fbpx

ماذا بعد “نساء، حياة، حرية”؟ النسوية الإيرانية في وجه نظام “الفصل الجندري”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بقدر ما تقلق الناشطات من خطابات المعارضة التقليدية ومحاولات الانقضاض على الطابع الأفقي والنسوي للاحتجاجات الأخيرة، بقدر ما يتخوّفن من اختزال نضال الإيرانيات بمسألة فرض الحجاب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هذه المادة هي ضمن ملف «العمل النسوي وأسئلته المتجددة» الذي شاركت فيه 6 مؤسسات إعلامية من العالم العربي، وهي “الحدود”، و”صوت”، و”درج” و”ميغافون”، و”مدى مصر”، و”الجمهورية”، بدعوة من “فبراير – شبكة الإعلام العربي البديل”.

“فوجئنا حين رأينا ما حدث”. جملةٌ تكرّرت على ألسنة نسويات إيرانيات تحدّثنا إليهن للغوص أكثر في خلفية الواقع الجديد الذي أرسته انتفاضة الإيرانيين/ات في أواخر عام 2022. وفعلُ “فوجئنا” الذي تردّد لفظه، حتماً لم يصدر من عدم. فالجميع كان شاهداً على توفّر كل مسبّبات الاحتجاج. لكن، كما في معظم الثورات، كان يستحيل تحديد لحظة الصفر التي ستُشعل التحرّكات. فكيف استطاعت قضيّةٌ نسوية أن تُطلق حراكاً فيما شكّل الهمّ المعيشي والتضييق على الحريات شرارة معظم الانتفاضات الحديثة الأخرى؟ 

لا إجابة واحدة عن هذا السؤال، لكن يبقى أننا أمام حقيقة جديدة واضحة، هي أن قضيّةً نسوية، بالمعنى المباشر للمصطلح، أعادت إحياء انتفاضة شعبية في بلدٍ نتشارك وإياه هموماً كثيرة. انتفاضةٌ نعلم أنّ قمعَها جارٍ على قدمٍ وساق، وبكل الوسائل العنفيّة والدعائية المتاحة، إلى أن تنبعث شرارة أخرى في ظرفٍ آخر وزمنٍ آخر، بعد عام، أو خمسة أعوام. 

الانبعاث هذا تؤكّده باليقين حقوقياتٌ حاورناهنّ وأصبحنَ اليوم جزءاً من مشهد المُعارَضة الخارجيّة، وكانت أشارت إليه المحامية الإيرانية الشهيرة، شيرين عبادي، في مقال لها، إذ قالت:

“الشعب الإيراني مستعد لدفع أي تكلفة، لأنه كلما قُتل شاب، هتف الناس “آلاف الأشخاص وراء كل قتيل”. 

وصفت عبادي مقتل مهسا (جينا) أميني في نصّها بـ”الولادة الثانية”. هي التي “أثناء دفن جثمانها، تحوّلت الصرخة المكبوتة للإيرانيات إلى شعار “المرأة، الحياة، الحرية”. وطمْأنت إلى أن الرجال الإيرانيين يعلمون اليوم “أن انتصار المرأة هذه المرّة مقدمة لانتصارهم، وأن الديمقراطية ستدخل إيران من بوابة “حقوق المرأة”. 

كيف تقرأ الحقوقيات ما حدث؟

هدأت معظمُ الشوارع في إيران إذاً، لا رغبةً بالهدوء، بل بالبقاء على قيد الحياة. غير أنّ الحشد الذي يقوده مهاجرات/ون ومنفيات/ون إيرانيات/ون لم يهدأ. فالاتّكال عليهم يتضاعف، رغم اعتراف الجميع بأن الاختلافات بين الجهات المُعارِضة كثيرة، بل شديدة التعقيد أحياناً. منها مَن كان يتحيّن الفرصة لينادي بعودة النظام المَلكي، ومنها مَن لا ثقة شعبية كافية لا بحاضره ولا بتاريخه. 

