fbpx

مطاعم، مقاهي ، أكلات وذكريات: 
القاهرة، بيروت، أكسفورد وبالعكس! 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عموماً، حيثما نزلت وحللت، وأكلت شربت، تأمل طعامك وشرابك جيداً وسل عنهما، واحفظ عنهما في ذاكرتك ما أستطعت ففيهما أكثر بكثير مما ستضعه في فمك.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أجلس إلى طاولةٍ أرى منها النخيل الباسق خلف سور الجامعة الأمريكية حيث درست قبل ثلاثة عقود حين كانت تتوسط العاصمة مُطلةً على صرتها: ميدان التحرير. اليوم الجامعة وأنا “شرّقنا” بعيداً. هذا المكان القريب من بيتي أحد مطاعمي المفضلة، هنا مساحة جلوسٍ في الهواء الطلق، وقائمة طعام تروق لي. أنا أسيرُ عاداتي، لا أغامر لا أكلاً ولا مكاناً عادةً  بل يزعجني تغيير قائمة الطعام في الأماكن التي أرتادها.

حيث أجلس في القاهرة، واحد من مجموعة مطاعم أظنها لبنانية الأصل . عرفت السلسة هذه (التي تدعّي صفحتها على الانترنت انها وُلدت في إيطاليا)، في بيروت أوائل الالفية. كان الفرع الذي أزوره على بعد خطوات من مكاتب جريدة الحياة –  التي كنت أكتب لها بشكلٍ متقطع –   بوسط المدينة، كان Casper & Gambini  هذا أحد أماكن الالتقاء المعتادة مع الأصدقاء العاملين في الجريدة. لكن كل شي في وسط بيروت تغير بعد مقتل رفيق الحريري عام 2005، إذ سرعان ما وُلدت المظاهرت من تيارين كبيرين متضادين (8 و 14 آذار) ، وتبع ذلك اعتصامات في ساحة رياض الصلح على مرمى حجرٍ من الجريدة والمطعم، وتدريجياً أخذ مشروع الحريري الكبير في قلب بيروت بالأفول، وهو ما عجلت به حرب 2006 بين إسرائيل و”حزب الله”، فأغلقت عشرات المطاعم التي كانت تغص بها وسط المدينة. لكن في حالة مطعمنا هذا، أغلق هنا لكن انتشرت فروعه في أماكن اخرى في  بيروت وعبر المنطقة. أما جريدة الحياة نفسها فأغلقت مكاتبها في بيروت في منتصف 2018 قبل أن تتوقف عن الصدور نهائياً و تبقى مدينةً لي، كما لغيري، بأجر مقالاتٍ لن أتقاضاه. 

في ذاك اليوم المشمس من فبراير/شباط 2005،  كان لي خمسة وسبعون دولاراً لقاء مقال كتبته. فأرتأيت السير من رأس بيروت حيث سكنت إلى وسط المدينة عبر واجهة بيروت  البحرية الجميلة وصولاً إلى مقر الجريدة حيث “الشيك” ورفاقُ قد ألقاهم في أحد مقاهي وسط المدينة. لكن صديقاً ظهر فجأة على باب بيتي غير خططي. كنت في لبنان للبحث الميداني لرسالتي الجامعية لنيل درجة الدكتوراة، وأقمت بمبنى من الشقق الفندقية الرخيصة برأس بيروت كان اسمه New Perfect Home، علماً أنه لم يكن فيه من صفات ال new   أو ال perfect   إلا الاسم، لكن المكان احتفظ بموظف استقبال (وعامل سوري في دكان صغير لم يتأخر في اخباري، بقصد أو دون قصد، أنه يراقبني ويرصد من يدخل عندي ويخرج) . هاتفني الاستقبال ليخبرني عن صديق على الباب، صحفي انجليزي بوكالة أنباء دولية معروفة، أتي ليدعوني على الغذاء مع زميلة له. صرفت النظر عن “الحياة” والكنز “الثمين” الذي ينتظرني فيها ذاك اليوم، و قبل ان أغادر منزلي سمعت دوي الانفجار الهائل الذي قتل الحريري وواحداً وعشرين معه وأصاب المئات؛ كان هذا قرب فندق السان جورج، على نفس الطريق التي كنت سأسلكه نحو وسط المدينة.

