fbpx

“آخر الحارة”… رحلة عبد الرحمن مصطفى مع هاوية الصحافة والحريات في مصر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كانت الصحافة ما بين 2005 و2011، بمثابة أعوام “ازدهار مؤقت للصحافة” حظيت فيه بحرية نسبية لم تشهدها من قبل، وكان من المتاح لحسني مبارك أيضاً أن يمارس الضغط من جهته، لكن من دون أن ينهي اللعبة بأكملها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ سن الخامسة والعشرين وحتى بلوغه الأربعين، واظب عبد الرحمن مصطفى على عادة سنوية، وهي أن يكتب في مدونته “آخر الحارة” تدوينة تلخص العام الماضي وتطلعات العام الجديد، متأملاً النجاحات والآمال والمخاوف على الصعيدين الشخصي والعام. في الكتاب الصادر عن دار “وزيز”، يستدعي عبد الرحمن مقاطع من تلك التدوينات، ويجري حواراً بين المدون العشريني والثلاثيني والأربعيني بنظرة جديدة، ليسرد تاريخه الشخصي مع التدوين والصحافة وتحولات الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر.

“في مرة التقيت أحد أبناء الشوارع، وقد بلغ الثلاثين، لم تختلف حياته كثيراً عن حياتي، تجولت في مناطق آيلة للسقوط، وخطوت في شوارع تملأها مياه الصرف، وفي النهاية لم أكن غريباً عنهم”.

هذا الشاب هو بطل قصة كتب عنها عبد الرحمن مصطفى في جريدة “الشروق”، عن طفل شارع سابق بلغ الثلاثين، وشعر في أثناء الحوار معه أن بينهما أشياء مشتركة “قضاء أوقات طويلة في الشارع، وأن البيت مكان مؤقت”.

على قسوة الصورة وغرابتها، يمكن أن تكون المدخل لفهم حياة صحافي ميداني، مشاء، متصعلك في الشوارع، يعرفها عن قرب، بحثاً عن الحقيقة، كي يراها ويسمعها بنفسه “بدلاً من تأليف شيء متخيل”، لكن المشي وفق هذا المفهوم، لم يعد متاحاً، ليس فقط بفعل عامل السن، إنما أيضاً لأن هذا النوع من الصحافة لم يعد آمناً في مصر أو حتى مطلوباً.

ما يجعل من كتاب “آخر الحارة” وثيقة مهمة، هو المزاج الذي كُتب به، فعبد الرحمن هنا أكثر من شخصية أحادية التركيب، بل هو يقدم نفسه كشخصية روائية متأملة ذات أبعاد معقدة ومتداخلة، ساهمت في صنع ما صار عليه، سواء عبر إنتاجه الصحافي المميز، أو من خلال حياته الشخصية، التي تمثل جيلاً من الكتاب والصحافيين، وإن كان عبد الرحمن في الآن عينه لا يشبه إلا نفسه، إلا أن ثمة تقاطعات مع منابع القلق نفسها.

الرواية بوصفها تحقيقاً

لغة السيرة الذاتية، التي تتأمل العام من خلال الخاص، والخاص في سياق ما يحمله الفضاء العمومي من ضغوط ونذر، تجعل من ذلك الكتاب قطعة أدبية وتحقيقاً اجتماعياً مطولاً عن إنسان وعن وطن. فكل شيء هنا يُفحص بعمق، ويستند إلى المعلومة الموثقة، الحقيقة واللغة الذكية وتقنيات السرد القصصي.

يذكرنا عبد الرحمن ساخراً ومتأملاً وموقناً بأهمية السعي إلى الحقيقة، على رغم انحيازاته، عندما شدد على موقعه كراصد ومراقب، يجلس في آخر الحارة، بعض تحقيقاته الصحافية وتدويناته كانت أحياناً تصطدم مع معسكر الانحيازات الذي ينتمي إليه.

يقول في نبرة لا تخلو من السخرية والشعور بالعبث:

“المفارقة أنني وأغلب أبناء الجيل العظيم لا نبدي أي اهتمام بالظهور كأصحاب تجارب، أسسنا وشهدنا تأسيسا، ثم أصبحنا جزءاً من العدم، لم يعد هناك من يهتم بالحديث عن أشياء رآها قبل 20 سنة.. الآن تدرك حكمة الرئيس مبارك الذي تورطت في الثورة عليه، ألم يقل خليهم يتسلوا؟ كان الرجل عدمياً أكثر من ادعاءاتك بالعبث واللاجدوى. أنت من هذا الجيل الذي لم يتعلم شيئاً، ولا يراهن على شيء، بلغ النضج دون أن يعلن، وصنع تجارب دون أن يدرك أهميتها”.