“المطالبة بعودة النظام المَلَكي التي نعود ونسمع بها بين الفينة والأخرى لا تمتّ إلى شعار “نساء، حياة، حرية” بأي صلة، لأنها في جوهرها بطريركية بامتياز”، تعلّق نيلوفار غولكار، باحثة نسوية وأستاذة إيرانية مُحاضرة في جامعة “يورك” في مادّة “النزاعات وسياسات التضامن”.

من الهوامش المحيطة بفسيفساء المعارضة الإيرانية، وكنتيجةٍ مباشرة للتحرّكات الأخيرة، انطلق تيارٌ سياسي جديد في الخارج، نيلوفار هي جزء منه، عَكَسَ، ببساطة، نبضَ الشارع الجديد في الداخل. ولهذا الشارع جذورٌ أخذت تنمو في بدايات الألفية الثالثة في قلب حراكٍ نسوي عُرف بحملة “المليون توقيع”.

هذا الشارع الجديد تقاطعَ فيه الظلمُ الواقع على الإيرانيات مع الظلم الواقع على الأقليات، الكردية والعربية والبلوشية والآذرية وغيرها، ومع الظلم الاقتصادي الواقع على الطبقات غير النخبوية. بعد 16 أيلول/ سبتمبر 2022، التقى شارعان في شخص مهسا أميني، المرأة والكردية، والزائرة التي قتلَها “رمزُ النظام”، أي طهران. 

تقاطعٌ وصفتْه لنا نسرين (اسم مستعار) “بالتلاقي الذي كنا ننتظره، فحدث لوحده، في جسد مهسا المغدور”. ونسرين هي باحثة مقيمة في برلين، أسّست حديثاً مع رفيقات لها في أكثر من ثلاثين بلداً، بينهن نيلوفار غولكار، حركة “نسويات من أجل جينا” المؤلّفة من حقوقيات كنّ نشطن في إيران ضمن حملة “المليون توقيع” و”الحركة الخضراء”، وهُجّر عددٌ كبير منهن نتيجة موجات القمع التي شنّها النظام بوجه الحركتَين.

تقول نسرين، “ربما لو قُتلت مهسا في مدينةٍ أخرى، ما كان ليحدث كل ذلك، بهذا الزخم، وعلى مستوى الوطن”. 

“الشعب الإيراني مستعد لدفع أي تكلفة، لأنه كلما قُتل شاب، هتف الناس “آلاف الأشخاص وراء كل قتيل”.

انتفاضة 2022… فصلٌ مُطوَّر من حملة “المليون توقيع” عام 2006

على رغم عدم توقّع كثرٍ لتبعات مقتل مهسا أميني على يد “دورية الإرشاد” أو ما يُعرف بشرطة الأخلاق، إلا أن التظاهرات الأخيرة لم تأتِ من فراغ، إنما انبثقت من تاريخٍ طويل للإيرانيات مع النضال النسوي، ومن ظلمٍ فُرض فوق مظالم امتدّت على مدى عقود، تحديداً بعد تكريس أسلمة الثورة عام 1979 وفرض الحجاب على نساءٍ كنّ يدعمن ثورة الخميني في بداياتها. تفاقم هذا الظلم خلال عهد حكومة عام 2021، بعد وصول ابراهيم رئيسي إلى سدّة الرئاسة ومعه حكم المتشدّدين والدور المتصاعد لشرطة الأخلاق.

ليلى (اسم مستعار)، 40 عاماً، باحثة وحقوقية غادرت إيران عام 2012. أقامت في السابق في طهران ونشطت ضمن حملة “المليون توقيع” بين عامَي 2005 و2008، وفي “الحركة الخضراء” عام 2009. 

تؤكّد لنا ليلى أن الناشطات اللواتي نظّمن الاجتماعات المصغّرة المحلّية وخطّطن معاً لحملة “المليون توقيع” لمكافحة القوانين التمييزية في إيران، لا بدّ أنهن زرعنَ، من حيث لم يقصدن، بذورَ التغيير اليوم. فتلك الحملة، بحسب ليلى، كان تسنّى للقيّمات عليها وضع أسسها قبل إمساك المحافظين المتشدّدين بزمام السلطة عبر شخص محمود أحمدي نجاد الذي وصل إلى الرئاسة عام 2005. 

