتول “الكونغرس”. وكانت لدى السفراء الموجودين وجهات نظر مختلفة اختلافاً جذرياً عن فكر الإدارة الجديدة.

وكان جيرار أراود السفير الفرنسي، قد كتب بعد الانتخابات، “إن العالم ينهار أمام أعيننا. إنها الدوامة”. فوجئ الحاضرون بحضور كيسلياك. وقال له أحد السفراء الأوروبيين في الحفل، “أنت أهم سفير هنا اليوم!” ابتسم كيسلياك وألمح إلى رون دريمر قائلاً في الواقع، “إنه أهم سفير هنا اليوم”.
وكان من بين الحاضرين من منطقة الشرق الأوسط السفير الإماراتي يوسف العتيبة، حيث يتمتع العتيبة بعلاقات استثنائية مع الفريق الرئاسي الجديد.

وتعرف العتيبة علي كوشنر خلال الحملة التي قام بها توماس باراك، الملياردير الأميركي من أصول لبنانية والذي كان يجمع المال لصالح ترامب وكان صديقاً لوالد العتيبة. نما إلى علم باراك بأن كوشنر كان يعمل إلى جانب ديرمر، وكان يعتقد أن فريق ترامب في حاجة إلى سماع وجهة نظر الخليج العربي.

عادةً، ما يمتعض قادة الخليج من فكرة التواصل مع مسؤولين حكوميين إسرائيليين، ولكن محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، والسياسي الأهم لدى الإمارات، ورئيس عتيبة المباشر، كانت له وجهة نظر مختلفة. إذ يعتقد بن زايد، المعروف باسم M.B.Z، أن دول الخليج وإسرائيل يجمعهم عدو مشترك، ألا وهي إيران. مثل نتانياهو، يعتبر محمد بن زايد أن إيران تمثل التهديد الرئيسي لبلاده.

تعود العلاقة السرية بين إسرائيل والإمارات إلى سلسلة من الاجتماعات داخل أحد المنازل الآمنة في واشنطن العاصمة، بعد التوقيع على اتفاقيات أوسلو. أرادت الإمارات شراء طائرة مقاتلات F16متطورة من الولايات المتحدة، في وقت مبكر من ولاية بيل كلينتون الأولى، لكن كان المسؤولون الأميركيون والإماراتيون قلقين من اعتراض إسرائيل على الصفقة.

عندما سئل جيريمي إيساتشروف، وهو ديبلوماسي إسرائيلي يعمل في السفارة الأميركية في واشنطن، عما إذا كان لدى حكومته مشكلات مع تلك الصفقة المقترحة، كان رده مراوغاً، وفقاً لمسؤولين أميركيين سابقين، أخبر نظراءه الأميركيين أن الإسرائيليين أرادوا فرصة لمناقشة الأمر مباشرة مع الإماراتيين، لمعرفة كيف ينوون استخدام تلك الطائرات الأميركية.

وافقت ساندرا تشارلز، المسؤولة السابقة في إدارة جورج بوش الابن، التي كانت تقوم بأعمال استشارية في ذلك الوقت لمصلحة محمد بن زايد، على تقديم الطلب في شأن اجتماع محتمل مع الإسرائيليين. وكجزء من عملها مع الإمارات، قدمت شركة تشارلز المساعدة إلى جمال السويدي، وهو أكاديمي إماراتي، قام بإنشاء مركز أبحاث مدعوم من قبل الحكومة في أبو ظبي عام 1994، يطلق عليه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية.

تأسس المركز “للبحث العلمي والدراسات حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية”، ولكنه أصبح قناة اتصال مع إسرائيل. تعرفت تشارلز إلى إيساتشروف من الاجتماعات الأولية، والتي ناقشا فيها الديناميكيات السياسية لمنطقة الخليج.

كان السويدي يخطط بالفعل لزيارة واشنطن، ورتبت له تشارلز لقاء مع إيساتشروف في مكتب خاص. وقال مسؤول سابق، ” لقد تم كل هذا بشكل ودي، وغير رسمي”، إذ يمكن الإسرائيليين والإماراتيين أن يقولوا “إن هذا اللقاء لم يحدث أبداً”.

اقرأ أيضاً: انتصار كيم، لا انتصار ترامب

لم يكن لقاءً واحداً. لم تتوافق آراء المسؤولين الإسرائيليين والإماراتيين حول القضية الفلسطينية، لكنهم تبادلوا وجهات النظر حول التهديد الإيراني الناشئ، الذي أصبح أولوية كبرى للزعماء في كلا البلدين.

في وقتٍ لاحق، قال رئيس الوزراء اسحق رابين لإدارة كلينتون إنه لن يعترض على بيع طائرة F16.كما قال مسؤولون أميركيون سابقون أن القرار الإسرائيلي بنى جسراً من الثقة بين إسرائيل والولايات المتحدة.

أراد محمد بن زايد تحديث جيشه الصغير ليتمكن من الدفاع عن نفسه ضد إيران والتهديدات الأخرى. وخلال المفاوضات، علم أن طائرات F16ستحتوي على تكنولوجيا إسرائيلية. وكان بعض القادة العرب يرفضون مثل هذه الصفقة لذلك السبب. لكن محمد بن زايد لم يهتم. وقال مسؤول سابق في إدارة كلينتون شارك في المفاوضات “إن الإماراتيين أرادوا كل شيء كان لدى الإسرائيليين”.

بمباركة محمد بن زايد، ومنذ أكثر من عشرين عاماً، بدأ السويدي إحضار وفود من اليهود الأميركيين ذوي النفوذ إلى أبو ظبي للقاء مسؤولين إماراتيين. حضر أحد كبار القادة الإماراتيين إحدى أول الجلسات، وفقاً لمسؤول أميركي سابق، تذكر قول المسئول الإماراتي شيئاً صدم الزعماء اليهود في الغرفة، “أستطيع أن أتخيل أننا نقف في الخندق ذاته مع إسرائيل نقاتل ضد إيران”.

لقد افترضوا أنه كان يخبرهم بما يعتقد أنهم يريدون سماعه، لكن المسؤول الأميركي قال إنه في حالة القادة الإماراتيين أمثال محمد بن زايد يسري المثل القائل “عدو عدوي هو صديقي”.

قال مسؤولون أميركيون، “ظهرت علاقة لتبادل المعلومات الاستخبارية، منذ بدء تلك المقابلات”. أما بالنسبة إلى الإسرائيليين، فكان هذا استثماراً طويل الأمد. ويأملون بأن ينتهي الأمر بتطبيع العلاقات.

بعد فترة وجيزة من تنصيب أوباما عام 2009، ضمت الحكومتان الإسرائيلية والإماراتية قواتهما لأول مرة للضغط على الإدارة الجديدة لمواجهة التهديد الإيراني بجدية. وقد طلب العتيبة وسلاي مريدور، الذي كان يعمل آنذاك سفيراً إسرائيل لدى الولايات المتحدة، من دينيس روس، مستشار الشرق الأوسط في إدارة أوباما، أن يلتقي بهم في أحد فنادق جورج تاون، حيث قدموا عرضهم المشترك.

أثارت استعدادات أوباما للتحدث مع القيادة الإيرانية لإيجاد سبل لتخفيف حدة التوتر قلق المسؤولين في إسرائيل والإمارات. واعتقدوا أن تقديمهم المشترك للشكوى سيبعث برسالة أقوى مما لو أعربت كل حكومة عن قلقها بشكل مستقل.

وفقاً لمسؤول أميركي سابق، قد أظهر الاجتماع، “مستوى حقيقياً وعملياً من التعاون”، إذ فاقت النتائج مجرد تبادل المعلومات الاستخبارية. وقال مسؤول عربي كبير، “لقد تم التنسيق لجذب انتباههم. وإذا جلسنا معاً، وأخبرناهم بالمواضيع ذاتها، فسوف يأخذونها على محمل الجد”. فاجأ الجهد المشترك مستشاري أوباما، لكنه لم يردع الرئيس عن مواصلة المفاوضات مع طهران.

في شهر مايو/ أيار 2009، أثناء سلسلة من الاجتماعات في واشنطن، والتي سيطرت عليها الخلافات حول بناء المستوطنات، حاول نتانياهو إقناع أوباما وفريقه بالتركيز على تخفيف عزلة إسرائيل في المنطقة.

ووفقاً لمسؤول أميركي كبير كان حاضراً لذلك اللقاء، طلب نتانياهو من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون إقناع زعماء الخليج باللقاء معه علناً. إذا وافق العرب، أضاف المسؤول الأميركي “سيُظهر نتانياهو للشعب الإسرائيلي أنه قد تكون هناك منفعة لإسرائيل من تطبيع العلاقات”.

بعد أسابيع، سافر أوباما إلى الرياض للقاء الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، الذي اقترح عام 2002 اعترافاً عربياً واسعاً بإسرائيل مقابل الانسحاب من جميع الأراضي التي احتلت منذ عام 1967. واقترح أوباما تقديم عرض عبد الله، المعروف إعلامياً بمبادرة السلام العربية، والتي قد تنعش المحادثات بين الإسرائيليين والفلسطينيين والدول العربية، إذ لا يعترف بالدولة اليهودية من الدول العربية سوى دولتين هما، مصر والأردن.

وفقاً لمسؤول أميركي حضر الاجتماع، أنه عندما سأل أوباما الملك عبد الله عما إذا كان سيجتمع علنا مع نتانياهو، أجاب الملك بشكل قاطع، وقال “مستحيل”. قال عبد الله إن تجميد الاستيطان لن يكون كافياً. وكان في حاجة إلى اتفاق سلام نهائي. ثم فاجأ أوباما برده، “سنكون آخر من يصنع السلام معهم”.

أخبرني مايكل أورين، سفير إسرائيل في الولايات المتحدة من 2009 إلى 2013، في أحد المقاهي في تل أبيب بأنه قد واجه “ثلاثة أنواع” من السفراء العرب في واشنطن: “أولئك الذين يتناولون الغداء معي بشكل صريح، أولئك الذين تناولوا الغداء معي سراً، وأولئك الذين لن يتناولوا الغداء معي على الإطلاق”. تجنب عادل الجبير سفير المملكة العربية السعودية في الولايات المتحدة آنذاك مقابلة أورين، متماشياً مع الخط المتشدد الذي اتخذه الملك عبد الله. وقال أورين: “عندما كنت أرى الجبير في مناسبات في واشنطن، كان ينظر من خلالي، وكأنني مصنوع من الزجاج”.

أثناء الانتكاسة الموقتة في العلاقات السرية للمخابرات (الناتجة عن عملية الموساد في دبي عام 2010)، قدمت الإمارات العربية المتحدة اقتراحاً لإصلاح الأمور، تقوم فيه إسرائيل بتزويد القوات الإماراتية بطائرات حربية من دون طيار، ذلك وفقاً لمسؤولين أميركيين وعرب. لكنّ الإسرائيليين رفضوا الفكرة خوفاً من استعداء إدارة أوباما، التي رفضت بيع طائرات مسلحة من دون طيار إلى الإمارات.