فرادة عبد الرحمن أنه حمل معه سمات عدة، فهو باحث ومؤرخ وصحافي ومدون وكاتب يستخدم اللغة الأدبية وتقنيات السرد القصصي ومتفلسف مع مزاج اكتئابي باحث عن الكمال مليء بالوساوس تجاه الحقيقة، حتى إن لا شيء يشفيه من تلك الوساوس إلى أن يتفحص تلك الحقيقة بعينه، ويحدق إليها وجها بوجه عبر عمله الميداني، بشجاعة المحدق إلى الهاوية مع إدراكه الحساس لتحذير نيتشه الشهير أن الهاوية أيضا ستنفذ إليك، كشخصية تراجيدية طالعة من قلب المسرح الإغريقي، يرى عبد الرحمن نفسه، مع تردد عميق يشل عن الحركة أحياناً، يذكرنا بتردد هاملت في كل خطوة عن تفكر وشك وشاعرية وحس ذاهل بالمعرفة أيضاً، فكل كلمة هي إشارة، وكل حديث عابر هو قطعة في “بازل” تتنظر التكوين النهائي لتفسيرها، وكذلك مزاج ساخر وتقلب متطرف بين الأمل والعدم.

“ألوان الحياة”

رحلة ثرية خاضها الصحافي والمدون ومدير التحرير الحالي لموقع قناة فضائية عربية، عبد الرحمن مصطفى، ما بين منتديات ومدونات العالم الافتراضي، العمل من خلال موقع إلكتروني إلى عين الاشتباك مع الواقع من خلال عمله الصحافي الميداني، كمحرر لواحدة من أهم صفحات التحقيقات الاجتماعية التي ظهرت في مصر، صفحة “ألوان الحياة” في جريدة “الشروق”، الورقية.

رحلة مر بها معظم أبناء جيلنا، كانت الصحافة ما بين 2005 و2011، بمثابة أعوام “ازدهار مؤقت للصحافة” حظيت فيه بحرية نسبية لم تشهدها من قبل، وكان من المتاح لحسني مبارك أيضاً أن يمارس الضغط من جهته، لكن من دون أن ينهي اللعبة بأكملها، بإمكان ضباطه ممارسة التعذيب مثلاً ويمكننا أن نكتب عنه، ” أن يصل الفساد للركب”، وأن يكون صاحب الجملة. صفقة عادلة بمعايير تلك الأيام.

أنتجت صفحة ألوان الحياة، عددا كبيرا من التحقيقات المطولة والمعمقة التي رصدت وحللت ظواهر وتغييرات في مصر، في لغة هي بين الصحافة والأدب والتاريخ والتحليل الاجتماعي والتوثيق، بوصلتها المهنية والتوثيق بحثا عن “الحقيقة”، وهو ما ميزها حينها ليس فقط عن الصحف المنافسة، إنما أيضاً على بقية الأقسام في “الشروق”. بحيث بقيت طبيعة صفحة “ألوان الحياة”، أشبه بمعيار مثالي لما يجب أن تصبح عليه الصحيفة والصحافة عموماً.

في تلك الفترة، كانت قضايا التعذيب داخل أقسام الشرطة، ملفاً مطروحاً في المدونات والصحف المستقلة، التي أجبرت “الإعلام التقليدي” على الالتفات إليها. حصل عبد الرحمن وقتها على فيديو غامض لفتاة معلقة بكرسي من يديها، وقدميها تستجدي ” الباشا” الذي يسبها بقسوة، فنشره وفق أدواتنا المتاحة كمدونين على حسابه على “يوتيوب”، قبل أن يحذفه الموقع بعد البلاغات بمحتواه العنيف، فطلب منه مدون مشهور، نشره عبر مدونته، لتنفجر القصة، ويشكك بها الإعلام التقليدي، لكن يظل الملف نفسه مفتوحاً وقد أجبر ذلك الإعلام أيضاً على التحديق في الهاوية.

عام 2008، يرصد المدون المتسلل حديثاً إلى الصحافة “على ما يبدو أننا مقبلون على ملامح تغيير، أو ادعاء تغيير، أو تهديدات بالتغيير في داخل النخبة الحاكمة”، ويسأل “هل هي فوضى خلاقة أو حتى استثارة خلاقة؟.. تستثير كي تستند إلى أي حس شعبوي من أجل كسر شوكة رجال الأعمال والسياسيين أصحاب النفوذ”.

قبل ثورة 25 يناير بأسابيع، يعود من مدينة السويس لغرض صحفي، ليدرك أن “هذه المدينة ستنفجر قريبا”.

بعين المدون، المتأمل، الصحافي المتصعلك في الشوارع “تعباً على الحقيقة” يرصد عبد الرحمن ما حدث، مذبحة ماسبيرو، انتخاب محمد مرسي تشفياً من أحمد شفيق، التأجيج الطائفي للإسلاميين، صعود حازم أبو إسماعيل، مطاردة الأهالي للمتظاهرين في اعتصام العباسية وصولا إلى ما حدث في رابعة، ولحظات الانفجار التي أعقبها إخراس ممنهج للجميع.