كانت “المليون توقيع” فعلياً الحملةَ المُعلَنة والواسعة النطاق الأولى بعد غيابٍ طويل للتحرّكات النسوية، أي منذ التظاهرات النسائية الكبرى التي شهدتها أوائل الثمانينيات وتلتها اعتقالات واسعة لمُتظاهرات اعترضن على القوانين الصارمة التي فرضها رجال “اللجنة الثورية” ثم البرلمان، ومنها قانون الحجاب الإلزامي الذي مهّد لإرساء نظام “الأبارتهايد” أو “الفصل الجندري”. وقد أفل وهج تلك التحرّكات بالكامل مع تأجّج الحرب الإيرانية-العراقية، أو ما عُرف بحرب الثمانية أعوام.  

جاءت “المليون توقيع” في بدايات الألفية الثالثة إذاً لتُعيد بثّ إمكانية التغيير في وجدان الشعب الإيراني، كما فعلت حركة “نساء، حياة، حرية” عام 2022، وإن بأساليب مختلفة. نظّمت ناشطات “المليون توقيع” لقاءات في الشارع ونقاشات عفوية مع الناس ترافقت مع مطالبات إيرانية الصنع بتنزيه قوانين الأحوال الشخصية من التمييز والتفسيرات الدينية الذكورية، تُوّجت في عرائض من التواقيع ومؤتمرٍ كبير بعنوان “تاثیر قوانین بر زندگی در حال”، أي “تأثير القوانين في حياة النساء”، الذي شاركت فيه شخصيات نسوية بارزة في حقبةٍ اعتُقد خلالها أنّ الإصلاح من داخل النظام أمرٌ ممكن.

لا إصلاح من داخل النظام

“اليوم، لا أمل في العدالة أو الإصلاح من داخل النظام. فقد كان أمام فريق الإصلاحيين في السابق فرصة لتغيير قانون الحجاب الإلزامي مثلاً، لكنهم لم يغيّروا شيئاً”،  تجزم الأستاذة الجامعية نیلوفر گلکار. 

 
نیلوفر گلکار، باحثة وأستاذة جامعية إيرانية 

بعد “المليون توقيع”، برزت “الحركة الحضراء” رفضاً لنتائج الانتخابات الرئاسية التي سمحت لأحمدي نجاد بولاية رئاسية ثانية وقضت على أي فرصة للإصلاح. انتقلت معظم الناشطات من المدوّنات والمواقع الإلكترونية -حيث كانت الأسماء والهويات واضحة إلى حدّ ما- إلى مواقع التواصل الاجتماعي -حيث أصبح التخفّي ممكناً- علماً أن السلطات لم تتأخّر في التحكّم بمساحاتها والحدّ من الوصول إليها وشبكة الإنترنت عموماً، واستمرّت في تلك الممارسات التقييدية في فضاء الاتصالات حتّى اليوم.

وكما جرت العادة مع كل حركة احتجاجية في إيران، أكان موضوعها تضخّم الأسعار أو شحّ المياه أو حقوق النساء أو تهميش الأقليات أو الطائرة الأوكرانية، قُمعت حملة “المليون توقيع” و”الحركة الخضراء” وأوقف الكثير من المشاركين/ات فيهما، بمن فيهم نيلوفار التي اعتُقلت عام 2006 خلال مشاركتها في تظاهرة للمطالبة بالإفراج عن خمس ناشطات نسويات مَثلن أمام إحدى “المحاكم الثورية” على خلفية مشاركتهن في “المليون توقيع” وتنظيمهنّ تحرّكاً سلمياً في طهران.

بموازاة ممارسات القمع والاعتقال، تصاعدت موجاتُ الهجرة الموقّتة أو طويلة الأمد التي أسفرت عن الكثير من التحرّكات النسوية التي نراها اليوم في السويد وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية وكندا وغيرها. أُضيفت فصول الهجرات المرتبطة بحملات “المليون توقيع” و”الحركة الخضراء” إلى فصولٍ سابقة غادر مُعايشوها البلاد إمّا عقب ثورة 1979 أو خلال حرب الثمانية أعوام، فأفرزت موجات الهجرة المتعاقبة فسيفساءَ المُعارَضة أو “المُعارَضات” الإيرانية، متأثّرةً بالفروقات الجيلية، بالإضافة إلى اختلافات فكرية وسياسية شتّى. 