حاول جون كيري، خليفة كلينتون في وزارة الخارجية، إعادة محادثات السلام بين إسرائيل والفلسطينين، ولكن عندما انهارت المفاوضات، عام 2014، طلب نتانياهو من إسحق مولهو، من أكثر المستشارين الذين يثق بهم، التركيز على تقوية الاتصالات السياسية مع الدول العربية. وأراد نتانياهو تحويل العلاقة مع الإمارات، والمملكة العربية السعودية إلى أقصى مدى ممكن بعيداً من القنوات السرية.

تُوفي الملك عبد الله في يناير/ كانون الثاني 2015 عن عمر يناهز تسعين عاماً، مفسحاً المجال لزعماء سعوديين آخرين، بمن فيهم محمد بن سلمان البالغ من العمر تسعة وعشرين عاماً، والذي أصبح لاحقاً ولياً للعهد. أو كما يعرف M.B.S، إذ يشارك محمد بن زايد وجهات النظر ذاتها عن إيران ونهجاً أقل إيديولوجية تجاه الدولة اليهودية. وفي لقاءات مع مسؤولين أميركيين في الرياض وواشنطن، علق M.B.Sبشكل دوري قائلاً إن “إسرائيل لم تهاجمنا أبداً” مضيفاً “ولدينا عدو مشترك”. وقال بشكل خاص إنه مستعد لإقامة علاقة كاملة مع إسرائيل. ومثل محمد بن زايد، في محادثات مع مسؤولين أميركيين ومجموعات يهودية أميركية، أعرب عن ازدرائه للقيادة الفلسطينية. هو أيضاً، بدا متحمساً لإنهاء الصراع، حتى عنى ذلك فرض شروط لا يقبلها الفلسطينيون.

وقد أطلع ديرمر عتيبة على موقف إسرائيل من الصفقة الإيرانية وحاول إقناعه بالانضمام إلى الإسرائيليين في معارضة أوباما بفعالية. وفي الوقت الذي شن فيه الإسرائيليون حملة عامة، أعرب الإماراتيون، الذين يفتقرون إلى النفوذ السياسي في الولايات المتحدة خارج واشنطن، عن مخاوفهم بصورة عامة في السر. في أوائل عام 2015، قبل نتانياهو دعوة من جون بوينر، رئيس مجلس النواب الجمهوري، وألقى خطاباً نارياً في جلسة مشتركة للكونغرس، قائلاً: “هذه صفقة سيئة صفقة سيئة للغاية”. وفشلت الخطبة في إقناع الكونغرس بعرقلة الاتفاق، لكن مسؤولاً إسرائيلياً كبيراً قال إنه أدى إلى زيادة الاتصالات الإسرائيلية الخليجية العربية.

لسنوات، كان المسؤولون الأميركيون متشككين في مزاعم إسرائيل حول قدرتها على توسيع العلاقات مع دول الخليج. ولكن في نهاية فترة ولاية أوباما الثانية، علمت وكالات الاستخبارات الأميركية بالمكالمات الهاتفية بين كبار المسؤولين الإماراتيين والإسرائيليين، بما في ذلك المكالمات بين زعيم إماراتي رفيع المستوى ونتانياهو. بعد ذلك التقطت وكالات الاستخبارات الأميركية اجتماعاً سرياً بين كبار المسؤولين الإماراتيين والإسرائيليين في قبرص. يشك المسؤولون الأميركيون في أن نتانياهو حضر الاجتماع، الذي ركز على مواجهة صفقة أوباما مع إيران. لم يطلع الإسرائيليون والإماراتيون إدارة أوباما على مناقشاتهم. قال لي مسؤول سابق في وزارة الخارجية: ” لم يخبرونا بالحقيقة”. “كما أُخفى الأمر عن الجمهور. يُخفي عن الولايات المتحدة، التي يفترض أنها الحليف الأقرب لكليهما”. ولم يؤكد ديرمر ولا عتيبة أن الاجتماع قد عقد.

أخبرني أورين قائلاً “إن أوباما ساهم في التقريب بين اليهود والعرب من خلال السلام، وأضاف. لقد نجح في جمعهم معاً في بوتقة عدائهم المشترك لسياسته تجاه إيران”.

بحلول عام 2015، لم يعد نتانياهو مهتماً بما يفكر به أوباما. كان عهد أوباما قد آل إلى النهاية، وإلى جانب محمد بن زايد. وضع نتانياهو نصب عينيه إقناع الرئيس الجديد بخلق ديناميكية جديدة تماماً في الشرق الأوسط. كان دونالد ترامب غير محنك بتعقيدات السياسة، الداخلية والخارجية، لكن الشخصيات جذبت انتباهه. لطالما أعجب بمهارات نتانياهو الخطابية وخيلائه، وإصراره على إظهار نفسه كممثل تاريخي عظيم، واستعداده لتحدي أوباما. في أوائل يناير/ كانون الثاني 2013، سأل جوني دانيالز، وهو رجل علاقات عامة إسرائيلي، ترامب إذا كان مهتماً بتسجيل رسالة فيديو تؤيد نتانياهو في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة. وافق ترامب، وسجل الفيديو في برج ترامب.

قال أمام الكامير، “اسمي دونالد ترامب وأنا من أشد المعجبين بإسرائيل”، وأضاف “وبصراحة، فإن رئيس وزراء قوي يعني إسرائيل قوية. ولديكم حقاً رئيس وزراء عظيم هو بنيامين نتانياهو. لا يوجد أحد مثله. إنه الفائز. إنه محترم للغاية. الجميع يُؤْمِن به. ويكن له الناس احتراماً كبيراً لما فعله في إسرائيل. لذا صوتوا لبنيامين. رجل رائع. زعيم رائع وعظيم لإسرائيل”.

تفاخر ترامب بعد ذلك بأن نتانياهو طلب مساعدته بشكل شخصي. “لقد دعيت من بنيامين وشعبه”، هكذا قال في مقابلة مع برنامج In the News: “وسألوني عما إذا كنت سأقوم بعمل إعلان أو بيان، وقلت بالتأكيد”. في الواقع، لم يطلب أحدٌ في القيادة الإسرائيلية مساعدة ترامب.

لم يأخذ الإسرائيليون ترشح ترامب في البداية على محمل الجد. على رغم الدور الذي لعبه جاريد كوشنر كوسيط، فإن علاقة ترامب مع نتانياهو خلال الحملة بدأت بداية صعبة. في مؤتمر حاشد في ماناساس بولاية فرجينيا، في 2 كانون الأول 2015، قال ترامب: “قريباً جداً سأذهب إلى إسرائيل وسأجتمع مع بيبي نتانياهو”. كان كوشنر يُرسي الأساس لحماه للسفر إلى إسرائيل لعقد اجتماع مع رئيس الوزراء، كان من المقرر مبدئياً أن يُعقد في وقتٍ لاحق من ذلك الشهر.

تعطلت الخطة بعد بضعة أيام، عندما طلب ترامب إيقاف دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة بشكل كامل. أعادت تعليقاته صدى لحظات حرجة عرفتها السياسة الإسرائيلية قبل تسعة أشهر، عندما حذر نتانياهو في الأيام الأخيرة من حملته الانتخابية، من أن الناخبين العرب يذهبون إلى صناديق الاقتراع على شكل جماعات. وقد تعرض نتانياهو لانتقادات حادة، لذلك أثار إعلان ترامب رد فعل سياسي عنيف داخل إسرائيل، وأصدر مكتب نتانياهو بياناً اكد فيه أن “رئيس الوزراء نتانياهو يرفض تصريحات دونالد ترامب الأخيرة المتعلقة بالمسلمين”. ووفقاً لما قاله أحد أصدقاء كوشنر، فإن ترامب استقبل الانتقادات الموجهة له “بشكل سيئ”. كتب ترامب على تويتر “بعدما أصبحت رئيساً للولايات المتحدة قررت تأجيل رحلتي إلى إسرائيل وتأجيل موعد لقائي مع نتانياهو لوقتٍ لاحق”.

بعد اتهامه بمحاولة مساعدة حملة رومني عام 2012، عرف نتانياهو وديرمر أنه يتعين عليهما التحرك بحذر في الانتخابات التي أجريت سنة 2016. وفي كانون الثاني عام 2016، زارت ميشيل فلورني التي كانت تعتبر المرشحة الأولى لقيادة البنتاغون في إدارة هيلاري كلينتون إسرائيل لحضور مؤتمر أمني سنوي، والتقت هناك مع موشيه يعلون وزير الدفاع في حكومة نتانياهو. وأخبرت فلورنوي يعلون بأن الدعم المزدوج من الحزبين للعلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل كان فى خطر “لقد تدخل نتانياهو في سياستنا بوقاحة وبات من الواضح أنه يفضل النظير الجمهوري” وذكرته قائلة “عندما تبدأ إدارة إسرائيلية في دعم حزب أميركي أو تفضيله على حزب آخر، فهي تلعب بالنار”.

اقرأ أيضاً: بسبب دعم ترامب، نتانياهو يشعر بأنه لا يُقهر…

كما وجه مشرعون ديمقراطيون وزعماء يهود أميركيون تحذيرات مماثلة. وقرر رئيس الوزراء عدم حضور مؤتمر الإيباك السنوي في واشنطن في شهر آذار، وبالتالي تجنب المواجهات المباشرة مع مختلف المرشحين. ولكن مع استمرار الحملة، تحدث ديرمر بانتظام مع كوشنر، ودُمجت بعض النقاط التي تناولها الحوار في خطاب ترامب السياسي الأول عن إسرائيل.

خلال ذلك الوقت، حاول ديبلوماسيون إسرائيليون آخرون تطوير علاقات ودية مع إدارة ترامب. وكانت إحدى هذه العلاقات تُبنى من خلال جورج بابادوبولوس، مستشار ترامب الشاب المقيم في لندن، والذي التقى دبلوماسيين إسرائيليين في مؤتمر متعلق بعمليات النفط والغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط. عندما انضم “بابادوبولوس” في آذار 2016 إلى حملة ترامب كمستشار السياسة الخارجية، شارك الخبر مع جهات إسرائيلية. اجتمع أحد الديبلوماسيين الإسرائيليين مع بابادوبولوس وبحث أولويات سياسة ترامب الخارجية، ثم نقلها إلى زملائه في القدس. وقد ساعد ديبلوماسي إسرائيلي بابادوبولوس على الاتصال بمسؤول في السفارة الأسترالية، حيث عقد اجتماع بين بابادوبولوس وألكسندر داونر، المفوض السامي الأسترالي في المملكة المتحدة. وأخبر بابادوبولوس داونر بأنه سمع أن موسكو لديها أدلة على كلينتون، وهي عبارة عن آلاف الرسائل الإلكترونية. واكتشف مكتب التحقيقات الفيدرالي في ما بعد المحادثة التي دارت بين داونر وبابادوبولوس، والتي أصبحت جزءاً من الأدلة المنطقية التي اعتمدتها وكالة “إف بي أي” لبدء تحقيق حول ما إذا كان ترامب أو شركاؤه قد تآمروا مع موسكو خلال حملة 2016.

