fbpx

أين تُصرف أموال التنمية الدوليّة؟ ٣/٣ : قروض تُضخِّم الدين العام التونسي وتذهب الى الأقل حاجة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“قبل الثورة كان الفساد موجوداً، إلا أنه كان محصوراً نوعاً ما في أشخاص معينين وأوساط معينة. أما الآن، فأصبح متغلغلاً تقريباً في كل المجالات، ووصل حتى إلى مستوى البنوك وأثّر في الوصول إلى التمويل”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شاركت في الإعداد ياسمين لعبي

علي بوشناق، شاب تونسي في الخامسة والثلاثين من عمره، أمضى منها عشرة أعوام كعامل بأجر يومي في مهن مختلفة بولاية تطاوين جنوب تونس، بعد تخرّجه في المعهد العالي للعلوم الإنسانية بالعاصمة تونس، قسم دراسات لغة عربية. وقبل أن يستقر في عمل ثابت بالمواد الغذائية، حاول الحصول على قرض أو منحة لبدء مشروعه الخاص، لكنه فشل.

في عام 2017، جمع بوشناق من خلال عمل المياومة المتقلب، ما يكفي للتقدم إلى “البنك التونسي للتضامن”، للحصول على قرض لإنشاء مشروع خاص، لكن البنك رفض طلبه. حاول ثانيةً فتقدم إلى منظمة “نحن الشباب” التونسية، في إطار برنامج تشجيع الشباب على الاستثمار في المشاريع البيئية، بمشروع معمل لاستخراج مادة الجبس، طالباً مبلغ 50 ألف دينار تونسي (نحو 16 ألف دولار)، إلا أن المشروع رُفض لسببين، عدم اقتناع المسؤولين عن المبادرة بدراسة الجدوى، وقلة الضمانات.

“البنك التونسي للتضامن” واحد من مصادر تمويل رئيسة للمشروعات المتوسطة والصغيرة، التي تمثل 95 في المئة من اقتصاد البلاد. وعلى رغم أهميتها في إنعاش الاقتصاد، إلا أنها تواجه عقبات في الوصول إلى تمويل، بسبب تجنّب البنوك الأخطار المرتبطة بإقراض هذه المشروعات عبر فرض شروط صارمة عليها لقبول تمويلها، أهمها الضمانات.

وأشار آخر مسح سنوي لمناخ الأعمال وتنافسية المؤسسات للعام 2019 (صدر عام 2020)، صدر عن المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية، الى ازدياد نسبة المؤسسات التي تعتبر الوصول إلى التمويل المصرفي عائقاً في ازدهارها. وقال نحو 48 في المئة من هؤلاء، إن العائق الأساسي هو الضمانات. وجاء في المسح أيضاً أن “الفساد” عائق رئيس يمنع تطور مناخ الأعمال. وذكر نصف المشمولين بالمسح، أن الظاهرة تفاقمت بين العامين 2018 و2019.

ويتّهم خبراء اقتصاديون تونسيون الحكومة بالضغط على البنوك لتمويل النفقات العامة، وهو إقراض أكثر أمناً كون الحكومة تعطي ضمانات، في ظل معاناة البنوك من نسبة كبيرة من القروض المتعثرة، وهي مشكلة مستمرة منذ عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، بسبب الإقراض المتسرّع لبعض الصناعات كالسياحة، وتسهيل الوصول إلى الائتمان للمقربين من النظام. ويزيد من وطأة المشكلة، مرور تونس بأسوأ ركود في تاريخها منذ الاستقلال، نتيجة آثار جائحة فيروس كورونا الاقتصادية.

“البنك التونسي للتضامن” واحد من مصادر تمويل رئيسة للمشروعات المتوسطة والصغيرة، التي تمثل 95 في المئة من اقتصاد البلاد.

تقل قدرة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على الوصول إلى التمويل، حتى في حالة التمويل الدولي من مؤسسات كالبنك الدولي، والبنك الأوروبي للاستثمار (BEI)، فوفق الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان، فإن الدولة التونسية تركز على الاقتراض بهدف دعم النفقات العامة، وتبقى نسبة ضئيلة من القروض موجّهة الى دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، بدليل الدين العام الذي ناهز مائتي مليار دينار تونسي عام 2020 (نحو 60 مليار دولار)، 44 في المئة منه يعود إلى الدولة.

ويؤدي تزايد نسبة القروض غير العاملة (المتعثرة) إلى إضعاف قدرة البنوك على المخاطرة وتوفير إقراضات جديدة، بخاصة للفئات المحرومة والأقل حظاً، ما يخلق اختلالاً في قدرة الأكثر حاجة الى هذا التمويل على الوصول إليه. وفي حالة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، فهي تحرم بشكل رئيس أبناء الولايات الأقل تأهيلاً على مستوى البنية التحتية، وغالبيتها ولايات داخلية، وهو ما تكشفه بيانات البنك الدولي.