من أبرز جذور هذه الاختلافات، رفضُ حقوقيات للتيار النسوي الذي قد لا يمانع التنسيق مع اليمين المتطرف في الغرب خدمةً لقضايا الإيرانيات، وميلُ بعض التيّارات اليسارية نحو شجب كل اصطفاف أو تواصل مع غرْبٍ يصفه بالإمبريالي خشية انتصار انتهازيته المُعتادة. فيظل يساراً على الهامش، صامتاً، كما اليوم مع الملف الإيراني، كما بالأمس مع الملف السوري. 

لا شيء يختفي

اقتضى ذكر ما سبق إسهاماً في بناء فهمٍ أعمق لمنابع انتفاضة عام 2022 التي لا ريب في أن ناشطات عام 2006 غذّين، عبر ما خلّفنه من آثار، وعيَ الكثير من النساء والأمّهات والشابات اليوم، مع العلم أنّ تلك الآثار أو الدروس، بحسب ليلى، كان من الصعب جداً تدوينها وتناقلها آنذاك.

“كنّا أمام تحدٍّ كبير، هو تأمين الاستمرارية داخل الحركات النسوية الإيرانية نفسها والحفاظ على موروثنا للأجيال اللاحقة… فالتسجيل أو ترك أي أثر وسط نظامٍ كالنظام الإيراني كانت أموراً شبه مستحيلة. كنّا نتنقّل من بيت إلى بيت، لا مكاتب ولا عناوين لنا”، كما تشرح ليلى.

يبقى أنّ الكثير من ناشطات الحملة ما زلن فاعلات، ولو من خارج مدنهنّ، وها هنّ يحوّلنَ، من خلال إعادة ضخ الدم في مبادرات التكتّل والتشبيك بعد مقتل مهسا أميني، مشهدَ التنظيم السياسي الإيراني في الشتات، عبر “نسويات من أجل جينا” وغيرها من التجمّعات، ليبرزن تقاطعاتٍ نسوية-عرقية جديدة باتت معالمها أوضح بفضل ما أفرزته، عضوياً، تحرّكات الداخل.

“استطعنا التشبيك مع الداخل الإيراني وحركات المقاومة الكردية ونساء أقلية “الهزارة” في أفغانستان وغيرها من المجموعات، كنتيجة مباشرة لفكرنا النسوي المرتكز إلى محورية المهمّشات/ين من نساء وأقليات، ومحورية التضامن”، كما توضح نيلوفار.

نظام “الفصل الجندري” العميق

من جهة أخرى، بقدر ما تقلق الناشطات من خطابات المعارضة التقليدية ومحاولات الانقضاض على الطابع الأفقي والنسوي للاحتجاجات الأخيرة، بقدر ما يتخوّفن من اختزال نضال الإيرانيات بمسألة فرض الحجاب. فقطعة القماش هذه لا تمثّل نهج السيطرة على لباس المرأة وجسدها فحسب، إنما هي في الأساس أحد الركائز الثقافية لنظام الملالي وصورة “الفصل الجندري” الذي يجسّده في كل مفصل من مفاصله. 

إلى ذلك، أصبح الحجاب، شيئاً فشيئاً، مرادفاً للتهديد الأمني الذي بات يرافق الإيرانيات في معظم مشاويرهن ويدفعهن، يومياً، إلى تطوير استراتيجيات في التعامل مع الأمكنة وتقرير مواقيت وضع الحجاب أو خلعه، تبعاً لخارطة انتشار قوى الشرطة والباسيج والمخبرين. فغدت مسألة غطاء الرأس قصّةً أعمق بكثير من لباس، إذ تحوّلت إلى قنبلة موقوتة يحملنها إمّا فوق رؤوسهن أو داخلها، وأينما ذهبْن.