سرعان ما علم المسؤولون الأميركيون بالنشاط بين إسرائيل وفريق ترامب. واعتبرت حكومات أخرى فوز كلينتون شيئاً مضموناً، لكن مسؤولاً أميركياً سابقاً أخبرني أن “الإسرائيليين لم يصدقوا هذا الأمر إطلاقاً. لقد كانوا يعملون لمصلحة ترامب بأقصى طاقتهم قبل أن ينخرط معهم أي شخصٍ آخر”.
وعرف الإسرائيليون فريق ترامب بشكل مفصل. في نهاية الحملة الانتخابية، كان الإسرائيليون بحسب ما ذكر المسؤول الأميركي السابق يعرفون مستشاري كوشنر وترامب في الشرق الأوسط معرفة دقيقة، حيث وقفوا على قضايا سياسية ومدى معرفتهم بها لا سيما القضية الفلسطينية. وقال المسؤول السابق أن الإسرائيليين “دبروا كل ذلك” وكانوا واثقين من أنهم قادرون على التقدم بأولوياتهم. إذ ركز نتانياهو على إلغاء الاتفاق النووي الإيراني وجعل الولايات المتحدة تتصادم مع طهران. وكانت أقل أمنيات نتانياهو تتمثل في نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وهو هاجس كان يراود ترامب ومعظم أنصار رئيس الوزراء اليمنيين.

في أواخر أيلول 2016، أي قبل سبعة أسابيع من الانتخابات، حضر نتانياهو الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة. واقترح كوشنر على ديرمر أن يلتقي نتانياهو بترامب أثناء زيارته، اعتقاداً منه بأن مثل هذا الحدث المرئي يساعد على تنشيط الناخبين المسيحيين الإنجيليين، ويجعل صهره يبدو “رئاسياً” أكثر. قال كوشنر لترامب مازحاً إنه يعتقد أن نتانياهو كان واحداً من السياسيين الذين كانوا يستطيعون تحديه في سباق من أجل ترشيح الحزب الجمهوري. كان نتانياهو معروفاً عند المسيحيين الإنجيليين. وقال ديرمر أن الاجتماع كان وسيلة مهمة لإقامة “علاقة شخصية قوية” بين القادة وتخفيف سوء الفهم السابق.

كان ترامب متردداً في البداية. أخبرني أحد مستشاريه السابقين “كلاهما يملك شخصية مسيطرة، يمتلك ترامب شخصية قوية وحضوراً مادياً هائلاً. ويتمتع بينيامين بحضور قيادي إلى جانب تمتعه بقوة فكرية هائلة تسمح له بالقيادة”. وأشار المستشار إلى أنه يعتقد أن ترامب ربما شعر بالخوف من الاجتماع بنتانياهو، مضيفاً “لم يكن يعرف ما إذا كان نتانياهو يحترمه أم لا”. وفي النهاية، وافق ترامب، واستغل نتانياهو وقته مع ترامب لخلق علاقة معه والضغط على أجندته الاستراتيجية.

قابل نتانياهو كلينتون أيضاً. لقد أراد دعم الرئيس المقبل لما اعتبره فرصة تاريخية لتشكيل تحالف ضد إيران. وقال أحد مساعدي كلينتون أن نتانياهو وضع الخطوط العريضة لخطة تدعو الدول العربية إلى اتخاذ خطوات للاعتراف بإسرائيل، مقابل تحسين حياة الفلسطينيين. وبدأت الدول العربية في وقتٍ لاحق بالضغط على الفلسطينيين لقبول الصفقة كاملةً مع الإسرائيليين صفقة تضمن فوائد قليلة للفلسطينيين، مقارنةً بما رفضوه في المفاوضات السابقة.

عرفت كلينتون أن الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية تعملان معاً وراء الكواليس مع الموساد لمواجهة النفوذ الإيراني. وأوضح نتانياهو لكلينتون أنه يريد دعم الرئيس المقبل لتقوية تلك العلاقات السرية ودفعها في نهاية المطاف إلى العلن. لقد تغيرت الديناميكيات الإقليمية منذ غادرت كلينتون وزارة الخارجية، لكنها عرفت أن نهج نتانياهو سيكون صعب التنفيذ أكثر مما جعله يبدو.

سلك نتانياهو وديرمر النهج ذاته في ما يتعلق بـ”الفرص الإقليمية” مع ترامب وكوشنر وبانون في شقة بنتهاوس في برج ترامب. كانت مهمة إقناعهم أسهل، على الأقل جزئياً لأنهم لم يتمتعوا بخبرة كبيرة في تاريخ المنطقة الطويل والمليء بالعذاب، ولم تكن عليهم صياغة استراتيجية مفصلة خاصة بهم. كان “بانون” متأثراً بفكرة التحالف بين إسرائيل ودول الخليج. وأخبرني مستشار سابق لدى ترامب أن ديرمر ونتانياهو “ظنّا أن هذا الأمر لم يكن مدروساً بالشكل الكافي وكان هذا واضحاً ومتوافقاً مع تفكيرنا”. وقد نسب المستشار النهج التي اعتمدته الإدارة الجديدة تجاه الشرق الأوسط إلى نتانياهو وديرمر “بدأت الفكرة في تلك الغرفة، في 25 أيلول 2016، في شقة ترامب”. شبه صديق ترامب أعضاء الفريق المرشح بالُسذج، “مقارنةً بإسرائيل، التي لديها طريقتها الخاصة في التعامل معنا”.

صمم محمد بن زايد آل نهيان على إنشاء علاقة مشابهة مع ترامب. في 15 كانون الأول 2016، بعد خمسة أسابيع من الانتخابات، إذ سافر إلى نيويورك لرؤية كوشنر وبانون وفلين. والتقوا في فندق الفور سيزون، بدلاً من برج ترامب، حيث يوجد دائماً صحافيون في الردهة. (سربت إدارة أوباما معلومات في شأن الزيارة عندما قدم مسؤولون إماراتيون بيان طيران ذُكر فيه اسم محمد بن زايد آل نهيان لموظفي الجمارك وحماية الحدود في أبو ظبي). أراد محمد بن زايد آل نهيان أن يعرف مستشارو ترامب أنه ونظيره في المملكة العربية السعودية محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود ملتزمان بالعمل مع الإدارة الجديدة لتقليص نفوذ إيران. أوضح المشاركون في الاجتماع أن رسالة آل نهيان التي تضمنت أن إيران كانت المشكلة، وليس إسرائيل تطابقت مع وجهة نظر نتانياهو. وفي وقتٍ لاحق، ووفقاً لما ذكره أشخاص مطلعون، فقد قال بانون لعتيبة إن هذا “كان واحداً من أكثر الاجتماعات المثيرة للدهشة التي حضرها على الإطلاق”.

في حين أوضح كل من محمد بن زايد ومحمد بن سلمان لمستشاري ترامب أن إيران تُمثل أولويتهما الأكثر إلحاحاً، قالا أن التقدم نحو إنهاء الصراع الفلسطيني يُعد أمراً ضرورياً بالنسبة إليهما، من أجل إقامة علاقة أكثر انفتاحاً مع إسرائيل. وبحلول شهر مايو/ أيار عام 2017، عندما التقى ترامب بالقادة العرب في الرياض، وافق كوشنر ومحمد بن سلمان على الخطوط العريضة لما سمّوه تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي. وستظل إسرائيل، في الوقت الراهن، “شريكاً صامتاً”. وقد وصف محمد بن سلمان الدور المنوط بكل جهة في هذا التحالف لزائر أميركي، قائلاً، ستلتزم الولايات المتحدة باتخاذ موقف أكثر تشدداً بشأن إيران، ومن الناحية الأخرى، وعدت الدول العربية الخليجية بالمساعدة في دفع الفلسطينيين إلى مواكبة البرنامج الجديد. وأضاف: “سنتم تلك الصفقة، سأتولى أمر الفلسطينيين وهو، يقصد ترامب، سيتولى أمر الإسرائيليين”.

لطالما كان محمد بن زايد ومحمد بن سلمان ونتانياهو على وفاق حينما يتعلق الأمر بروسيا، التي لا يمكن تجاهل توجودها في المنطقة. فقد سعى الإماراتيون والسعوديون في السنوات الأخيرة إلى جذب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعيداً من المحور الإيراني، وذلك من طريق استثمار مليارات الدولارات في الاقتصاد الروسي. وكان من أهم الأسباب وأخطرها، التي جعلت نتانياهو يتودد إلى بوتين، هو ضمان قدرة الجيش الإسرائيلي على التحليق في المجال الجوي السوري الذي يخضع جزئياً لسيطرة روسيا لتنفيذ عملياته من دون أن ينتهي به المطاف في صراع مع موسكو. أدرك نتانياهو أن بوتين قد يكون مفتاح الحل لإجبار إيران على سحب قواتها من سوريا في النهاية، وهو هدف يشاركه فيه ترامب وفريقه. في شتاء عام 2017، استجوب بانون في البيت الأبيض مسؤولاً في وزارة الخارجية عما قد يتطلبه الأمر لإقناع بوتين بكسر التحالف الروسي مع القيادة الإيرانية. وقال مستشار ترامب السابق أن الإدارة وأقرب حلفائها في الشرق الأوسط لم يرغبوا في دعم موسكو إيران في أي صراع مستقبلي، وقد حاول ترامب في البداية تخفيف حدة التوترات مع بوتين، إلا أن هذه الجهود لم تؤدِّ إلا إلى إثارة التساؤلات عن دوافعه، نظراً إلى تدخّل روسيا لمصلحته خلال حملة 2016. وشيئاً فشيئاً أجبر المشرعون الأميركيون والحلفاء الأوروبيون ترامب على اتخاذ موقف أكثر تشدداً.

