fbpx

حركة “فتح” في ذكرى تأسيسها: المراجعة المفقودة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مرّ على تأسيس حركة “فتح” أكثر من نصف قرن، تجربتها النضالية الطويلة تستدعي إعادة النظر في تاريخها وتنظيمها، ومراجعة نشاطها السياسي والكفاحي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تُعتبر “فتح” أكبر الحركات الوطنية الفلسطينية،  وما أعطاها طابعها هو عمرها المديد (58 عاماً)، والتجارب المتنوعة التي خاضتها في عملها المسلح وفي التسوية، في الانتفاضة والمفاوضة، في المنظمة والسلطة، في الأردن ولبنان والأراضي المحتلة.

بيد إن مشكلة هذه الحركة، التي استنهضت الشعب الفلسطيني من النكبة، وقادت بدايات كفاحه، وأسست للوطنية الفلسطينية المعاصرة، إنها لم تقم ولا مرة بمراجعة طريقها، أو بطرح الأسئلة حول خياراتها السياسية، والعسكرية، أو بانتقاد تجربتها، كما لم تقدم ولا مرة كشف حساب عن التحولات العديدة والكبيرة التي حصلت في خطاباتها، وبناها، وأشكال عملها.

مثلا، ففي مؤتمر “فتح” الرابع (دمشق 1980) لم يجر السؤال عن سبب تبني قيادة فتح للبرنامج المرحلي في منظمة التحرير (1974)، الذي يتضمن إقامة سلطة أو دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، رغم خلافه مع مبادئ “فتح، التي نشأت قبل احتلال الضفة والقطاع (1967)، إذ المؤتمر اكتفى وقتها بعدم إضفاء مشروعية على ذلك التوجه، بعدم تبنيه في وثيقته الختامية. وفي المؤتمر الخامس (تونس 1988) لم تجر مراجعة للتجربة الوطنية الفلسطينية التي نجم عنها الخروج من لبنان، ومن المسؤول عن تعثر تلك التجربة وما ارتكبته خلال سنوات وجودها العسكري في لبنان. وفي المؤتمر السادس (بيت لحم 2009)، تم التغطية على الإخفاق الحاصل في الانتفاضة الثانية، وعن خسارة “فتح” لقطاع غزة، الذي أضحى تحت سيطرة حركة حماس (2997)، كما عن خسارة “فتح” الانتخابات التشريعية لصالح “حماس”. وفي المؤتمر السابع (رام الله 2016) لم يتم تقديم أي شيء بخصوص اخفاق خيار أوسلو وانسداد أفق الدولة الفلسطينية، ولا أي شيء بخصوص تهميش منظمة التحرير، وتآكل شرعية القيادة الفلسطينية.

تعتبر “فتح”، كبرى الحركات الوطنية الفلسطينية، وهي التي طبعت تلك الحركة بطابعها، في عمرها المديد، وفي التجارب المتنوعة التي خاضتها.

على ذلك فإن مناسبة الذكرى السنوية لتأسيس حركة فتح (1/1/1965)، يفترض أن تكرس، ليس للاحتفال فقط، وإنما لمراجعة التجربة، أيضا، وتقييمها، ونقدها، واستنباط الدروس منها، سيما إن تلك الذكرى تحيل إلى التضحيات أو الأثمان الباهظة التي دفعها شعب فلسطين، مع ألوف الشهداء والجرحى والمعتقلين، ومع اخفاق الخيارات السياسية، وحال الترهل والجمود في حركتهم الوطنية، مع التفكك الحاصل في مبنى، ومعنى، الشعب الفلسطيني، وقضيته، وحقوقه الوطنية والتاريخية.

في المحصلة، فإن “فتح” الراهنة لم تعد تشبه التي كانت، إذ تحولت من حركة تحرّر إلى سلطة، ومن سردية النكبة (1948)، التي بررت انطلاقها، إلى سردية الاحتلال (1967)، ومن حركة شعبية مناضلة، إلى تنظيم بيروقراطي أو كحزب للسلطة.