بالإضافة إلى السياسات المجحفة بحقهنّ في مجالات العمل والزواج والطلاق والوصاية على الذات، تتكبّد الإيرانيات ضريبة العقوبات الدولية والأزمات المعيشية والمائيّة المستجدّة بشكلٍ مضاعف، فيضطررن مثلاً إلى التنقل والسير بعيداً من أجل تأمين المياه، أو العمل لساعاتٍ طويلة في قطاعات غير رسمية وأجورٍ زهيدة من أجل تلبية حاجات أسرهنّ. 

لذا، لم يكن ينقصهنّ أن تزيد “شرطة الأخلاق” الطين بلّة عبر ملاحقتهنّ، لا على عدم وضع الحجاب فقط، بل على طريقة وضعه. وأيضاً عبر إغراق هواتفهن برسائل نصية لاستدعائهنّ إلى مراكز الشرطة لعدم التزامهنّ بطريقة اللباس الفضلى؛ أو حتى في حال وشى بهن شخصٌ ما للسلطات، أحياناً بدافع الانتقام الشخصي، كما تنقل لنا ليلى.

أموالٌ طائلة تجنيها الدولة جرّاء هذه الممارسات والغرامات المالية المترتبة عليها، فيما شعبها أنهكه العوز. وقد وصل بها الأمر إلى تعديل قوانينها التمييزية أصلاً لتصبح أكثر إجحافاً بحق ملايين النساء، فاستحقّت بذلك المرتبة 143 من أصل 146 دولة في تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي للفجوة بين الجنسين عام 2022، عقب إقرارها أحد أسوأ قوانينها. 

ففي نهاية عام 2021، توّجت الدولة الإيرانية استبدادها الديني-الذكوريي بإقرارها قانون “حماية الأسرة وتجديد السكان الشباب” الذي فاقم التمييز وكرّس دور المرأة ككائنٍ مُنجبٍ وحرمها من مجانية معلومات تتعلّق بصحتها الإنجابية ومن الوصول بسهولة إلى وسائل منع الحمل. كما منعَ عنها الإجهاض بالكامل، علماً أن الإجهاض لم يكن متاحاً إلا في حالاتٍ ضيّقة مثل إنقاذ حياة المرأة أو إنهاء حملٍ بجنين مريض. وعليه، ازداد، بحسب فاطمة هاشمي رفسنجاني، ابنة الرئيس الأسبق، عدد الأطفال المولودين مع “الثلاسيميا” منذ بدأت الحكومة هذه السياسات. وأصبحت إمكانية المضي بالإجهاض في الحالات القصوى منوطةً بقرار لجنة قضائية وطبية خاصة تنظر في ملفّ المرأة التي قد تكون على مشارف الموت بسبب حملها.

كل هذه الضغوط لن تمرّ كجرعةٍ أخرى تبتلعها الإيرانيات وتستمر الحياة بعدها. فللمرأة الإيرانية إرثٌ طويل من الاشتباك مع السلطة وتحدّيها، تعود جذوره لا إلى ما بعد ثورة 1979، بل إلى قرونٍ خلت. 

قبل تظاهرات 2022، عرفت إيران الـ”أنا أيضاً” عام 2020، وقبلها عرفت حركة “المليون توقيع” عام 2006، وقبلها الاحتجاجات الرافضة لأسلمة الثورة. وقبل ذلك، تاريخٌ طويل للإيرانيات مع رفض الممارسات الاستغلالية والأبوية، تجلّى في أيقونة النضال العمّالي والنسائي، زينب باشا التبريزية، التي قادت عام 1890 تحرّكات عاملات التبغ خلال حكم الدولة القاجارية، وقبلها الشاعرة طاهره قره العين التي خلعت حجابها عام 1848 خلال اجتماع سياسي ونادت بالمساواة وأُعدمت عام 1852 لانتمائها إلى “البابيّة” وبتهمة “الإفساد في الأرض” التي لا تزال تُطبّق حتى اليوم.