ليس غريباً إذاً أن تتسمى المطاعم بأسماء تنم عن مصدر أكلاتها أو بإدعاء الفرادة بوصفٍ من لغة أجنبية.

صاحبي الذي ربما أنقذ حياتي، أتي بعرضٍ يصعب رفضه: “قابلني في ذاك المقهى Ristretto الذي تحب (بالحمراء قرب الجامعة الأمريكية بيروت).” حين وصلت رأيت فزع الزبائن حولي (أحدهم كان يعرف رفيق الحريري شخصياً على ما يبدو، وبدأ في البكاء بعد مكالمة أبلغته أن ” الأخبار مش منيحة” قبل إعلان وفاة الرجل). و كان طريفا ً أن مواطنا مصرياً آخر تصادف وجوده في نفس المقهي الصغير : سيدة لا أعرفها، وكنا أنا وهي نحاول الوصول لذوينا في القاهرة لطمأنتهم علينا، لكن شبكة المحمول التي أرهقها ضغط مكالمات أهل بيروت الفزعين، أعيتنا ببطئها قبل أن تسعفنا. كان Ristretto  الصغير مكاني المفضل فعلاً، فهو قريب من البيت، أسعاره معقولة، هادئ عادة، و يقدم قائمة طعام محدودة لا ترهقك بكثرة الخيارات وقهوة ممتازة  ويقوم به ربيع النادل الودود، ما المطلوب أكثر من ذلك! لكن يوم مقتل الحريري شهد تجربة اخرى أقل مأساوية بما لا يقاس لكن محرجة. صديقي الذي، مصادفةً، ربما أنقذ حياتي، أتى مع زميلة له ذات شخصية وجدتها منفرة للغاية. خالطاً الهزل بالجد، أخبرته لاحقاً أنني كنت أفضل الموت مع الحريري على مقابلة هذه الشابة ليصدمني بأنه مغرم بها، ردي أنا: “هذا شأنك يا عزيزي، أما أنا فلا أود رؤيتها مجدداً”، ممنونٌ انه بقي صديقاً لي وأحمد الله  أنه تزوج بأخرى! 

أما أجمل مكان أكلت فيه في لبنان، إن لم يكن في حياتي، فكان ، حرفياً، على ضفاف نهر الليطاني في جنوب البلاد. نزلت مع أصدقاءٍ لعزاء أحد أقاربهم في احدى قرى الجنوب، و بعد المراسم (التي أخذوني مشكورين لحضورها كجزء من بحثي الميداني) توجهنا إلى “الشاطر حسن” عبر وديان ضيقة أصابتني فيها قيادة صديقي ببعض الرعب (حينما طلبت منه تهدئة السرعة قليلاً رد بهدوء، وهو المقاتل السابق في الحزب الشيوعي خلال الحرب الأهلية: “ما تخاف، كنا بنسوق على هاي الطرقات بلا ضو حتى ما تشوفنا [طائرات] الأباتشي [الإسرائيلية]”، فسكت وحاولت تفادي النظر إلى الجرف على يسارنا) . فوق الليطاني ، ذاك النهر الصغير الذي ارتبط تكراراً بالغزو الإسرائيلي تلو الآخر وما تبع ذلك من مقاومة،  كان “الشاطر حسن”  شُرفةً منصوبةً فوق الماء في قلب الوادي، تجلس إلى مائدتك وخرير النهر تحتك وخضرة الربيع حولك. أذكر أن الطعام كان ممتازاً لكن الأصل وسط طبيعة بهذا الجمال ان أي شيٍء تأكله سيمتعك. علماً ان لبنان، المأزوم عادةً مع الأسف،  لا يفتقر إلى الجميل  بين جبال وغابات ووديان وأنهار  ومع  صغر مساحته  كثيرٌ منها شديدُ القرب من عاصمته بيروت.