كان محمد بن زايد، وهو من نواح كثيرة اللاعب العربي الأكثر محورية في هذه الدراما الاستراتيجية منذ زمن طويل، محاطاً بمجموعة غامضة من المستشارين يعملون بدوام جزئي، والوسطاء، والمقربين، الذين شاركه معظمهم كراهيته حكام إيران. انتشرت الأخبار في دائرة محمد بن زايد في أواخر عام 2016 وأوائل عام 2017، بشأن التحضير لحملة جديدة لمواجهة إيران. وكان بعض مستشاري ولي العهد حريصين على تقديم مشورتهم وخدماتهم. وقبيل تنصيب ترامب رئيساً، ساعد مستشار محمد بن زايد، رجل الأعمال جورج نادر في ترتيب اجتماع في منتجع ولي العهد في سيشل، بين إريك برينس مؤسس شركة بلاك ووتر وهو حليف لبانون وشقيق بيتسي ديفوس وزيرة التعليم، وكيريل ديمترييف الذي كان يدير صندوق الثروة السيادية الروسي والذي كان على مقربة من بوتين. وفي وقت لاحق، هيّأت الفوضى التي حدثت بالبيت الأبيض في عهد ترامب فرصاً لمحمد بن زايد وشركاء بانون لعرض أفكار لزيادة الضغط على طهران. جذب هذا التنافس على العقود والنفوذ والمكانة اهتمام روبرت مولر. ووفقاً لمسؤول أميركي سابق، قدم متعاقد مُحتمل مقرب من الإماراتيين والسعوديين والإسرائيليين، خطة لاستخدام الأسلحة الإلكترونية (السيبرانية) المزروعة داخل البنية التحتية الحيوية لإيران بما في ذلك سوق الأوراق المالية الخاصة بها لإثارة فوضى اقتصادية وبث خصومة سياسية. ولم يتضح بعد ما إذا كان ذلك المتعاقد يعمل بشكل حر أو يحاول الإشارة إلى الفكرة نيابة عن القادة الإماراتيين والسعوديين والإسرائيليين.

كما أراد نتانياهو أيضاً الاستفادة من حماسو الإدارة الجديدة لإنشاء تحالف استراتيجي في الشرق الأوسط ضد إيران. ولذلك ضغط المسؤولون الإسرائيليون على مستشاري ترامب لعقد “قمة” في البيت الأبيض يحضرها كل من نتانياهو ومحمد بن زايد ومحمد بن سلمان وغيرهم من القادة العرب. إلا أن الرد جاء سلبياً عندما طرح الأميركيون الفكرة على القيادتين السعودية والإماراتية، وفقاً لما قاله مسؤول عربي رفيع المستوى. تماماً مثلما علم أوباما وأول مبعوث له في الشرق الأوسط، جورج ميتشل عام 2009، ثم اكتشف جون كيري لاحقاً أنه لن يكون من السهل جعل قادة دول الخليج العربي يلتقون علانية مع نتانياهو، على رغم تقارب المصالح في السنوات الأخيرة. ومن ثم تراجع المسؤولون الإسرائيليون عن الفكرة، وأخبروا نظراءهم الأميركيين أن نتانياهو أدرك مخاوف كل من محمد بن زايد ومحمد بن سلمان. فقد مثل قادة الخليج أفضل آمال الإسرائيليين على مر الأجيال لضمان وتحقيق قبول في المنطقة. وكان آخر شيء أراده رئيس الوزراء هو أن تشعل مجرد صورة تذكارية ثورة شعبية ضدهم.

جاء باراك أوباما إلى السلطة على أمل بأن يحقق ما لم يستطع أسلافه تحقيقه: وهو عقد مصالحة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فبصفته سياسياً شاباً في شيكاغو، كان لديه الكثير من الأصدقاء والداعمين اليهود، وكان ائتلافه المحلي يعتمد في الجانب الجنوبي على الأميركيين الأفارقة إلى حد كبير، وعلى اليهود اليساريين المنحدرين من الشمال. بينما في داخل إسرائيل، فقد انجذب إلى ثقافة سياسية تمثلت في قرّاء صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية الليبراليين، الذين عاشوا في تل أبيب وحيفا، وصوتوا لحزب العمل أو حزب ميرتس، وأحبوا روايات ديفيد غروسمان وعاموس عوز. وقال أوباما في خطاب ألقاه أخيراً في معبد إيمانويل (Temple EmanuEl) في نيويورك، إنه كان “يهودياً ليبرالياً في الأساس”. وكمعظم الديموقراطيين، حصل بسهولة على الأصوات اليهودية في عاميّ 2008 و2012. لكن مؤيديه اليهود كانوا عموماً من الوسطيين والليبراليين، ولم تكن إسرائيل قضية رئيسية بالنسبة إلى كثيرين منهم.

أما مؤيدو ترامب من اليهود فكانوا أكثر تديناً واصطفافاً مع حزب الليكود (Likud)والأحزاب اليمينية المتحالفة معه. هؤلاء اليهود ليسوا سوى أقلية تشكل حوالى ستة ملايين نسمة يعيشون في الولايات المتحدة، لكنهم يميلون أكثر إلى التركيز على القضايا المتعلقة بإسرائيل، وعلى استعداد في بعض الأحيان، إلى إنفاق الكثير  من المال للتأثير في السياسة الأميركية. كما ركز مستشارو ترامب في بحثهم عن المدافعين البارزين على الملياردير شيلدون أديلسون الموالي لحزب الليكود، وقطب نوادي القمار في لاس فيغاس.

في كانون الأول 2015، ألقى ترامب كلمة في حدث برعاية الائتلاف اليهودي الجمهوري في العاصمة واشنطن. يساعد أديلسون في تمويل الائتلاف، ويمتلك صحيفة شعبية في إسرائيل تُدعى “إسرائيل هيوم” خدمت لفترة طويلة كمنصة موالية لنتانياهو. وهو يتبنى نظرة معادية على نحو خاص تجاه الفلسطينيين، كما يعتقد أن تأسيس دولة لهم سيكون بمثابة “نقطة انطلاق لتدمير إسرائيل والشعب اليهودي”. إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي بين عامي 2006 و2009، كان أحد أقدم المستهدفين من قبل “إسرائيل هيوم”. وقال لي أولمرت، إن أديلسون أراده أن “يتخلى” عن جهوده للتفاوض على اتفاق الدولتين مع الفلسطينيين. وبعد طرد أولمرت، حول أديلسون انتباهه إلى انتخاب نتانياهو. يقول أولمرت: “لم يعمل شيلدون لمصلحة بيبي، لقد عمل بيبي لمصلحة شيلدون”.

يؤثر أديلسون كثيراً على السياسة الانتخابية في الولايات المتحدة كما يفعل في إسرائيل، ولا يستطيع أي مرشح جمهوري أن يتجاهله بسهولة. اعتبر أديلسون أوباما عدواً لإسرائيل، وعام 2012، ساهم هو وزوجته، ميريام، بما لا يقل عن ثلاثة وتسعين مليون دولار لمجموعات تدعم مسؤولي الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، وقالت إسرائيل إنها علمت من القادة اليهود الأميركيين أن أديلسون تعهد بإنفاق “كل ما يلزم” لمنع أوباما من تأمين اتفاقية سلام أثناء تواجده في منصبه.

في الحدث الذي عُقد في واشنطن، رأى أنصار الحزب الجمهوري من حزب الليكود أن أداء ترامب مقلق. إذ هاجم ترامب جيب بوش في كلمته الافتتاحية قائلاً إنه “خاضع لسيطرة تامة” من قبل الداعمين الذين قدموا مبالغ كبيرة من المال لحملته. وأضاف: “إذا كنت تريد السيطرة على سياسيّك الخاص، فلا بأس بذلك، ولكنني لا أريد أموالك”. سأل ماثيو بروكس، المدير التنفيذي للائتلاف اليهودي الجمهوري، ترامب عن كيفية تعامله مع المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وذلك خلال جلسة أسئلة وأجوبة قصيرة. قدم ترامب نفسه كطرف محايد يهتم بحصول الإسرائيليين والفلسطينيين على ما يحتاجونه لإنهاء الصراع، وأضاف: “سيضطر الناس لتقديم التضحيات بطريقة أو بأخرى”.

ضغط بروكس على ترامب “هل يمكنني على الأقل إقناعك بأن تكون القدس عاصمة موحدة لإسرائيل؟ هل هذا موقف تدعمه؟” راوغه ترامب قائلاً: “أريد أن أنتظر حتى أقابل بيبي”.

اندلعت صيحات الاستنكار من الجمهور، ورد ترامب بعنف “من هو الرجل الحكيم؟ لا يمكنك العمل بهذه الطريقة، يجب أن تفهم الموضوع جيداً، ومن ثم تقوم به بشكل جيد حتى يكون الجميع سعداء. ولا تقلق بشأن هذا، فستكون سعيداً جداً”.

بعد أسبوعين، شارك ترامب في مناظرة أولية في فندق “فينيتيان” في لاس فيغاس، وهو جزء من إمبراطورية كازينوهات أديلسون. في بداية الحملة، اعتبر أديلسون أن ترامب ليس أكثر من مجرد ثرثار متبجح. التقى ترامب وأديلسون في لاس فيغاس، ثم مرة أخرى في نيويورك. واعتقد ترامب ومستشاروه أن أديلسون سيدعم ماركو روبيو، ولذلك كان هدفهم في اجتماع نيويورك هو تحذير أديلسون. قال مسؤول كبير في إدارة ترامب أن رسالة الحملة إلى أديلسون كانت بسيطة “سوف تهدر الكثير من المال إذا وقفت ضدنا، لن تساعد أحداً سوى الديموقراطيين”.

في شهر أيار عام 2016، وبعد أن أصبح جلياً أن ترامب سيفوز، قام أديلسون بتأييده، ولكنه أبلغ الحملة أنه يريد التزاماً بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. ناقش المفاوضون الفلسطينيون والإسرائيليون والأميركيون قيام دولة فلسطينية عاصمتها على الأقل جزء من القدس الشرقية لسنوات عدة، وأراد أديلسون رفع مسألة تقسيم العاصمة “من على الطاولة”. يقول أحد المقربين من ترامب: “هذه كانت القضية الوحيدة بالنسبة إليه، كان هذا حلمه”.

وبعد أسابيع قليلة من اتفاقيات الحزب في صيف عام 2016، تراجع ترامب في الانتخابات الوطنية، وكانت حملته قلقة من أن تسحب المؤسسة الجمهورية دعمها. وفي منتصف أغسطس/ آب، اجتمع أديلسون مع ترامب وكوشنر وبانون في نيويورك. سأل أديلسون مرة أخرى عن نقل السفارة. وقال بانون، وفقاً لشخص على علم بالاجتماع “علينا الفوز. إذا لم نفعل ذلك، فعلينا أن ننسى موضوع نقل السفارة”. وفي وقت لاحق، أخبر اديلسون شركاءه أنه تلقى وعداً بأن ترامب، سيعلن عن نقل السفارة في أول يوم له في منصبه إذا تم انتخابه. وبعد وقت قصير من الاجتماع، بدأ شيلدون ومريام أدلسون إصدار الشيكات لدعم حملة ترامب.

يرى أحد كبار مساعدي ترامب أن دعم أديلسون كان دليلاً على أن “الجزء الشرعي من المؤسسة الجمهورية كان قادماً وبقوة للوقوف خلف ترامب. وفي غضون عشرة أيام أو خمسة عشر يوماً، قمنا بتأمين القوة الجمهورية الشرعية اللازمة وأديلسون كان جزءاً أساسياً منها”.