هل يعدم النظام السجينات؟

الإجابة، مبدئياً، هي كلا، على الأقل في الوقت الراهن. علماً أن إعدامَ النساء في إيران ممارسةٌ رائجة لا تُخجل النظام. لذا، تسود في صفوف الحقوقيات/ين حالةٌ من القلق من المصير الذي ستلقاه نساء إيران وجميع الموقوفين/ات، بخاصة الناشطات والصحافيات اللواتي جابهنَ نظام “الفصل الجندري”، ليصبح سيف الدولة مسلطاً على رقابهن، على الرغم من الدعاية التي تشيعها السلطات الإيرانية، بدءاً من تنظيمها “مؤتمر النساء المؤثّرات” مطلع عام 2023 وصولاً إلى إعلان المرشد الأعلى علي خامنئي عن العفو الجزئي والمشروط عن آلاف المتظاهرين/ات في شباط/فبراير 2023، “كهديّة” بمناسبة ذكرى الثورة الإسلامية. 

بين عامَي 2000 و2022، سجّلت منظمة “بوروماند” إعدام 233 امرأة في إيران، 106 منهنّ أُعدمن بتهمة قتلٍ ارتكبْنه، في حالات كثيرة، بحق زوجٍ معنّف أو آخر تزوّجَهن وهنّ طفلات، أو بحق مغتصب، كما في حالة ريحانة جباري، ابنة الـ26 عاماً التي أُعدمت عام 2014 لأنها دافعت عن نفسها. 

في هذا الإطار، من الجدير التذكير بأن إيران تحتل المرتبة الثانية بعد الصين على لائحة البلدان الأكثر ارتكاباً للإعدام. وعام 2020، أعدمت السلطات الإيرانية 9 من أصل 16 امرأة أُعدمن في العالم.

صحافيات في طليعة النضال

في الحديث عن كفاح الإيرانيات، لا بد من المرور على الدور البارز الذي أدّته الصحافيات، تحديداً في تغطية الانتفاضة والحدث الذي أشعلها، أي مقتل مهسا أميني، وكانت أول مَن نقلته وتابعت تداعياته الصحافيتان نيلوفار حامدي وإلاهي محمدي. والاثنتان كيلت ضدهما تهمٌ قيل إن عقوبة بعضها قد تصل إلى الإعدام. أمّا نزيلا مروفيان، الصحافية التي نشأت، مثل مهسا، في سقز، فقد حُكم عليها، دون أي جلسة محاكمة ومرافعة دفاع، بالسجن لعامَين على خلفية نشرها مقابلة مع والد مهسا.

حتّى الآن، تستبعد ناشطات إعدامَ المتظاهرات أو الصحافيات الموقوفات ضمن حوالي 20 ألف معتقل في السجون ممّن شاركوا في الاحتجاجات، وفق إحصاء وكالة “هرانا” الإخبارية حتى كانون الثاني/يناير 2023. برأي ليلى، يدرك النظام جيّداً أنه فَقَد حيّزاً واسعاً من شرعيّته في الداخل، لا سيما لناحية أدائه في ملفّ حقوق النساء. “خطوةٌ كهذه لن يستوعبها الإيرانيون/ات، بمن فيهم المحافظون/ات”.


يِغاني ريزايان، صحافية إيرانية- الصورة من موقع “لجنة حماية الصحافيين”

في هذا الخصوص أيضاً، تحدّثنا إلى يِغاني صالحي ريزايان، وهي صحافية إيرانية وباحثة أولى في “لجنة حماية الصحافيّين”، اعتُقلت عام 2014 لمدّة 72 يوماً، أمضت 69 منها في الحبس الانفرادي، فيما أُبقي على زوجها، مدير مكتب “واشنطن بوست” في إيران آنذاك، الصحافي الإيراني-الأميركي جايسون ريزايان، خلف القضبان، لعام ونصف العام، بتهمة “التجسّس”.

عن تصاعد وتيرة الاعتقالات بحق الصحافيين/ات، تقول يِغاني انطلاقاً من قصّتها الشخصية إنّ “هذا الأمر يجعلني أكثر إصراراً من أي وقتٍ مضى على إلقاء الضوء على ما يمرّ به الصحافيون/ات وزملائي في وطني الأم”. 

وتتابع يِغاني، “يقلقني جداً ارتفاع وتيرة الاعتقالات، لكن أعتقد أن احتمالَ إعدام صحافيين/ات محلّيين/ات يبقى ضئيلاً. إنما الكثير من الصحافيين/ات الذين يُحاكمون اليوم تُفرض عليهم عقوبات قاسية جداً، كالسجن لـ10 سنوات، أو النفي الداخلي، أو المنع من مغادرة البلاد لسنواتٍ عدّة، ومن ممارسة مهنة الصحافة”.