وتعد الشركات الناشئة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة مصدراً أساسياً للتشغيل، وحلاً لنسب البطالة والفقر المرتفعة التي تعانيها الولايات الفقيرة في تونس. إلا أن صعوبة الوصول إلى التمويل في هذه المناطق، وفق تصريحات الخبراء وتحليل بيانات البنك الدولي، يجعلها تدور في حلقة مفرغة من فقر التنمية.

(رسم بياني يوضح مشاريع البنك الدولي في تونس في العشر سنوات الأخيرة والهدف منها).

ويقول سعيدان إن “إمكان تقديم ضمانات بالنسبة الى المناطق الداخلية أصعب من المناطق الساحلية، لا سيما مع شرط توثيق ملكية الأفراد لأصول تمكّنهم من تقديمها كضمان. فنسبة امتلاك شهادات ملكية في الولايات الداخلية أقل بكثير منه في الولايات الساحلية”، وهي عملياً المشكلة التي واجهت بوشناق في الحصول على تمويل.

ويرى بوشناق أن إقامته في ولاية مثل تطاوين، وعدم امتلاكه معارف ذوي النفوذ، يجعلان المسافة بينه وبين حلمه بالحصول على قرض أبعد. وسجلت تطاوين حتى عام 2019 أحد أعلى معدلات البطالة في تونس بواقع 28.7 في المئة، فيما بلغ معدل الفقر فيها العام نفسه 17.8 في المئة.

ويؤكد سعيدان أقوال بوشناق، فيقول “قبل الثورة كان الفساد موجوداً، إلا أنه كان محصوراً نوعاً ما في أشخاص معينين وأوساط معينة. أما الآن، فأصبح متغلغلاً تقريباً في كل المجالات، ووصل حتى إلى مستوى البنوك وأثّر في الوصول إلى التمويل”.

ويكشف المسح الوطني حول نظرة السكان في تونس إلى الأمن والحريات والحوكمة المحلية، الصادر في شهر حزيران/ يونيو 2022 عن المعهد الوطني للإحصاء، وهو مركز تونس الرئيس للإحصاء، أن نحو 19 في المئة من مجمل التونسيين المشاركين في الإحصاء، يقرّون بوجود الفساد والرشوة في عمليات إسناد القروض، وتزيد هذه النسبة لتصل إلى 20 في المئة بين الشرائح العمرية التي تمثل قوة العمل في أي بلد (18-59).

كان يحاول بوشناق أن يكون موضع ثقة أمام عائلته، إذ كان ينتظر الموافقات على التمويل أشهراً طويلة، يستدين خلالها من عائلته، ويعتمد على مدخراته القليلة لدفع المصاريف المصاحبة لتقديم طلب القرض كدراسات الجدوى وخطط المشاريع. وفي كل مرة، كانت عائلته تفقد الثقة به، ويتبخر حلمه بمورد اقتصادي أفضل من أعمال المياومة. يقول بوشناق: “تأثرت علاقتي بأفراد أسرتي، لأن الخسائر المادية والمصاريف كانت تطاولهم أيضاً”.

تقول سوسن الجعدي، رئيسة فرع ولاية القيروان للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تعمل في ولاية القيروان، الولاية الأفقر في تونس وفق أحدث الإحصاءات الرسمية، إن عملها من خلال المنظمة يجعلها قادرة على استشعار غضب الشباب من ضعف قدرتهم على الوصول إلى التمويل، “لا يستطيعون تمويل مشاريعهم الصغيرة، في المقابل هناك أشخاص يحصلون على الموارد بشكل سهل أحياناً، وإن كانوا غير قادرين على سدادها أو لا يقدمون الضمانات اللازمة”.

تضيف سوسن أنه حتى مع محاولات الدولة تشجيع الاستثمار الأجنبي، إلا أن هذا الاستثمار لا يُوجَّه إلى المناطق الأكثر احتياجاً للتنمية. وتوضح: “ساهم إعطاء الحرية المطلقة للمستثمر في اختيار المكان والمجال الذي يريده، في خلق لا مساواة بين الجهات”. وحتى مع توفير برامج وجهات تمويل داخلية كبنك التضامن التونسي، تقول سوسن إن الحصول على تمويل يواجه عقبة الوثائق والإجراءات الإدارية، “لا يكفي أن توفر مبلغاً مالياً للشباب، بل هم بحاجة الى التوجيه والإحاطة والمتابعة. أحياناً هم غير قادرين على تحرير دراسة الجدوى، وبالتالي الاستفادة محدودة”.

وحصلت تونس، وفق البنك الدولي، على 16 قرضاً لمساندة المشاريع الصغيرة والمتوسطة والصغرى بين عامي 1993 و 2022، تمت الموافقة على ستة منها بعد عام 2011، أحدها كان بقيمة 75 مليون دولار، عبر صندوق الودائع والأمانات التونسي وتركز في 3 ولايات: سوسة وصفاقس وقبلي. والأخيرة هي الوحيدة التي يزيد فيها معدل الفقر على تطاوين (19.20 في المئة)، مقارنة بسوسة (14.3 في المئة)، وصفاقس (6.30 في المئة).  

كذلك تلقت تونس قرضاً آخر بقيمة 50 مليون دولار بدأ عام 2012، ومع إقفاله في 2018 وصلت تكلفته إلى 125 مليون دولار، وشمل عدداً من الولايات التونسية، ليس من بينها تطاوين.

