fbpx

نصائح معالجتي النفسية في دمشق تنجح فقط في أمستردام

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان كل ما أريده من أي جلسة علاج نفسي ألّا يتم التعامل مع مشكلاتي كما يتم التعامل مع الزائدة الدودية، على أساس أنها حالة شائعة ولها حل واحد، لا يمكن تنفيذه إلا في أمستردام. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ما اسم المعالج النفسي الذي تزوره؟ السؤال الشائع اليوم في سوريا، تجارب وحالات كثيرة وأسماء لمعالجين نتناقلها كما نتناقل أسماء أفلام أو مسلسلات جيدة للمشاهدة، كل المعالجين جيدون حتى إثبات العكس، نميل كسوريين لاختبار التجربة بأنفسنا حتى ولو كان موضوع التجربة صحتنا النفسية. لا يمكن لومنا، فكل ما حدث طوال عقد والانغلاق الذي نعيشه، إضافة إلى الأحداث المتتالية كانت كفيلة بأن تجعل منّا ما نحن عليه الآن.

احتاج الطبيب الذي قصدته صديقتي إلى ثلاث دقائق فقط كي يشخّص حالتها النفسية تحت اسم مرض نفسي شهير، مرض يحتاج تشخيصه في الحقيقة إلى جلسات تمتد لأشهر أو أكثر، لكن في سوريا يحتاج تشخيص بعض الأمراض الخطيرة إلى ثلاث دقائق فقط، ثلاث دقائق غير كافية حتى ليتحدث مريض فيها عن مشاعره في موقف واحد عاشه خلال حياته، المحزن أن الدواء الذي وصفه الطبيب لصديقتي كاد يتسبب في موتها أيضاً خلال 3 دقائق.

لكلّ سوري قصته مع العلاج النفسي، بخاصة مع تزايد الإقبال عليه في ظل الانهيار السوري بكل اشكاله. “اذهبْ إلى الطبيعة، مارسْ الرياضة، حاولْ أن تنام باكراً”، هذه هي النصائح التي أعطتني إياها المعالجة النفسية في أول جلسة لي معها في سوريا. كنت قد حاولت خلال إقامتي في مصر الذهاب إلى المختصين للتعامل مع وضعي النفسي وإيجاد سبل لتحمّل ضغوطات تلك الفترة والخروج بأقل الخسائر، ولكن للأسف كانت الجلسات تنتهي بعكس الأدوار، لأحاول كما عادتي أن أسأل الطبيب وأسمعه من دون أن أشعر بأن العكس هو الصحيح، لم أشعر بالفائدة في مصر بل على العكس تدهورت حالتي. عدت إلى سوريا واليوم أكمل الشهر الخامس في دمشق، أقوم بعملي على أكمل وجه وكأنه الشيء الوحيد الذي أحترفه في كل مجالات حياتي. اختبرت كوارث وأزمات خلال هذه الشهور، منها المرور بعلاقات سامّة.

قصصنا واحدة، عباراتنا واحدة، وحتى أفكارنا واحدة، ولكنني إلى اليوم أؤمن بأن المراحل التي نمر بها غير متشابهة

الغريب أننا وبرغم كل ما نعانيه كسوريين من هزّات وأزمات نفسية لا نتوقف عن اختيار بعضنا كشركاء، لتبلغ العلاقة السامّة أوجها بين شريكين، يحملان من الخيبات ما يكفي لتدمير بلد بأكمله وليس علاقة فقط، ولكننا على ما يبدو أشبه بجملة المغني بوكلثوم التي قالها في حفلته الأخيرة “ماحدا بيعرف السوري إلّا السوري”. اعتمدناها دون تفكير، عايشتُ تناقضاً في المشاعر تجاه كل ما نمر به،  ولكني بعد الزلزال لم أتمكن من التعبير أو اختبار أي شكل من المشاعر، رغم كمية الخذلان والخيبة، حصل ذلك منذ حادثة وفاة أحد أقاربي عن عمر صغير وبخطأ طبي، منذ وفاته وأنا أقف في مركز هذه الدائرة كلها، من دون أن تتشكل داخلي أي مشاعر تجاه كل ما يحدث، كان جل اهتمامي ألّا يتأثر عملي وأن أستمر في محاولة الانفصال عن هذا الواقع.

حادثة جديدة في حياتي سببت لي “تروما” وهي إحدى الكلمات المتكررة في سوريا، وأفضّل أن أستخدمها كونها جذابة أكثر من عبارة “صدمة نفسية”، كما أن تسمية “تروما” باللغة الأجنبية، محاولة صغيرة لنشعر بأننا جزء من العالم وأننا لسنا وحدنا من يواجه صدمات.