في لحظة مشرقة شبيهة بكشف حساب ومحاطة بشك عنيف من الذات من المحيطين يقرر فريق صفحة ألوان الحياة، في العدد رقم ألف بصحيفة الشروق أن يروي في ملف من صفحتين، الموضوعات التي طرحوها خلال ثلاثة أعوام من العمل، ليختاروا أن يروى الملف على طريقة ألف ليلة وليلة، يكتب عبد الرحمن في صدارة الملف:

“تسعى شهر زاد في حكاياتها وراء أفراد على الهامش، كانت لديهم القدرة على الفعل، وفي الألف ليلة الأخيرة من حياتنا، كان هناك من يعملون على الهامش، ولا ينتظرون سوى رضاهم عن أنفسهم واثقين أنهم سينتقلون إلى واجهة المشهد قريباً”.

“في مرة التقيت أحد أبناء الشوارع، وقد بلغ الثلاثين، لم تختلف حياته كثيراً عن حياتي، تجولت في مناطق آيلة للسقوط، وخطوت في شوارع تملأها مياه الصرف، وفي النهاية لم أكن غريباً عنهم”.

يستعرض الملف موضوعات تنبأت باتساع ظواهر في بدايتها، كحوار مع شاب عادي يتضح لاحقاً أنه أحد مديري صفحة خالد سعيد على “فيسبوك”، أو لقاء مع مغني مهرجانات شعبية مغمور، اتخذ سبيله إلى عالم السينما والشهرة لاحقاً.

يذهب الصحافي إلى سيناء ضمن فريق عمل الصفحة عام 2012، بعدما وقع هجوم إرهابي استهدف جنوداً مصريين قرب الحدود في شهر رمضان قرب الإفطار، لإنجاز ملفاً مهماً عن “أطياف التدين في سيناء”وكيف يتجاور التطرف مع الصوفية والسلفية” يلتقي هناك بجمع من أصحاب النهج السلفي، بعضهم له ماض جهادي.

إنجازات يفكر العاملون في الصحيفة نفسها بجدواها “من أنت لتحجز صفحة كاملة بموضوعاتك؟”.

كان العالم ينفجر، ويرغب الجميع في أخبار والمزيد من الأخبار، لكن ما بدا أنه إرهاصة بإيقاف التدقيق والتدبر والتأمل والرصد، تحول لاحقاً إلى سمة الصحافة بأكملها.

“هذا تحديداً ما يكرهه أبناء جيلي في هذه المهنة، بعدما رأوا كيف انتعشت في فترة صعودهم المهني، وبالتالي لا يرغب أي منهم في أن يتحول إلى نموذج من الذين كان يكرههم ومر بهم في مسيرة حياة المهنية”.

لم تكن تجربة “ألوان الحياة” في “الشروق” هي التجربة الوحيدة المهمة التي انتهت.

صارت الصحافة الميدانية والتعب على الحقيقة، لعبة خطرة على من يمارسها، وفي عرف تلك الجهات صارت تهدد “الأمن”، لذا يختار عدد من الصحافيين النابهين في ذلك الجيل، الانسحاب من الصحافة برمتها، أو السفر خارج مصر أو العمل بعيداً من دوائر الصدام التي لم تعد متاحة في الأساس، اختار عبد الرحمن مصطفى – مرغما وبكامل إرادته في آن- بعد تغير الواقع الذي صار غير مشجع، أن يواصل العمل من خلال غرف إنتاج أخبار موقع قناة إخبارية عربية كمدير تحرير، ليس أمرا سيئا، بل ترقيا طبيعيا مستحقا يتناسب مع عمره وخبراته، إلا أن أدركت أنها خيار نتيجة إغلاق الخيارات الأخرى، كالصحافة السردية، التي لم يعد مجالا لانتاجها أو نقل خبراته الطويلة بها إلى جيل أصغر.

أغلقت صفحة ألوان الحياة بعد ضغط طويل عليها كي لا تستمر، وفُكك الفريق الشاب في المصري اليوم، في صفقة غير معلنة بعد 2014 كي لا تغلق الصحيفة بأكملها، فصار أغلبهم يعمل من خارج مصر، تحت وطأة الواقع السياسي الطارد، فيما يشبه نفياً غير معلن. 

لعبة “العثور المهني على الحقيقة” من قلب الشارع، لم تعد أمرا مطلوبا الآن، ليس فقط لميل الإعلام المصري منذ العام 2014، أن ينتج الصحافة السريعة القائمة على الإثارة والتضليل، مستبعدا الصحافة الميدانية والموضوعات المعمقة، بل كذلك استبعاد فكرة الحقيقة من الأساس، حيث يتسلمها الإعلام جاهزة ومعلبة من جهات معينة، وتوزع على المواقع والصحف والبرامج، بينما تحجب المواقع الصحفية التي ترغب في عرض الحقيقة، إنها سنوات ” الكذبة الموحدة” الحقيقة الوحيدة المتاحة.

تعمق قصص الحب غير المكتملة، الموجودة في معظم الفصول، شعور العبث واللاجدوى، توق المتصعلك إلى الاستقرار، وخوف المستقر من أن يفقد خيار التصعلك، إذا ما قدر له النهوض ثانية، منطلقاً في الشوارع “بحثاً عن الحقيقة”، كهاملت لكن من دون أوفيليا، التي تهرب في كل مرة، بدلاً من الانتحار، فمن يمكنه أن يتحمل حياة كاتب صحافي متوحد مع مهنته إلى هذا الحد؟

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.