و فيما قد يعتبره أبناء جلدتي من المصريين خيانة، عشقت في بيروت الفلافل المصنوعة من الحمص، لا الفول كما عندنا في مصر، وتحديداً عند مطعم بربر الشهير الذي قيل لي أنه واصل العمل حتى في أحلك أيام الحرب الأهلية.  أما في عَمان قبل قرابة العقدين فقد دلني أحدهم على مكان شهير لبيع الفول لكن “فوله” المخلوط بالحمص لم أجد له علاقة بما نعرّفه في مصر فولاً، وعفواً أيها القارئ ليس لأحدٍ سوانا أن يعرّف هذه الأكلة العائدة للفراعنة. و إن أردت قياس الارتباط بالفول فقد ضحكت زميلة دراسة عراقية في بريطانيا من فرحتي حينما وجدت هناك لأول مرة علب فول مطبوخ من إنتاج شركة “قها”، احدى كبريات شركات القطاع العام المصري يوماً ما، في أحد محال البقالة العربية في “إدجوار رود”، قلب لندن العربي، فـ”تمونت” فولاً  ثم قفلت عائداً بغنيمتي الثمينة إلى أكسفورد  حيث كنت أدرس و”فوَلت” عدداً من الأصدقاء، لم يغرموا جميعاً بالفول لكن أمريكية أدمنته و لا أعرف أي أثر ترك هذا فيها. من عرف القاهرة جيداً في التسعينات لا شك يعرف أن أشهر محال الفول في عاصمتنا كان اسمه “الجحش” في منطقة السيدة زينب، ولا علاقة طبعاً للتسمية بما قد يتركه الفول من وخمٍ على آكله إن أفرط في إلتهامه ولا بأن أحد أسمائه بالإنجليزية horse beans (بقول الخيل). علماً أن  أي مؤسسة “فولية” عريقة ستقدم لك تخصصها هذا في صورٍ عديدة  تقوم في الأساس على ما يخلط بالفول من أنواع الزيوت المختلفة أو السمن أو الزبد أو حتى ( لمن استساغه) دهن الخراف (اللية)،  أصحها ربما الأكل بزيت الزيتون، وهذا أظنه حديثٌ نسبياً في مصر، وألذها، لمن ألفه، بالسمن “البلدي”  المصنوع من لبن الجاموس تحديداً، لكن “الزيت الحار” المستخلص من بذور الكتان صورة أخرى لتقديم الفول محببة عند المصريين، إذ يشيع اعتقاد بالفوائد الصحية لهذا الزيت، ذو الطعم اللاذع بعض الشيء كما ينم اسمه، ولهذا الزيت استخدامات صناعية ويضاف لطلاء(الحوائط)  فتأكل فولك طبقات أو أطباق؛  علماً أن زيت الكتان هذا ليس رخيصاً، من ثَم يشكك البعض أن الموجود منه في محال وعربات الفول خالص غير مغشوش. 

وإن كان الفولُ مرتبطاً بالمصرية فالهوية ذاتها وامتدادها اللغوي رافقاني في السفر والدراسة. قرب سكني بأول سني دراستي في بريطانيا نهاية التسعينات أكتشفت سيارة لبيع الطعام لشابين مغربيين قرب سكني: عمر وعبد العزيز، وبعد تعارف سريع وتبادل تحيات دافئة نصحاني بتجربة “دونر كباب” الذي اعتقدت جاهلاً أنه أقرب للشاورما، إذ كان على سيخ ورائهم شبيه بها. أخذت  ما نُصحت به لأكتشف انه لحم ضأن شبه خام، فكأنك تنهش  الخروف فراءً وقروناً لشدة رائحته. عدت لهم في اليوم التالي غاضباً: “ما يأكله الإنجليز السكارى لا آكله أنا”، فنصحوني “بكباب الدجاج” الذي أصبح عشائي اليومي.