بعد انتصار ترامب، بدأ بانون صياغة مشروع “اليوم الأول” وهو قائمة من الإجراءات التنفيذية التي كان ينوي ترامب اتخاذها بمجرد انتهاء مراسم أداء اليمين، وفي بداية القائمة كان هناك أمر تنفيذي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس.

زارت عائلة أديلسون برج ترامب، وتحدثوا عن النصر باعتباره “معجزة”. بكت مريام من فرط السعادة عندما ذكر ترامب كيف كان يتطلع إلى نقل السفارة. وقال أديلسون لترامب “مهما فعلت، بعد ألف سنة من الآن، ستخلد في الذاكرة بسبب هذا القرار”.

ولكن بعد أن قام جيمس ماتيس وريكس تيلرسون، المرشحان لمنصب وزير الدفاع ووزير الخارجية بتحذير ترامب، قرر ترامب تأجيل الخطوة. يقول شخص مقرب من ترامب إن التأخير باغت أديلسون، ومع مرور أسابيع من دون إعلان نقل السفارة، بدأ أديلسون يشكو وصرخ في مكالمة هاتفية أجراها مع أحد كبار مساعدي البيت الأبيض قائلاً ” أنتم تخدعونني!”. في نهاية المطاف، ضغط أديلسون وغيره على ترامب لوقف التأجيل، محذرين إياه بأنه يخاطر بخسارة دعم المسيحيين الإنجيليين.
“هاها، يجب أن ترى الرجل الآخر! أعني هل رأيت الرجل الآخر؟ إنه كبير جداً، ويحمي ظهري، وهزمني للتو في مشاجرة بالحانة”.

أظهر ترامب، على رغم الجدال حول توقيت نقل السفارة، كل العلامات التي تبين موالاته لحزب الليكود علاوةً على تأييد إسرائيل. أخبرني مسؤول إسرائيلي بأن نتانياهو يحظى الآن بالحرية لفعل ما يتمناه في ما يتعلق بالمسألة الفلسطينية. إذ تعتبر الآن الاستنكارات والدعوات لضبط النفس أثناء الأعمال العنيفة في الضفة الغربية وقطاع غزة، شيئاً من الماضي. هاتفَ ترامب نتانياهو بعد يومين من اليمين الدستورية. عندما رد رئيس الوزراء نتانياهو كان لا يستطيع إخفاء سعادته جراء تنصيب ترامب. قال لي أحد مساعديه “رأيت ذلك في حركاته”، وأضاف “كان كطفل تلقى أفضل هدية عيد ميلاد يمكن تخيلها”.

أخبر ترامب أصدقاء له بأنه كان مقتنعاً بأنه مناسب بشكل استثنائي للتوسط في الصفقة النهائية للأزمة الفلسطينية- الإسرائيلية. أعرب في محادثات خاصة دعمه الكامل لحل الدولتين. أكد علناً منذ توليه المنصب أنه سيدعم أي حل يستطيع الطرفان الاتفاق عليه. وقرر تعين جاريد كوشنر ليحل القضية الفلسطينية- الإسرائيلية من دون أن يسأله إذا ما كان يريد القيام بهذه المهمة. وأشار مسؤول كبير في إدارة ترامب إلى أن قرار ترامب منطقي، لأن زعماء الخليج العربي يديرون بلدانهم وكأنهم يديرون شؤون عائلية ومن الطبيعي أن يشعروا براحة أكبر عندما يتعاملون مع أحد أفراد عائلة ترامب.

حاول ترامب أن يلقب نفسه بالوسيط الصادق الذي يعمل من دون أي انحياز، ولكن مستشاريه كوشنر ودافيد فريدمان وجاسون غرينبلات كانوا منحازين جداً. قبل أن يتولى فريدمان منصبه، سفير أميركا في إسرائيل، أطلعه خبراء من وزارة الخارجية على الوضع الإنساني المتردي في قطاع غزة. قال فريدمان في نهاية الاجتماع طبقاً لما ذكره أحد الحاضرين “أنا لا أفهم. سكان قطاع غزة مصريون في الأساس. لماذا لا يعودون إلى مصر؟” شرح له أحد مقدمي الإحاطات (briefer) أن ثلثي سكان غزة كانوا لاجئين أو تعود أصولهم إلى أسر لاجئة، من المنطقة التي تدعى الآن إسرائيل. (رفض فريدمان أن يقول هذا). كتب فريدمان كذلك مقالة رأي وصف فيها “جي ستريت”، المنظمة الليبرالية الداعمة لإسرائيل بـ”أنها أسوأ من الموظفين اليهود الذين انقلبوا على رفاقهم في معسكرات الموت النازية”. وأضاف: “تدعم جي ستريت المتعجرفين الداعين إلى دمار إسرائيل بينما يجلسون على آرائكهم الأميركية المريحة والآمنة، من الصعب أن نتخيل شخصاً أسوأ منهم”. ووقع خمسة سفراء أميركيين سابقين في إسرائيل على خطاب يقول أن فريدمان ليس مؤهلاً لهذه الوظيفة. وكان نتانياهو مسروراً بتعيين فريدمان. وعلم أن إسرائيل لن تعامل بتعاطف أكبر مع أي أحد آخر: لدرجة أن كوشنر لم يكن ليطلب منه فعل أي شيء يعتقد أنه ليس في مصلحة نتانياهو. من ناحية أخرى، هل يستطيع نتانياهو أن يقول لا لترامب وكوشنر عندما يطالبونه بالتضحية من أجل الوصول إلى حل النهائي؟

أثرت الاضطرابات والفوضى العامة في البيت الأبيض أحياناً، في العلاقة بين الإدارة الأميركية والإسرائيلية. في 13 فبراير/ شباط 2017، اليوم الذي أبعد فيه مايكل فلين عن منصب مستشار الأمن القومي، ذهب رون ديرمر إلى البيت الأبيض محاولاً التمهيد لترامب ليوقع وثائق سرية، كما فعل الرؤساء الآخرون، اعتبرت الإدارة الإسرائيلية هذه الوثائق بمثابة التزام أميركي بعدم مطالبتها بالتخلي عن ترسانتها النووية غير المصرح بها. طلب أن يقابل فلين. أُخبر ديرمر من قبل المعاونين عدم استطاعته أن يقرر من سيقابل. (اتضح أن فلين كانت لديه أعمال عاجلة سيحضرها: كتابة خطاب استقالته). تأثر مسؤولو البيت الأبيض، بعد ذلك، عندما رأوا خطط ديمر الجائرة. قال أحدهم “هذا هو بيتنا اللعين! “. أخبرني مستشار سابق أن الشعور السائد في البيت الأبيض كان “هناك الكثير من النيات الحسنة من قبلكم، لكن لا تستغلونا”.

وفي مرحلة ما، أقسم كوشنر في مكتب رون ديرمر، الذي يشغل حالياً منصب السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة، وفي حضور شهود في مكتبه في الجناح الغربي، قائلاً إنه لن ينفذ مطالبه فقط بسبب خلفيته اليهودية. وقال لديرمر “لن تخبرنا كيف ندير هذه الأمور، لا تحاول السيطرة علينا. ولا تحاول الضغط علينا”. وعندما سُئل ديرمر عن هذه الواقعة، لفت إلى أنه لا يتذكر استخدام كوشنر هذه اللهجة، وأضاف “أنا وجاريد تجمعنا علاقة جيدة، لكننا لا نتفق دائماً على كل شيء”.

بعد أن قال أحد أقدم أصدقاء ترامب له إنه لا يعتقد أن نتانياهو يريد أن يعقد اتفاقاً، بدأ الرئيس يسأل عما إذا كان نتانياهو يتظاهر فقط بالالتزام، تماماً مثل ما توصل إليه أوباما ومستشاريه. أوضح مسؤولون أميركيون أن نتانياهو، بدوره، قلق من أن ترامب المشهور بأنه من الصعب التنبؤ بأفعاله، قد يفاجئه بمطالب. يتمتع ترامب بشعبية كبيرة في إسرائيل على عكس أوباما، ويعلم نتانياهو أنه سيكون من الصعب عليه الآن أن يرفض ما قد يقترحه البيت الأبيض.

يحظى كوشنر بصفته واحداً من كبار المستشارين البارزين بصلاحية للوصول إلى تقارير استخبارية حساسة، بما فيها تلك التقارير التي أعدتها وكالة الأمن القومي. وكان للكثير من الجهات التي شاركته في الحوار أهداف لوكالة الأمن القومي، وهذا ما مكنه وكذلك آخرين من أن يعرف رأيهم في الفريق الجديد للبيت الأبيض. يتحدث كوشنر ومسؤولو البيت الأبيض أحياناً عن الثرثرة، وعن الطريقة التي تحاول بها حكومات خارجية منها إسرائيل والإمارات والسعودية أن تتلاعب أو أن تستفيد من كوشنر. وفقاً لما قاله مسؤول سابق في البيت الأبيض “لقد قيل له إن هذا هو ما يحصل حوله”.

وقد أَطلع بيل بريستاب، المدير المساعد لوحدة مكافحة التجسس في مكتب التحقيقات الفيدرالي، كوشنر على الاستخبارات المضادة التي واجهها. فقد اعتقدت قوى خارجية كثيرة أن كوشنر سريع التأثر والإقناع، وبسبب أعمال عائلته التي لا تعد ولا تحصى حول العالم، أصبح معرضاً بشكل خاص لمواجهة المصالح المتضاربة. كما قال بريستاب أيضاً إن والد زوجته ترامب يُعتبر الهدف الأول لأجهزة الاستخبارات الأجنبية الرئيسية في العالم. وأضاف أن كوشنر على الأرجح يحتل المرتبة الخامسة على القائمة نفسها. وحذّر بريستاب كوشنر من دول وبخاصة إسرائيل، رد كوشنر بأنه لم يتفاجأ من هذا الأمر.

ولكي يستعد لدوره الجديد كديبلوماسي دولي وصانع للسلام، قرأ كوشنر اتفاقات السلام السابقة، بما فيها اتفاقيات أوسلو عام 1993، فقد كان يعتقد أنها مليئة بالمثل العليا على رغم قلة تفاصيلها. قال كوشنر لمساعديه إن الوثائق ذكرت “أقل ما يمكن” حتى “تخفض احتمالات الإساءة إلى أقل عدد ممكن من الناس”. كانت خطة كوشنر هي اقتراح صفقة مفصلة للغاية، ومن ثم الترويج لها.