الآن، عدا عن مراجعة التجربة الماضية، فربما الأمر يحتاج إلى طرح بعض مقترحات تتعلق بكيفية إعادة استنهاض، أو بالأحرى، إعادة بناء هذه الحركة، إذا كان مازال ذلك ممكنا، وفقا للآتي:

على الصعيد الفتحاوي الداخلي

1 ـ “فتح” أحوج ما تكون إلى رؤية وطنية جامعة، تتأسس على إعادة الاعتبار للتطابق بين شعب فلسطين وأرض فلسطين وقضية فلسطين، أي تعريف الشعب الفلسطيني بدلالة قضيته، وليس بدلالة تعاطي إسرائيل معه من ناحية سياسية، علما إن إسرائيل تنظر إلى الشعب الفلسطيني باعتباره وحدة واحدة، وكعدو، وتاليا لذلك فإن أي رؤية سياسية، ولو مرحلية، يفترض ان تنبثق من هاتين الحقيقتين، إذ إن مثل هذه الرؤية هي التي يمكن أن تعيد إلى فتح روحها، باعتبارها الحركة الوطنية الجامعة الأكثر شبها بشعبها.

2- فك الارتباط بين المنظمة والسلطة لمصلحة الأخيرة، وأيضا فك الجمع في شخصية واحدة بين الرئاسات الثلاث: المنظمة والسلطة و”فتح”، فهذا أفضل وأجدى، ويحرر كل إطار من تبعات الإطار الأخر، كما أنه يخفف الأضرار التي يمكن أن يتعرض لها أحد هذه الكيانات، ناهيك أنه يمكن أن يعيد تأهيل هذه الحركة لأخذ مكانتها وفقا لدورها النضالي.

3- انتخاب “اللجنة المركزية” من “المجلس الثوري” للحركة، الأمر الذي يسهم في تعزيز الطابع المؤسسي والديمقراطي في بنيتها، ويوسع دائرة المسؤولية بين أطرها، كما يحدّ من تفرد اللجنة المركزية، ويخضعها للمراقبة والمحاسبة بين المؤتمرين.

4- إنهاء الوضع الذي تهيمن فيه “فتح” على المؤسسات الوطنية، من دون أن تُخضع ممثليها لمساءلة أو محاسبة، وهذا ينطبق على ممثليها في المنظمة والسلطة والمنظمات الشعبية، وفي السفارات، للتخفف من تبلد الطبقة البيروقراطية التي علقت بها جراء ذلك.

على صعيد كياني المنظمة والسلطة

1- التخلص من نظام المحاصّة (الكوتا)، وتعزيز البعد التمثيلي في الكيانات السياسية، على أسس وطنية، وعلى قاعدة الانتخابات، وفق القوائم النسبية التي تتيح تمثيلا ومشاركة أوسع، ولتجاوز الانحيازات العشائرية والمناطقية. فالتمثيل، فذلك ما يعيد الاعتبار للبعد الشعبي/الوطني، فضلا عن إسهامه في تعيين التوازنات الداخلية بين الفصائل، وجسر الفجوة بين مجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج.

2- إعادة بناء المنظمة وتفعيل دورها، بإعادة تشكيل المجلس الوطني على أسس الكفاءة والتمثيل والروح النضالية، بدلا من المحاصصة (“الكوتا”)، وعلى قاعدة الانتخابات.

3- تغيير المعادلات السياسية، وهذا لا يتطلب بالضرورة حل السلطة، ولا تسليم “المفاتيح” للاحتلال، وإنما وقف التنسيق الأمني، وتنمية الاعتماد على الذات في المجال الاقتصادي، واحتضان أشكال الكفاح الشعبي، وتدعيم مسارات نزع الشرعية عن إسرائيل. وهذا يفترض أن السلطة هي كيان سياسي لفلسطينيي الأراضي المحتلة، لإدارة أحوالهم، وتنمية مؤسساتهم السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية، وتقوية المجتمع المدني.