وأمام عمر وعبد العزيز عشت أكثر من تجربة سياسية . في ليلة مزدحمة نسبياً وقفت مع غيري في صفٍ لطلب ما نريد، كان اثنان من الطلبة الانجليز  خلفي، لم أسمع من كلامهم الكثير، لكن جملةً لفتت انتباهي ”  I won’t take shit from a Moroccan  ”  “لن أقبل إهانةً من مغربي”، لم أرد أو أعلق، كانوا ورائي مباشرة وعندما جاء دوري وتقدمت للسيارة جاءا إلى يساري ليتبع طلبهم طلبي فشرعت في  حديثٍ أطول من المعتاد بالعربية  مع عمر وعبد العزيز. لم يدر بخلد الأحمقين أن أحداً حولهما قد يكون مغربياً أو عربياً أو حتى غير ذلك لكن قد تؤذيه عنصرية كهذه. وبين الجملة والأخرى كنت أنظر لهما، في البداية نظرا لبعضها البعض ثم حولا وجهيهما بعيداً. كان لي أن أسعى قانوناً لعقابهما، على الأقل داخل الجامعة، لكنني رأيت في حرجهما تذِكرة باقية. أيضاً امام عربة الطعام هذه سمعني أحدهم أخاطب صاحِبَي بالعربية، فبادرني بالسؤال من أين أنا، خمنت من لكنته من أين أتى هو. “مصر” أجبت، “هل زرت إسرائيل”؟ “لا لم أزر فلسطين أبداً”.  “لا لا، هناك فلسطين وهناك إسرائيل”؛ “بالنسبة لنا كلها فلسطين.” نظر إلي: “هل أستطيع العيش هناك”؛ “انت تعيش هناك شئت أنا أم أبيت”. عرفت بعدها بدقائق أنه كلما أتى سأل صاحِبَي  المغربيين: “متى ستزورا إسرائيل؟”. أقبلُ بالسلام مع إسرائيل كضرورة، لكن رجاءً لا تحشروا أنفسكم في حلوقنا (وهذا ديدن الكثير منهم في تجربتي). 

و على مائدة في بريطانيا عرفت الطعام لأول مرة ساحة صراع. فهنا سمعت من يصف أطباقاً كالفلافل والحمص وغيرها مما انتشر لقرون في فلسطين وجوارها بـ”الطعام الشعبي الإسرائيلي”. عرفت بعد ذلك من زملاء من  فلسطينيي الداخل أنه لا جديد في ذلك  فمن استحلوا لأنفسهم بلداً بكامله لن يؤرق ضميرهم سرقة هذا الطبق أو ذاك. لهذا تحارب أمم لإشهار مأكولاتها التقليدية مع المنظمات الدولية كجزء من تراثها. لكن في تاريخ الاستعمار ما قد يقلب السحر على الساحر، وفي مطاعم البلد الذي ادعى يوماً امبراطورية لا تغيب عنها الشمس عبرة، فلسنوات طويلة اعُتبر الكاري الهندي الطبق الأكثر شعبيةً في بريطانيا، بل ذهب بعضهم إلى تسميته الطبق القومي الأول، وفي ذلك سخرية لا تحتاج إشارة. ذائقة المُسْتَعمر (بضم الميم وفتح السين) سابقاً تحتل مائدة قلب الامبراطورية التي غربت عنها الشمس، بل تعيد تعريفها.  ومن الطريف في بريطانياً ن كثيراً من محال بيع الأكلة الشعبية الأصيلة هناك: السمك والبطاطا (البطاطس) يملكها مهاجرون، لكن هذا البلد بالذات مدين للمهاجرين بما يستساغ أكله فيه! وصلت البلاد طالباً لأول مرة عام 1998 وزرتها آخر مرة عام 2018 وفي العشرين عاماً هذه رأيت بوضوح كيف أثرى المهاجرون مائدة البريطانيين الذين لم يُعرَفوا يوماً بجودة طعامهم، وهذا ليس بجديد. خلال الحرب العالمية الثانية جمعت السلطات البريطانية مواطني دول المحور داخل البلاد ووضعتهم في معسكرات اعتقال (أفضل بكثير من السجن العادي لكنهم كانوا مسلوبي الحرية على أي حال)، كثير من هؤلاء كانوا أصحاب مطاعم وطباخين في مدن المملكة الكبرى، من ثم اشتكى أشهر الكتاب الإنجليز في القرن العشرين  جورج أورويل  غياب وجبة جيدة أو قهوة يمكن شربها في لندن حين غُيب هؤلاء. 