كانت أكبر الاختلافات بين إدارتي أوباما وترامب حول سياسة الشرق الأوسط هي منهجيتهما تجاه المسألة الفلسطينية ومفهومهما عنها. أخبر كوشنر مساعديه أنه يعتقد أن أوباما “حاول النيل من إسرائيل وإعطاء الفلسطينيين كل شيء”. وكانت هذه وجهة النظر السائدة بين اليمينيين. وعلى النقيض من ذلك، أراد مستشارو ترامب أن يعتقد الفلسطينيون أن قيمة أسهمهم آخذة في الانخفاض، وهي استراتيجية ينادي بها كل من نتانياهو وديرمر. الهدف هو إقناع القيادة الفلسطينية بقبول اقتراحات أكثر “واقعية” مما قدمها لهم رئيس الوزراء السابق إيهود باراك عام 2000، وإيهود أولمرت عام 2008. ناهيك بذلك، فمن وجهة النظر الفلسطينية، لم يتضمن مفهوم الدولة في اتفاقية أوسلو سوى جزء من أراضي فلسطين التاريخية. استخدم أحد كبار المسؤولين في إدارة ترامب أسعار الأسهم كمثال: “كما هو الحال في الحياة، أتمنى لو كنت اشتريت شركة غوغل منذ عشرين عاماً. فأنا لا أستطيع ذلك الآن، لأنه علي أن أدفع كل هذا المبلغ من المال. هذا لا يعني أنني أُعاقب، بل إنني لم أغتنم الفرصة”. شبه ديفيد فريدمان نهج إدارة ترامب بخلق “صفقة تصفية” للفلسطينيين. وفي الواقع، أمضى فريدمان معظم حياته المهنية في عقد مثل هذه الصفقات لمصلحة ترامب مع عملاء آخرين.

يقول مسؤولو الاستخبارات الإسرائيلية أن الزعيم الفلسطيني محمود عباس يشعر بالعزلة الآن أكثر من أي وقت مضى. في الماضي، كان الدعم من الدول العربية يمنح للفلسطينيين الثقة لمقاومة الضغط الأميركي والإسرائيلي لتخفيض مطالبهم. كان هذا الدعم دائماً مشروطاً، لكنه الآن محفوف بالمخاطر. لقد قللت الإدارات الأميركية المتعاقبة من تقدير إرادة عباس في مواجهة الضغوط الخارجية، وعلى حد قول أحد أصدقاء عباس فإنه يفضل الموت عن الاستسلام.

وصف أوباما ذات مرة مبدأه تجاه السياسة الخارجية بأنه “الابتعاد من القيام بأشياء غبية”. في المقابل، يعتمد ترامب على القيام بمغامرات كبرى في السياسات الخارجية، كما يفعل مع كوريا الشمالية وإيران والشرق الأوسط وأوروبا والمكسيك. يبدو أنه يفتخر بمفاجأة خصومه من خلال سلوكه المتقلب وخطاباته الرنانة مثل ريتشارد نيكسون. ويبدو أن فريق ترامب غير منزعج من شعور التهميش لدى الفلسطينيين.

قال لي مسؤول كبير في إدارة ترامب: “لقد كان قراراً استراتيجياً مهماً أن يقوم الرئيس بذلك في عامه الأول”. ويعتقد هو ومسؤولون آخرون أنه إذا قام الفلسطينيون باستعداء ترامب الآن، فإنهم “يخاطرون بثلاث إلى سبع سنوات من العلاقات السيئة مع مانح مهم للمساعدات”. إذ يعيش مليونا شخص من سكان غزة في ظروف قاتمة بشكل خاص، ويعتمد ثلثاهم على المساعدات الإنسانية وغيرها من الخدمات التي تقدمها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا).

وفي محاولة واضحة لزيادة الضغط على عباس، جمد ترامب الدعم المالي الأميركي للوكالة في وقت سابق من هذا العام. وحذر مسؤولو الأمم المتحدة مراراً من أنه قد يجبروا على إغلاق مدارس الإقليم أو حتى الحد من المساعدات الغذائية. ولكن يبدو أن كوشنر استنتج أنها مبالغة من قبل المنظمة. كتب كوشنر في رسالة إلكترونية حديثة إلى غرينبلات وفريدمان ومسؤولين آخرين: “ظلت الأونروا تهددنا لمدة 6 أشهر بأنهم إذا لم يحصلوا على شيك فإنهم سيغلقون المدارس، ولم يحدث شيء”.

وفي الرسالة ذاتها، يتباهى كوشنر قائلاً: “لقد قمنا ببعض التحركات الكبيرة والجميع في المنطقة متحفزون، وهكذا يجب أن يكونوا، من أجل التغيير الحقيقي. لا يمكن أن يكون هدفنا الحفاظ على استقرار الأمور كما هي، يجب أن يكون هدفنا جعل الأشياء أفضل بكثير! علينا في بعض الأحيان أن نخاطر استراتيجياً بتحطيم بعض الأشياء للوصول إلى ما نريد”.

كانت القيادة الفلسطينية تعاني منذ فترة طويلة قبل وصول ترامب إلى السلطة. أدرك الفلسطينيون أنهم لم يعودوا مركز اهتمام العالم، فقد كانوا منقسمين ومرهقين، إضافة إلى انعدام ثقتهم في حكومة نتانياهو. سافر صائب عريقات، وهو مفاوض فلسطيني كان قد عمل على اتفاقات أوسلو، إلى واشنطن خلال الفترة الانتقالية لعقد اجتماعات مع أعضاء الإدارة السابقة. سألته سوزان رايس إذا كانت لديه صلات مع فريق ترامب الانتقالي، ورد عريقات بالنفي. سألته رايس “أنت هنا ولن تقابل أي منهم؟” فرد عليها قائلاً: “لا أعرف أي منهم أو كيف أتصل بأي منهم، ولا أعرف ما إذا كانوا يريدون التواصل معي”. وقبل أن يغادر عريقات البيت الأبيض للمرة الأخيرة تحت إدارة أوباما، قالت له رايس: “سوف تفتقدنا”.

كان رونالد لودر أحد القلائل في دائرة ترامب الذين نادوا بالانخراط بجدية مع الفلسطينيين. التقى ترامب بعد تنصيبه مع لودر، وهو رجل أعمال ثري ورئيس المؤتمر اليهودي العالمي، وأخبره أنه يريد الاتصال بأبو مازن لمعرفة ما إذا كان يرغب في التوصل إلى اتفاق. قال لودر لترامب: “أعتقد أنه سيكون شخصاً يمكنك العمل معه”.

اتصل أوباما بعباس على الفور تقريباً بعد أدائه اليمين، أما ترامب فقد انتظر قرابة شهرين. وفي 10 آذار 2017، وضع أحد المشغلين في البيت الأبيض عباس على الخط مع الرئيس.

وصل ترامب بسرعة إلى صلب الموضوع، وسأل عباس “ما رأيك؟ هل يمكننا القيام بصفقة سلام؟” عباس لم يجب على سؤال ترامب مباشرةً، وأشاد أولاً “بالنتائج الديموقراطية العظيمة” للانتخابات الأميركية.

قاطعه ترامب قائلاً “حسنا”، وأخبره أن اتصال الهاتف غير واضح، وكرر: “نحن نتحدث عن اتفاق سلام تاريخي، ما رأيك؟”

رد عباس: “نعتقد أنه من خلال المفاوضات يمكننا تحقيق السلام مع الإسرائيليين”، مضيفاً أنه “مستعد للتحدث مع نتانياهو من أجل بدء المفاوضات”.

قال ترامب: “أوه، هذا جيد جداً”.

ثم فاجأ ترامب عباس ومستشاريه المقربين حين سأله “هل تعتقد أن بيبي يريد عقد اتفاقية ؟ ما رأيك ” ؟ باغت السؤال عباس، فلم يسأله رئيس أميركي من قبل عن تقييمه لنيات رئيس وزراء إسرائيلي. كرر ترامب السؤال. أجابه عباس بحذر: “إنه رئيس وزراء إسرائيل. إننا لا نملك خياراً آخر”. وافقه ترامب قائلاً “إنكم لا تملكون خياراً”.
ثم أخبر ترامب عباس بأن هناك فرصة لتوقيع اتفاقية “بفضلي”. واصفاً نفسه بالطرف المحايد، وعد ترامب “بأنه سيبذل قصارى جهده في هذا الأمر”، وتنبأ قائلاً:”سوف يتم هذا الأمر”. بدا عباس متأثراً بقدرة ترامب التسويقية، أو أنه قد قرر على الأقل أن هذا يبدو مشجعاً بشكل مثالي. وقال عباس “إننا نعتمد عليك يا سيدي الرئيس”، واستأنف قائلاً: “إننا نعتقد أنك تستطيع فعل هذا الأمر”.

كان التحدي التالي الذي يواجه عباس هو لقاء ترامب في المكتب البيضاوي في الثالث من أيار عام 2017. اتخذ اللقاء منحىً مثيراً للنزاع عندما سأل ترامب عن ممارسات السلطة الفلسطينية في ما يتعلق بتقديم الأموال لأسر السجناء في السجون الإسرائيلية وأسر الإرهابيين. وفقاً لما قاله عريقات، فقد أخبر عباس الأميركيين أن الفلسطينيين قد انهمكوا في صراع طويل مع إسرائيل، و”إننا نتولى رعاية أسر الشهداء”. بعد اللقاء، دعا ترامب عباس للغداء، ولكن بانون رفض الحضور. وقد أخبرني أنه لم يرغب في “تناول الطعام مع شخص يده ملوثة بدماء يهودية بريئة”.

وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، زار ترامب نتانياهو في القدس بعد إنهائه رحلته إلى الرياض. وهناك، أطلعه رئيس الوزراء على مقطع فيديو يتضمن مقتطفات من خطب لعباس يحرض فيها على العنف، وفقاً لترجمة الحكومة الإسرائيلية لها. بعد ذلك بوقت قليل، سافر ترامب إلى بيت لحم وواجه عباس بمقطع الفيديو، ورأى مسؤولون في الولايات المتحدة أن هذا يوحي بأنه كان يحاول خداع الإدارة الجديدة بالاعتقاد بكونه ملتزماً بالسلام. اتهم الفلسطينيون نتانياهو بعرقلة عملية السلام، بحثه ترامب على تغيير الموضوع. أخبرني عريقات لاحقاً أن نتانياهو كان يستخدم “كل حيلة ممكنة” لإقناع ترامب بأن عباس غير جدير بالثقة.
كانت لقاءات كوشنر مع عريقات تميل للعدائية بشكل خاص. ففي أحد هذه اللقاءات، شكا عريقات من أن الفلسطينيين يعانون من مشكلات في تنظيم الاجتماعات مع الإسرائيليين. فأوضح كوشنر قائلاً “لقد أخبرناهم ألا يلتقوا بكم الآن”. قال عريقات أن هذا غير مفيد على الإطلاق “من الأفضل بكثير بالنسبة إلينا أن نلتقي بالإسرائيليين… إنكم لن تصنعوا السلام بالنيابة عنا”.