وذكر التقرير الختامي للمشروع الأخير، أن استمرار الوضع الهش للاقتصاد التونسي (التقرير يشير إلى عام 2018، عام إغلاق المشروع)، ونسبة القروض المتعثرة في القطاع المصرفي، وندرة السيولة المستمرة في القطاع المالي، سيقوّض قدرة الشركات المتوسطة والصغيرة على الوصول إلى تمويل من النظام المصرفي التونسي، حتى مع نجاحه في تحقيق الهدف المرجو منه، في تسهيل تمويل المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة.

بتحليل البيانات الصادرة عن البنك الدولي بخصوص المشاريع الستة، والمواقع المرتبطة بها، ومقارنتها مع بيانات، مثل معدل الفقر وأعداد الباحثين عن عمل في كل ولاية، توصلنا إلى عدم وجود ارتباط إحصائي بين تكرار استفادة ولايات من قروض البنك الموجهة لدعم المشروعات المتوسطة والصغيرة والصغرى، ومعدل الفقر في الولاية نفسها، أو حتى عدد الباحثين عن عمل فيها.

فعلى سبيل المثال، ظهرت كل من تونس العاصمة وولاية القصرين كولايات مستفيدة من ثلاثة مشروعات قروض مقدمة من البنك الدولي، وبينما تعد تونس العاصمة أقل الولايات في معدل الفقر (4.6 في المئة)، تعد القصرين صاحبة معدل الفقر الأعلى بين الولايات كلها (33.6 في المئة).

وبتحليل البيانات المتاحة عبر مواقع تلك المشروعات ومطابقتها مع بيانات عامة صادرة عن معهد الإحصاء في تونس حول البنية التحتية، مثل عدد كيلومترات الطرق السريعة في كل ولاية، وأعداد السكان، وأعداد ماكينات سحب الأموال المرتبطة بالبنوك، نجد أيضاً أن الولاية الأكثر استفادة من مشروعات البنك الدولي هي الولاية ذات البنية التحتية الأفضل، وليس الولاية الأكثر حاجة الى خلق وظائف، أي الأعلى في معدلات الفقراء وأعداد الباحثين عن عمل. 

في ورقة بحثية نُشرت في موقع صدى الصادر عن مركز كارنيغي بعنوان: “تونس: لا مساواة متزايدة بين المناطق”، رصدت الباحثة الاقتصادية التونسية منال دريدي الاستثمارات العامة التي أدرجتها الحكومة التونسية في خطتها الخمسية (2016-2020)، في مقابل ما تم ضخه بالفعل حتى عام 2020. وتبين أن صفاقس وتونس العاصمة حصلتا على النصيب الأعلى من المشروعات المنفذة، بينما حصلت القيروان وسليانة على نصيب أقل، وهو ما اعتبرته الباحثة “تعطيلاً لتحقيق المساواة في التنمية بين المناطق المختلفة”. وأكده أيضاً الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان متحدثاً عن “مفاضلة لدى جهات تمويل المشروعات المتوسطة والصغيرة والصغرى لمصلحة المناطق ذات الحظوظ الأعلى في التنمية”. 

لكن الخبير الاقتصادي معز الجودي يرفض هذه الفرضية، خصوصاً عند الحديث عن التمويل الأجنبي، مشيراً إلى عوامل أخرى مثل الإجراءات الإدارية المعقّدة المرتبطة بالاستثمار، إضافة إلى عدم قدرة هذه المؤسسات على تحقيق ربحية بسبب الاقتصاد غير الرسمي، والضرائب التي تصل أحياناً في مجموعها إلى 35 في المئة. 

ولم يخف الجودي أن هناك بنوكاً تونسية تفضل إقراض الحكومة التونسية وما سمّاها “المؤسسات الصلبة” الراسخة في السوق والقادرة على تقديم ضمانات، “تمنح (البنوك) الدولة قروضاً لتمويل العجز في ميزانيتها، ما ينفّر بعض البنوك من الاستثمار في مشاريع جديدة ومؤسسات صغرى ومتوسطة”.

واتفق الجودي وسعيدان على أن صعوبة وصول المؤسسات الصغيرة والمتوسطة إلى التمويل، قد تؤدي إلى هروب المستثمرين الصغار إلى بلدان ذات مناخ اقتصادي أفضل كالمغرب ودول أفريقية أخرى، إضافة إلى تعرض البنوك نفسها لخطر خسارة مصداقيتها وعملائها، وبالتالي قدرتها على الحصول على تمويلات أجنبية نتيجة ارتكانها على إقراض الدولة مقابل فوائد عالية. وكون المؤسسات الصغيرة والمتوسطة جزءاً أساسياً من النسيج الاقتصادي التونسي، فإن تعطيل قدرتها على الوصول إلى التمويل، وفق الجودي، هو تعطيل لخلق فرص عمل. تماماً كما قال بوشناق نفسه في ختام حديثه معنا: “لا بنوك بعد اليوم. لم أعد أريد الذهاب إليها”.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.