ليس غريباً إذاً أن تتسمى المطاعم بأسماء تنم عن مصدر أكلاتها أو بإدعاء الفرادة بوصفٍ من لغة أجنبية. من ثم مثلاً أسماء مطاعم إيطالية أو صينية أو غير ذلك حيثما ذهبت، فما من صناعة عولمتها ظاهرة أو عريقة قدر صناعة الغذاء وكل ما يرتبط بها، ولا مستغربٌ إذاً أن يجتمع ما هو غريب أو متنافر ظاهراً ليخلق ألفة غير متوقعة في مكان لا يبدو مرتبطاً بها. في زياراتي اللاحقة لأكسفورد ارتبطت بمكانين، أحدهما محل لبيع الشطائر والوجبات الخفيفة قريب من الكلية التي كنت انتسب إليها في شمال المدينة يديره هشام المصري البشوش ابن أسوان، و سبقه فيه مصريان آخران أحدهما علي الشاب الصعيدي الودود، حينما عدت للمدينة لإنهاء رسالتي التي أخذت من الوقت أطول مما يجب (كما مع كل ما أكتب)، كان فطوري عند هشام كل صباح في دكانه الصغير ذي النوافذ الكبيرة بداية يوم أتطلع لها وطبعاً وجدت ما يقدمه ممتازاً فانحيازي له ضمن ذلك الحكم . أما المكان الآخر فكان مطعماً باسم إيطالي Branca    هناك قضيت ساعات منكباً على ما أقرأ وأكتب. الطعام جيد والخدمة ودودة للغاية لكن سحر المكان الأساس في الضوء في بلد معتم معظم شهور السنة. المكان منزل تم تحويله لهذا الغرض من ثم المساحة واسعة مفتوحة إلى جانب حديقة خلفية لطيفة، كل النوافذ ضخمة لتدخل أكبر قدر ممكن من النور، الجدران ذات لون فاتح  تزينها مرايا ضخمة وأعمال فنية متناثرة والطاولات رخامها ابيض أغلبها مستدير، أما المقاعد فبسيطة ومريحة. و فوق ذلك كله فتحة زجاجية في السقف تحتها زائرة غريبة عن إنجلترا، أصولها قريبة من أصولي، تتلمس دفئ موطنها البعيد: شجرة زيتون. كان المكان يغص بالزبائن ساعة الغذاء ثم يكاد يخلو تماماً حتى وقت العشاء، كانت هذه الفسحة بين الازدحامين وقتي المفضل: أحتل طاولة في الركن مع أواراقي و كتبي وحاسوبي الشخصي وأقنع نفسي أنني، وإن كنت  أرى المكان كله، غير مرئي إلا  لمن نظر ناحيتي. 

في مكان عامٍ كمطعم يفترض انه نقيضٌ للخصوصية قد تجد مساحة لك، و إن كان الشائع أن “من راقب الناس مات هماً” ففي ذلك أحيانا، من مسافة آمنة، ما يُمتع ويعلّم. المعيار ربما في موازنة الفرادة والجدة مع المألوف مذاقاً وجواً، في عالمنا المعولم أكثر مما سبق أبواب ذلك كثيرة. غرامي ب Branca    لا يقف فقط عند الضوء وجودة الطعام وكون النُدل (جمع نادل) والنادلات “أمم متحدة” قائمة بذاتها، فهم فعلاً من مختلف أرجاء الدنيا، لكن في أن للمكان شخصية خاصة. 

اليوم نحن محاصرون بما يعرف بالـ anthropological non-place   اللا-مكان الأنثربولوجي (أو الإنساني)، فأنت تدخل أي واحد من سلسلة هذه المطاعم أو المقاهي أو تلك  حول العالم لتجد أنه مطابق تماماً لأي من فروعه الأخرى حيثما وجدتها، تماما كما تتشابه صالات انتظار المطارات ، ومع ذلك أنت المستهلك النهائي في عملية تصنيع طويلة، تشعرك أنك لست فيها سوى الترس الأخير. 

لا شخصية ولا خصوصية. من جهة ابتلتنا العولمة بهذا “اللامكان” في كل مكان، لكنها من جهة أخرى تذكرنا أنها وفرت مساحة للخاص المتميز، بل والدافئ الودود أيضاً. و عموماً، حيثما نزلت وحللت، وأكلت شربت، تأمل طعامك وشرابك جيداً وسل عنهما، واحفظ عنهما في ذاكرتك ما أستطعت ففيهما أكثر بكثير مما ستضعه في فمك. 

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.