نحن الشعوب المتهالكة نبرع في التشبه بأي شيء يجعلنا نشعر بأننا ننتمي للحالة الطبيعية، حتى لو أن هذا التشبه كان عن طريق صورة شخصية أو حالة ظهور بشكل معين أمام الكاميرا، أو اللحاق بتحدٍ أو “تريند” ما، ما المشكلة في أن يكون حديثنا اليوم عن الذكاء الاصطناعي وفي الحارة التي تليها عائلة تفترش المقابر بعد نجاتها من انهدام منازلها في الزلزال؟ إنها الحالة الطبيعية السورية.

قراري بالذهاب إلى طبيب نفسي كان بسبب آخر صدمة نفسية تعرضّت لها، قررت بعدها أنه حان الوقت لأتخلى عن نصائح سائقي “التاكسي” والناس الغرباء الذين أصادفهم ونناقش مشاعرنا معاً. حان وقت التوجه لزيارة مختص يأخذ كل الكلام والقصص التي أرويها على محمل الجد، من دون أن يتم تعميمها أو تشبيهها بقصة أخرى. حجزت موعداً وعشت قلقاً شبيهاً بالذي كنت أعيشه قبل أي امتحان دراسي، فمن أكبر المغامرات أن تختار معالج نفسي في سوريا، شخص يتشارك معك نفس الأحداث على الأقل  أو جزءاً بسيطاً منها، استيقظت باكراً وذهبت إلى الموعد،  اختياري لهذه المعالجة كان بعد نقاش مع أصدقائي، سألتهم عن الأسماء التي يعرفونها أو عن تجاربهم مع المعالجين النفسيين، اتفق شخصان على اسم واحد، لم أتردد في الاتصال به وأخذ الموعد، حيث كان من المفترض أن أذهب إلى عيادة الطبيبة لكن ذلك نغير حين طلبت أن أذهب إلى مكتبها في الجامعة والذي تستخدمه في عملها كأستاذة في أحد الكليات في جامعة دمشق، كان الذهاب إلى الموعد بمثابة تحد إضافي، إذ ذكرني بالمرحلة التي عانيت فيها من كل أشكال تقييد الحرية في الجامعة، وبخاصة  أن مكان الكلية هو من أسوأ الأماكن البصرية في دمشق “منطقة البرامكة”، المكتظة بكل أشكال الانهيار. لذلك حتى التمهيد للجلسة كان مأساوياً، وصلت بعدما تهت في المكان، بدأت بالكلام مثلما أبدأ في كل مرّة بالحديث عنّي لأي شخص، طرحت الطبيبة أسئلة سبق أن توقعتها وسجلتها في عقلي قبل الحضور. استمرت الجلسة نحو 50 دقيقة، انتهت بنصائح شعرت إزاءها أنني أعيش في أمستردام، حيث يمكن تطبيق شروط الحياة الهانئة الصحية. كأن أخفف الكحول… إنها اقتراحات لا تنفع في دمشق، أما في أمسترادام فكل أنواع الحشيش مشرّعة، فيما سوريا تعتبر الحشيش تهمة. نصحتني أيضاً بالانفصال عن هذا الواقع، وهو مستحيل، وأكدت أن علي تقليص ساعات عملي، وهو ما لا أستطيع فعله لأنه مصدر رزقي الوحيد في هذه البلاد التي تسبقنا في انهيارها الاقتصادي. وعن نصيحة الارتماء في أحضان الطبيعة، فكيف ذلك وأنا أعيش في مدينة يخنقها الإسمنت والاكتظاظ.

كانت تلك التفاصيل مؤشرات سلبية، ابتداءً من مكان المكتب إلى لون الغرفة القاتم الذي يدخل في دماغك ويعبث بذكرياتك السيئة وطفولتك، دراستك وجامعتك مع شكل الأبنية الكئيبة لدوائر ومؤسسات الدولة الرسمية، وصولاً إلى النصائح التي يمكن لأي شخص أن يسديها إليك من دون أن يفقه شيئاً في الطب النفسي. وكلما حدّثتُ أحد أصدقائي عن تلك الجلسة، توصّلت إلى نتيجة أن الجميع وصلته هذه النصائح وأن الحالا كلها متشابهة والنصائح واحدة.

كان كل ما أريده من أي جلسة علاج نفسي ألّا يتم التعامل مع مشكلاتي كما يتم التعامل مع الزائدة الدودية، على أساس أنها حالة شائعة ولها حل واحد، لا يمكن تنفيذه إلا في أمستردام. 

قصصنا واحدة، عباراتنا واحدة، وحتى أفكارنا واحدة، ولكنني إلى اليوم أؤمن بأن المراحل التي نمر بها غير متشابهة، نعيش الأثر ذاته ولكننا نختلف في كل تلك المراحل المتراكمة، نتشارك هموماً كثيراً وأحداثاً فظيعة، لكن أمنياتنا كانت أن نحصل على قصص هروب أو نجاة من هذا كله مختلفة.