أصر كوشنر على رأيه. وقال “تعتقد فجأة أنكم ستلتقون في منزلك، وتشربون الشاي، وستكونون قادرين على الاتفاق على شيء لم تتمكنوا من الاتفاق عليه لمدة خمسة وعشرين عاماً؟” لقد شعر بأن الفلسطينيين كانوا يعطوه “درساً تاريخياً في كل قضية. على حد قوله “كل هذا في الماضي. أروني ما تعتقدون أنه نتيجة يمكنكم العيش معها”. كان عريقات غاضباً ووصف معاملة فريق ترامب له بأنها “إذا لم أحصل على 30 سنتاً على الدولار الآن، فسوف أحصل على خمسة عشر سنتاً في العام المقبل”.

وفي إحدى المبادلات، أخبر عريقات كوشنر أنه شعر بأنه يتعامل مع “وكلاء عقارات” بدلاً من مسؤولي البيت الأبيض. ورد كوشنر قائلاً: “صائب، أنت لم تعقد صلحاً مع السياسيين. ربما تحتاج إلى وكيل عقاري”.

عقد عريقات اجتماعاً آخر مثيراً للجدل مع كوشنر في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، حذر فيه من أنه إذا اعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل “ستستبعدون أنفسكم من لعب أي دور في عملية السلام”، فأجاب كوشنر، “نحن أمة ذات سيادة… لا تهددنا”. قال عريقات إنه ببساطة كان يقول له “إنك تدمر حل الدولتين”.

وكان آخر اتصال هاتفي بين ترامب وعباس قبيل إعلان قراره بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. بقي الاتصال الهاتفي مع عباس منقطعاً، ما أثار غضب ترامب، الذي كان يعلم أن عباس سيشعر بالضيق عندما يسمع ما كان عليه قوله. أخيراً، أخبر عامل الهاتف ترامب أن عباس كان على الخط. أخبر ترامب عباس بأنه كان يحافظ على وعد حملته بنقل السفارة. ثم بدأ ترامب حديثاً فردياً مرتجلاً. وصف أحد المساعدين السابقين ذلك بأنه “صادر من القلب”. أكد ترامب لعباس أنه ملتزم بالحصول على أفضل صفقة ممكنة للفلسطينيين وأن إسرائيل ستقدم تنازلات حقيقية والتي سيكون سعيداً بها إذا ما استمر في المشاركة. وأضاف أن عباس سيحصل على صفقة “أفضل” تحت إدارته بالمقارنة بقيادة أوباما، وهو ما كرره أكثر من مرة. أنهى ترامب حديثه بعد نحو 15 دقيقة، ثم توقف للسماح لعباس بالرد. كل ما سمعه كان صمتاً. سأل ترامب، وهو غاضب، عامل الهاتف عما يحصل. فأخبره عامل الهاتف أن الاتصال مع عباس قد انقطع. سأل ترامب، كم من الوقت استغرق عباس على المكالمة؟ قال المشغل إنه لا يعرف، وسأله ما إذا كان يريده أن يحاول الاتصال مرة أخرى. وقال ترامب إنه قد يحاول لاحقاً.

في السادس من كانون الأول، أعلن ترامب قراره بنقل السفارة. وقال “بينما جعل الرؤساء السابقون هذا وعداً كبيراً في حملتهم، لكنهم فشلوا في تحقيقه”. مضيفاً “اليوم، أوفي بوعدي وأنفذه”. انسحب عباس سريعاً من المحادثات. وكان رد الفعل الشعبي من العواصم العربية معتدلاً بشكل ملحوظ. ومع ذلك، أخبر قادة دول الخليج العربية كوشنر بشكل خاص أن القرار جاء بنتائج عكسية. وقال مسؤول عربي كبير إنه قبل قرار القدس أبلغ الزعماء العرب كوشنر أنهم على استعداد للضغط على عباس لقبول ما يعرضه ترامب على الفلسطينيين. ولكن بعد القرار، أخبروه أنهم لن يكونوا قادرين على الضغط على عباس لقبول الخطة الأميركية، نظراً للمعارضة الشعبية.

بشكل ملحوظ، التقى محمد بن سلمان بالمنظمات اليهودية الأميركية في نيويورك في آذار وانتقد عباس لرفضه عروض السلام. وقال: “في العقود الماضية أضاعت القيادة الفلسطينية فرصة تلو الأخرى ورفضت جميع مقترحات السلام التي قُدمت لها. لقد حان الوقت أن يقبل الفلسطينيون المقترحات ويوافقوا على القدوم إلى طاولة المفاوضات أو يصمتوا ويتوقفوا عن الشكوى”.

وصل ترامب سراً إلى عباس مرة أخرى على الأقل. في 17 كانون الثاني، نشرت صحيفة “نيويورك بوست” عموداً بقلم مايكل غودوين، وهو من حزب ترامب، بعنوان “اكشف كراهية عباس لليهود”. ووصف العمود خطاباً أدلى فيه عباس بتصريحات تحط من التاريخ اليهودي. وعرض صورة لعباس يلوح بقبضتين مضمومتين. على نسخة من المقال، كتب ترامب مذكرة بخط كبير أسود، “محمود، واو، هذه هي حقيقتك؟” ووقعها، “أطيب التمنيات، دونالد ترامب”. قال بعض مساعديه إنه سيكون من غير الديبلوماسي إرسال الرسالة. أحب كوشنر ذلك. وقال لمرافقيه “هذا هو الرئيس يؤدي دور الرئيس”. أرسل البيت الأبيض رسالة ترامب إلى دونالد بلوم، القنصل العام في القدس، الذي سلمها إلى عباس في مقره في رام الله. أخبر كوشنر مساعديه بأن ترامب كان يتحدى عباس، قائلاً، “في الواقع، أريد أن أعرف، هل أنت قائد عظيم أم أنك إرهابي؟ أظهر لي. إنه اختيارك”.

” أيها الحاسوب، اطلب لي قميصين من القطن ذوي أكمام طويلة بـاللونين النبيذي الغامق والأخضر الفاتح”.

عندما تلقى عباس ومساعدوه الرسالة، ضحكوا وفسروا الأمر بتفاؤل بقدر ما استطاعوا. كان عمود غودوين معادياً لعباس، لكن استخدام ترامب اسم عباس الأول وعبارة “أطيب التمنيات”، بحسب عريقات، أشارت إلى أن ترامب كان يحاول جذب عباس إلى حديث. طلب عباس من عريقات أن يخبر بلوم بنقل رده الرسمي على رسالة ترامب: “لا، هذه ليست حقيقتي”.

لكن عباس لم يصنع معروفاً لنفسه عندما أعلن، في اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني في أواخر أبريل/ نيسان، في رام الله، أن اليهود الأشكناز لم يأتوا من الأراضي المقدسة التوراتية بل من الإمبراطورية التركية الخازارية، وأن المذبحة النازية لأوروبا لم تكن نتيجة لمعاداة السامية بل لأنشطتهم المالية “الربا والمصارف وهكذا”. انتقد نتانياهو عباس، مغرداً بأنه مذنب بتكرار “أكثر الإشاعات الكاذبة الجديرة بالازدراء المعادية للسامية”. ووافق جايسون غرينبلات، مبعوث الشرق الأوسط، قائلاً “لا يمكن بناء السلام على هذا النوع من الأساس”.

عام 1993، وهو عام اتفاقية أوسلو، نشر شيمون بيريز كتاباً بعنوان “الشرق الأوسط الجديد”. وقد كتبه بيريز في لحظة من التفاؤل الشديد، إذ توقع منطقة تتخطى صراعاتها المستعصية وتؤسس نوعاً من المجتمع الأوروبي في الصحراء. كان هذا قبل تعمق الحروب في العراق وسوريا واليمن، وقبل انهيار المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية، وقبل فشل الربيع العربي، وقبل الصراع بين السنة والشيعة، وبين دول الخليج وإيران.

كانت لدى الحكومة الإسرائيلية، وأنصارها الأكثر حماسة في الولايات المتحدة، توقعات بأن دونالد ترامب سيجلب شرق أوسط جديداً. وبعد أقل من شهر من تنصيبه، التقى ترامب ببنيامين نتانياهو في المكتب البيضاوي للمرة الأولى. وبعد الاجتماع، أصدر الرجلان بياناً مشتركاً “اتفقا فيه على أنه لن يكون هناك اختلاف أو مسافة بين الولايات المتحدة وإسرائيل” و”أعادا تأكيد العلاقة الخاصة” بين الحليفين. ودعيا في ما بعد إلى تشكيل مجموعات عمل مشتركة لتوسيع نطاق التعاون الأمني. أراد معظم مستشاري ترامب المناهضين لإيران في مجلس الأمن القومي أن تساعد هذه المجموعات العاملة إسرائيل في الاستعداد لصراعات مستقبلية مع وكلاء إيرانيين في لبنان وسوريا. لكن الجهود التي بذلها أولئك الذين أرادوا فعل المزيد لتمكين إسرائيل من مواجهة إيران، واجهت مقاومة من عناصر أكثر حذراً داخل المؤسسة الأمنية القومية الأميركية، ممن كانوا يخشون من أن تبدأ إسرائيل مواجهة عسكرية، وتتوقع إنهاء المهمة من جانب الولايات المتحدة.

في صراع السلطة الذي تلا ذلك، اتهم المناهضون لإيران في البيت الأبيض منافسيهم الداخليين بأنهم أكثر ولاءً لأجندة أوباما، وأيدهم في ذلك حلفاؤهم في وسائل الإعلام اليمينية. وبحلول صيف عام 2017، وضعوا نصب أعينهم مستشار الأمن القومي، الجنرال هربرت ماكماستر، وأظهروه كعدو لإسرائيل. ثم في شهر آذار، تم استبدال جون بولتون بمكماستر، واتخذ بولتون موقفاً أكثر تشدداً ضد الفلسطينيين، كما أنه دعا دائماً إلى تغيير النظام في إيران. وأشار شاؤول موفاز، وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، إلى أن بولتون “حاول إقناعي بأن إسرائيل بحاجة إلى مهاجمة إيران” عندما كان بولتون سفيراً في الأمم المتحدة.

كُشفت ملامح إستراتيجية الشرق الأوسط الجديدة الأكثر صرامة وتشدداً في أيار، مع نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس وقرار إدارة ترامب بالانسحاب من الاتفاقية النووية الإيرانية. اختارت الإدارة طريقة المقامرة في كلتا الحالتين، على رغم التحذيرات المتكررة في شأن خطر الاضطرابات والتدابير المضادة الخطيرة من جانب إيران.

مع بدء احتفال 14 أيار في القدس بمناسبة تأسيس السفارة الأميركية الجديدة، أطلق الجنود الإسرائيليون النار على الفلسطينيين الذين تجمعوا حول السياج الأمني المحيط بقطاع غزة احتجاجاً على الاحتلال، وقتل في ذلك اليوم حوالى 60 فلسطينياً.