بحسب “لجنة حماية الصحافيين” التي تعتمد تعريفاً مرناً نوعاً ما لمهنة الصحافة، فإن 94 صحافياً/ة حتى أواخر كانون الثاني/يناير 2023 موقوفون أو قيد المحاكمة، نصفهم تقريباً إناث، وفق يِغاني. وعن نسبة الصحافيات الإيرانيات العالية في الميدان، تشرح أن “في المناطق حيث الأدوار التقليدية لا تزال جامدة، تستطيع النساء الوصول إلى الناس وقصصهم أكثر من نظرائهن الرجال”، مشيرةً إلى أن “النساء في مجال التعليم متفوقات على الرجال الإيرانيين، ويساهمن في مختلف قطاعات البلد أصلاً”. 

ماذا بعد “نساء، حياة، حرية”؟

الخوف على مصير إيرانيي الداخل هاجسُ جميع من حاورناهنّ من نساء يدركن تمام الإدراك أن النظام ماضٍ في نيّته عزل الإيرانيين/ات وتحجيم عزيمة كل من يفكّر في الاحتجاج ضده، بخاصة الأكراد، ومعاملة المحتجّين كأبناء ضالّين يجب أن يلتمسوا منه، وبندمٍ شديد، المغفرة والرحمة. 

“بصراحة، ليس لدي أمل كبير الآن”، هو ردّ ليلى على سؤالنا حول المستقبل. وتردف، “لا بديل أفكّر فيه يعجبني. فأنا لا أريد تدخلاً أو احتلالاً خارجياً ولا توترات إثنية جديدة يمكن أن تشجّع على صعود دعوات الانفصال وتؤدي إلى حرب قوميات، ولا أرى أن من مصلحة النظام هدم نفسه من الداخل حالياً”.  

لنيلوفار غولكار رؤية إيجابية بعض الشيء، إذ لمست الباحثة أملاً في التقاء حراك الأقليات مع حراك النساء كفئتين عرفتا التهميش بأشكاله المختلفة، وكذلك من بزوغ سرديات جديدة سيكون من الصعب على آلة النظام محوها من وجدان المجتمع الإيراني. 

في هذا السياق، تتذكّر ليلى مشهداً لم تره في أي تظاهرة شاركت فيها قبل أن تغادر طهران. “عام 2009 حين كنّا على الأرض، أتذكّر أن الناس كانوا يخافون من الشرطة، أمّا اليوم، فلأمرٌ جديد علينا أن نرى كيف يواجه الشبان الشرطة بل يضربون عناصرها ويواجهونهم بهذه الشجاعة. هذا أمر لم يكن يحصل في السابق”.

من برلين، تلاحظ نسرين أنه “لفترةٍ طويلة، كانت نساء إيران معزولات عن العالم. لكن الآن هناك صور تصل وجسور تُبنى وحوارات تدور، وهذا أمر واعد”.

بالفعل، فإنّ كسْرَ العزلة التي عانت منها الإيرانيات طويلاً والتي تعمّد النظام ترسيخها، هو ما ترتكز إليه الكثير من المُبعَدات عن بلدهنّ اللواتي يأملن اليوم أن تنمو روابط التضامن رغم خمول الشارع، لا سيما مع حركاتٍ نسوية في العراق وسوريا ولبنان، “حيث الكثير من الوجع مشترك”. 

تواصُلُ الحقوقيّات مع الداخل مستمر، رغم الحواجز التقنية والقمعية التي يغرسها النظام. وتعويلهنّ الأساسي يبقى على وعي هذا الداخل العالي الذي لا شك في أنه سيولّد تحرّكاً آخر، لكن أيضاً على نبض هذا الداخل الذي لم يعد يطالب بالإصلاح، بل صار يصرخ: “الموت للديكتاتور”.

“لقد انضموا إلى النساء لتخصيب شتلات الثورة”، كتبت شيرين عبادي. 

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.