على الصعيد السياسي

1 ـ عدم الانحصار في خيار واحد يتمثل بإقامة دولة في الضفة والقطاع، وله من العمر قرابة نصف قرن (منذ تبنيه في الدورة 12 للمجلس الوطني الفلسطيني عام 1974)، والعمل على تبني خيارات سياسية أخرى، توائم بين الواقع والممكن، وبين الإمكانيات والطموحات، على أن لا تخل بمسألتي الحقيقة والعدلة، ولا تؤدي إلى تصدّع وحدة الشعب والأرض والقضية.

1- تكريس ثقافة مفادها أن الكفاح الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني له بعدان: أحدهما مواجهة إسرائيل ومقاومة سياساتها، والثاني بناء مجتمع الفلسطينيين وتنمية كياناتهم السياسية، علما بأن العملية الثانية هي الأساس في تحسين مكانة الفلسطينيين في صراعهم ضد إسرائيل، بل وتمكينهم من استثمار تضحياتهم ومقاومتهم.

2- اعتبار ان انتزاع الحق في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة يرتبط برؤية مستقبلية تنبني على المعايير الدولية والقيم الإنسانية النبيلة، في الحقيقة والعدالة والحرية والكرامة، وصولا لإقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين، وهو خطاب لا يتعارض مع الشرعية الدولية، ويلقى تعاطفا في الرأي العام العالمي، ناهيك عن كونه الجواب الأنسب على المسألتين الفلسطينية والإسرائيلية؛ علما إن إسرائيل هي التي قوضت خيار الدولة في الضفة والقطاع، إذ هي تصارع الفلسطينيين على الضفة، كما تصارع على أرضهم كلها من النهر إلى البحر.

3- ما تقدَّم يعني إضفاء قيم عالمية وإنسانية على فكرة “التحرير”، وتوسيعها من فكرة الصراع على الأرض، إلى الصراع على الحقوق الفردية والجمعية، المدنية والوطنية، أيضا، باعتبار الأمر لا يتعلق بغزوة عسكرية، ولا بحرب إفنائية، ولا بشعب يحل محل شعب آخر. ويأتي ضمن ذلك استعادة فكرتي “تحرير اليهود من الصهيونية”، وإقامة دولة ديمقراطية في فلسطين، كما طرحتهما “فتح” في أدبياتها الأولية (في المادتين 13 و14).

على الصعيد الكفاحي

1- تركيز الجهود نحو بناء البيت الداخلي، أي بناء المجتمع وتنمية إمكانياته الذاتية، وتوطيد كياناته الجمعية (المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية)، على قواعد مؤسسية ونضالية ووطنية وديمقراطية وتمثيلية، باعتبار أن هذا هو البعد الذي يمكن أن نعمل عليه في هذه الظروف المعقدة والصعبة، وإلى حين تبين مآلات التحولات الكبيرة الجارية في المشرق العربي، وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي.

2- العمل في إطار المجتمع الإسرائيلي وتياراته السياسية والثقافية، لتعزيز التعاطف مع حقوق شعبنا وقضيته، ضد إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والدينية، وتوضيح فكرة دولة المواطنين، الأحرار والمتساوين، باعتبارها الحل الأمثل لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مع تعزيز مسارات مقاطعة إسرائيل بمؤسساتها الرسمية السياسية والاقتصادية والأمنية، في إطار السعي لنزع شرعيتها.

3- دعم مجتمعات الفلسطينيين في بلدان اللجوء والشتات، وتعزيز استقرارها في مواجهة التحديات والمشكلات التي تتعرض لها، والعمل على تنظيم صفوفها، وإيجاد الوسائل التي تعزز دورها في العملية الوطنية الفلسطينية، وضمن ذلك تفعيل إطارات منظمة التحرير، والتأكيد على الحق المشروع للاجئين في العودة وتقرير المصير.