سمع كوشنر الخبر عندما كان في طريقه إلى الاحتفال، وأَضاف تعديلاً في اللحظة الأخيرة على خطابه: “إن إثارة العنف جزء من المشكلة وليست جزءاً من الحل”. وأثنى نتانياهو على ترامب عندما خاطب الحضور، بسبب “شجاعته” واستعداده للوفاء بوعوده قائلاً إنه قد “صنع التاريخ”، وأضاف: “إنه يوم عظيم للسلام”. جلس شيلدون ومريام أدلسون في الصف الأمامي مع نتانياهو وزوجته إلى جانب جاريد كوشنر وإيفانكا ترامب، مؤكدين على الأدوار التي لعبوها وراء الكواليس لتحقيق خطوة نقل السفارة. وفي وقت لاحق من ذلك المساء، حضر أديلسون حفل استقبال التحالف اليهودي الجمهوري، حيث تحدث مازحاً عن كونه أقصر رجل في الغرفة إلا إذا وقف على “محفظة أمواله”.

واتهم الفلسطينيون وجماعات حقوق الإنسان وحكومات أجنبية مختلفة الجيش الإسرائيلي باستخدام القوة المفرطة في غزة. قال متحدث باسم تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، إن “إسرائيل لديها الحق في الدفاع عن حدودها، لكن استخدام الذخيرة الحية أمر مقلق للغاية”. وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على “تويتر” أن نتانياهو رئيس وزراء “دولة فصل عنصري”. ورد الناطقون باسم الحكومة الإسرائيلية بأن الجيش كان يدافع عن الشعب والإقليم الإسرائيليين، وأن الفلسطينيين كانوا في الواقع مسلحين بالحجارة والعبوات الناسفة واستخدموا “الدروع البشرية”.

عام 2014، عندما قصفت القوات الإسرائيلية بشكل غير مقصود مدرسة تابعة للأمم المتحدة في قطاع غزة ما أسفر عن مقتل أكثر من عشرة مدنيين فلسطينيين، أصدرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية جين بساكي بياناً شديد اللهجة، قائلة إن الولايات المتحدة “منزعجة من الهجوم الإسرائيلي المشين”. بعد ذلك تواصل رون ديرمر، سفير إسرائيل، مع دينيس ماكدونو، رئيس أركان أوباما، عبر الهاتف ليقول له: “أنا منزعج لأنكم منزعجون”. وفي 14 أيار الماضي، عندما سُئل نائب السكرتير الصحفي للبيت الأبيض، راج شاه، عما إذا كانت الولايات المتحدة تدعو إسرائيل إلى التحلي بضبط النفس في التعامل مع الاحتجاجات في غزة، رد شاه قائلاً: “نحن نعتقد أن حماس مسؤولة عن هذه الوفيات المأسوية، وأن استغلالها الوضع بهذا الاستخفاف هو ما يقود إلى هذه الوفيات، ونريد منهم التوقف”. وبعدها زار ديرمر البيت الأبيض وجذب شاه جانباً ليشكره قائلاً: “هذا يختلف بشدة عما تلقيناه في عام 2014″، مضيفاً أنه “سعيد برؤية رد فعل مختلف تماماً من البيت الأبيض بينما كانت القضية ساخنة”.

وفي وقت لاحق من اليوم ذاته، خلال فعالية في واشنطن من أجل إحياء الذكرى السبعين لاستقلال إسرائيل، أطلقت السفارة الإسرائيلية كتاباً “يمجّد الأميركيين الذين عززوا قوة إسرائيل وتحالفها مع الولايات المتحدة”. وقد خطط الإسرائيليون لتكريم رئيس أميركي واحد فقط هاري ترومان، الذي اعترف بالدولة اليهودية عام 1948، لكن ديرمر قرر إضافة رئيس ثانٍ إلى القائمة: دونالد ترامب. تمتدح مقدمة الكتاب “قراره الجسور بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل”. أرسل ديرمر نسخاً من الكتاب إلى البيت الأبيض، كي يرى ترامب اسمه بجانب ترومان وألبرت أينشتاين.

واستجابة للعنف الدائر في غزة، شرعت دول الخليج في ممارسة طقوسها من إدانات لإسرائيل ودعم للفلسطينيين، لكن المسؤولين الإسرائيليين اعتبروا اللغة التي أُطلقت بها هذه الإدانات والدعم مبتذلة بصورة لا لبس فيها، على شاكلة ردود أفعالهم تجاه قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وقد كان واضحاً أن بوصلة تركيزهم قد تحولت بعيداً من وجهة الشأن الفلسطيني وصارت تلاحق شبح المواجهة مع إيران.

لطالما أيَّد نتانياهو نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ولكنه، على النقيض من أديلسون، لم يجعلها أولوية. كان الطلب الرئيسي من نتانياهو لترامب متمركزاً حول عكس سياسات عهد أوباما حول إيران. ومثلما أراد محمد بن زايد ومحمد بن سلمان، أراد رئيس الوزراء الإسرائيلي من ترامب أن ينتقل مما ارتآه سياسة احتواء وتوفيق وضبط نفس، إلى سياسة ترمي إلى دحر القدرات العسكرية الإيرانية وكذلك الطموحات الإقليمية.

أعلن ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي في الثامن من أيار، قبل أيام قليلة من حفل افتتاح السفارة الأميركية في القدس. قال ديرمر إنه كان واحداً من “أفضل أيامه” في منصب السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة. أخبرني ديرمر “كنا نسير بسرعة ثابتة نحو الهاوية، والآن ترامب غيّر اتجاه المقود”.

اتفق كوشنر مع ديرمر على أن أوباما عزز من قوة إيران على حساب العلاقات مع إسرائيل ودول الخليج، وترك منصبه من دون أن يقرب جلب سلام عربي- إسرائيلي. أخبر كوشنر مساعديه أخيراً قائلاً “إذا كنا سنواجه إيران، نريد أن نواجهها معاً”. بدأ بولتون ومستشاروه المتشددون في الحديث مع الخبراء الماليين والاستخباراتيين الإسرائيليين، واستهدفوا إعادة فرض عقوبات اقتصادية على إيران. أشار نتانياهو خلال لقاءات خاصة مع مسؤولين أميركيين حاليين وسابقين إلى أن حكومة إيران كانت أضعف مما بدت عليه، وجادل بأن زيادة الضغط من الممكن أن يؤدي إلى انهيارها.

قال نتانياهو في لقاء مع “فوكس نيوز” منتصف أيار إن “إيران في صراع معنا، في صراع مع الولايات المتحدة، وفي صراع مع جميع الدول العربية في الشرق الأوسط تقريباً. أعتقد أن علينا الاتحاد معاً تحت قيادة الرئيس ترامب لطرد إيران خارج سوريا”. وردد مايك بومبيو، في أول خطاب له في منصب وزير الخارجية، مطالب نتانياهو، وأشار إلى أن على الشعب الإيراني رفض حكومة رجال الدين في طهران.

نوى كوشنر إطلاق خطة سلام للشرق الأوسط في الأشهر المقبلة. وكانت رسالته إلى الفلسطينيين مفادها “إذا أردتم العمل معنا، فاعملوا معنا. وإذا لم تريدوا العمل معنا، فلن نطاردكم”. يعلم نتانياهو الذي لم يسبق له إبداء حماسة في شأن حديث ترامب عن الوصول إلى “اتفاق نهائي” أن نجاح الخطة مع شركاء كوشنر من دول الخليج سوف يتطلب من إسرائيل تقديم تنازلات وألا تبدو الخطة كما لو أنها شيء من إعداد اللجنة المركزية لليكود. فإذا فشلت خطة كوشنر في تقديم عرض للفلسطينيين بأن تكون القدس الشرقية عاصمة لهم، ومنح إسرائيل السيادة على المدينة القديمة، فلن يكون أمام القادة العرب خيار إلا الرفض. قال مسؤول بارز في الإدارة ذات مرة أن الخطة سوف تركز على “كيفية جعل حياة الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني في أفضل حال”، ووصفها بـ “العادلة”.

تشير افتراضات نتانياهو إلى أن عباس، الذي يعوّل منذ عقود على الوصول إلى تسوية نهائية شاملة ودولة معترف بها، سيرفض مخطط كوشنر القابل للتحسين. ويمكن أن يلقي ذلك بالمسؤولية على عاتق محمد بن زايد ومحمد بن سلمان، والدول العربية الأخرى ليقرروا ما إذا كانوا سيتبعون خطى عباس أم أنهم سيرسمون مساراً مختلفاً. يأمل نتانياهو ألا يرفض قادة دول الخليج العرض الأميركي الجديد، ويفضل بدلاً من ذلك تعميق التعاون ضد إيران والأعداء الآخرين. قبيل نهاية عهد إدارة أوباما، أخبر كبار مساعدي عباس أحد المسؤولين الأميركيين بأن “أسوأ كوابيسنا” سيكون إيجاد نتانياهو لطريقة يفرق بها بين دول الخليج وبين الفلسطينيين. وأخبرني هذا المسؤول السابق قائلاً أن “أعظم أحلام بيبي (لقب نتانياهو) وأسوأ كوابيس عباس يمكن أن يتحقق”.

وقد امتد في الفترة الأخيرة التعاون بين إسرائيل ودول الخليج ليصل إلى شبه جزيرة سيناء، حيث نشر محمد بن زايد قوات إماراتية لتدريب ومساعدة القوات المصرية التي تقاتل الميليشيات المسلحة بمساعدة طائرات الجيش الإسرائيلي وهيئاته الاستخباراتية. ونفذت القوات الإماراتية، في بعض الأحيان، مهمات لمكافحة الإرهاب في سيناء. وعلى رغم أن نتانياهو سوف يفضل أن يجعل هذه العلاقات أكثر علنية، فهو لا يريد تعريض محمد بن زايد ومحمد بن سلمان لأي خطر. ففي نهاية المطاف، يأمل نتانياهو أن يتخذ هذان القائدان خطوات نحو الاعتراف بإسرائيل؛ وهي لحظة سيكره الفلسطينيون أن تراها أعينهم، ولا سيما في وضعهم الراهن.

يبدو الفلسطينيون الخاسرين المحتملين في الشرق الأوسط الجديد. وووفق ما قال مسؤول عربي بارز عن التحالف الاستراتيجي: “إنه يحدث، مع خطة سلام أو من دونها”. وأوضح أحد كبار مستشاري ترامب قائلاً: “إيران هي السبب في حدوث كل هذا”.

 

 

هذا المقال مترجم عن موقع Newyorkerولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

نُشر هذا المقال في النسخة المطبوعة في 18 يونيو/ حزيران 2018، تحت عنوان “عدو عدوي”.