4- صوغ إستراتيجية كفاحية تتأسس على تعزيز فكرة الصمود وكل أشكال المقاومة الشعبية، والصراع ضد كل تجليات الاستعمار والاستيطان والعنصرية، بما يمكّن الفلسطينيين من تطوير مجتمعهم وكياناتهم السياسية وإمكانياتهم الذاتية وصمودهم في أرضهم، وتعزز التعاطف الدولي معهم، وتستثمر في التناقضات الإسرائيلية، لأن المقاومة المجتمعية هي الأساس، وهي التي تمكّن أوسع قطاع من الشعب من المشاركة أو الإسهام فيها بطرق مختلفة.

5- التوضيح للفلسطينيين أنه لا يوجد شكل كفاحي مقدس، وأن كل الأشكال تخضع للظروف والإمكانيات، وللقدرة على تحويل التضحيات والبطولات إلى إنجازات، مع التأكيد أنهم بحاجة إلى انتهاج أشكال مقاومة تتمتع بميزتين: أولاهما تحييد الآلة العسكرية الإسرائيلية، أو كبح إمكان استخدامها أقصى قدر من العنف ضدهم، ما أمكن ذلك. والثانية، أن تمكن هذه المقاومة من تقوية المجتمع الفلسطيني، لا استنزافه، وتقوية كياناته السياسية لا إضعافها، أي أن الفلسطينيين بحاجة إلى مقاومة مستدامة، وفق امكانياتهم، تنمي التناقضات في مجتمع عدوهم، ولا تعزز تماسكه وتقوي وحدته.

ملاحظات ختامية

على أية حال لا يمكن لفتح أن تستنهض أحوالها دون أن تطور بناها، ودون امتلاك رؤية سياسية ملهمة تؤسس لمشروع وطني جامع، وغير متوهم، يجيب على مختلف الأسئلة التي تطرحها قضية الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم، بما يعني ذلك ضرورة استعادة المطابقة بين قضية فلسطين، وأرض فلسطين، وشعب فلسطين، وحركته الوطنية.

في الختام ثمة ثلاث ملاحظات: الأولى مفادها أن الحركة الوطنية الفلسطينية ليست الأولى من نوعها التي لا تنجح في تحقيق أهدافها، إذ حصل ذلك في كثير من التجارب التاريخية التي عرفتها البشرية، وضمنها التجربة الفلسطينية ذاتها في المراحل السابقة. الثانية، مع أن كثيراً من التعقيدات والصعوبات ناجم عن عوامل موضوعية خارجية، إلا أن ذلك لا يمنع من رؤية مكامن قصور الإستراتيجيات أو الخيارات التي اتبعتها “فتح” في الصراع ضد إسرائيل، وتبيّن دور العوامل الذاتية في ذلك. الثالثة، للإنصاف، فإن المآلات التي وصلت إليها “فتح” (وغيرها من الفصائل) نجمت أيضاً عن المشكلات والتعقيدات والصعوبات الجمّة التي حالت دون تحقيق أي من خياراتها أو أهدافها، وضمنها الخلل في موازين القوى لمصلحة إسرائيل، وعدم توافر العوامل الدولية والعربية الملائمة، وافتقار الفلسطينيين إلى إقليم واحد، بحكم تشتتهم وخضوعهم لسلطات أو أنظمة مختلفة.

أخيرا، الشعب الفلسطيني بحاجة إلى حركة وطنية تعددية متنوعة، كالتي كانت متمثلة في “فتح”، سواء كان اسمها “فتح” أو غير ذلك، بيد إن ذلك منوط بمدى إدراك كوادر وقيادات فتح لهذه الضرورة التاريخية، واستجابتهم لاستحقاقاتها، إذا ما بقي ثمة مجال لذلك طبعا؛ مع قناعتي إن ذلك بات صعبا جدا في الظروف الراهنة، وضمنها الفتحاوية، لكنه ليس مستحيلا.