fbpx

الصحافيون في فلسطين… “عين الحقيقة” المستهدفة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا يحتاج الجندي الإسرائيلي إلى مبرر قوي لإطلاق النار على أي فلسطيني، فالجندي بحسب “نداف وايمان” نائب مدير منظمة “كسر الصمت”، وجندي سابق في الجيش الإسرائيلي في وحدة القنص 2008، يستطيع إطلاق النار على أي فلسطيني وقتله

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عبر سلسلة من الإجراءات التعسفية يستهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي الصحافيين الفلسطينيين، تارة بمنعهم من التنقل والحركة، وطوراً بمنعهم من التغطية والتضييق على عملهم، أو باستهدافهم بالرصاص بمختلف أنواعه، وبقنابل الغاز السام المسيل للدموع وقنابل الصوت، وصولاً إلى استهداف عيونهم، بل وإصابتهم وقتلهم كما حصل مع الصحافية شيرين أبو عاقلة العام الماضي.

رصد تقرير الحريات لعام 2022 الذي أعدته “نقابة الصحافيين الفلسطينيين”، أن الانتهاكات الإسرائيلية تنوعت بين الاحتجاز والمنع من التغطية، وهي ممارسات كان لها النصيب الأكبر من حيث عدد الحالات التي سجلت بواقع 320 حالة، والقتل المتعمد والاعتقال والاستهداف بالرصاص، إذ اخترقت 51  رصاصة أجساد صحافيين، إضافة إلى المنع من السفر والعرض على المحاكم والاستدعاءات والاعتداء بالضرب وغيرها من الانتهاكات التي تهدف إلى منع الصحفيين من ممارسة عملهم.

في هذا التحقيق الصحافي، نسلط الضوء على استهداف قناصة الجيش الإسرائيلي عدداً من الصحافيين، خلال تغطيتهم مسيرات سلمية في مناطق عدة من الضفة الغربية وقطاع غزة، لنكشف بما لا يدع مجالاً للشك استهداف قوات الاحتلال لعيون الصحافيين، والذين فقدوا عيونهم بعد ذلك.

لا ساتر يحمي!

لم يكن المصور الصحفي معاذ عمارنة (35 سنة)  يعلم أن ذهابه في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، إلى بلدة صوريف شمال غربي الخليل جنوب الضفة الغربية، لتغطية فعالية أسبوعية، بإقامة صلاة الجمعة على أراض تمت مصادرتها لصالح الاستيطان، ستفقده عينه، برغم أنه تجهز بكل ما يلزم، وتحصن وراء ساتر، كما يفعل الصحافيون وقت التغطية.

عمارنة وصل المكان في صوريف مع بداية قمع الجيش الإسرائيلي للمشاركين، موضحاً، “لقد وصلت منطقة الحدث متاخراً قيللاً، ولاحق الجيش الشبان، وأصبح الصحفيون خلف دوريات الجيش، لقد شعرت منذ بداية الحدث أن شيئاً سيحدث، بخاصة أن الجيش يتعامل مع المشاركين في الفعالية وحتى الصحافيين بقمع غير مبرر، وما زاد الشك بحدوث أمر ما أن ضابطاً كان يسأل الصحافيين حينما يمرون من أمامه باستهزاء عن مكان عملهم”.

يدرك معاذ عمارنة طبيعة تغطية الأحداث، كما اعتاد تصوير مئات الانتهاكات الإسرائيلية، لكنه في حادثة إصابته تحصن خلف ساتر ترابي، يقول: “لقد كانت المواجهات في الشارع، وكنت أحتمي بجانب الشارع، حيث يغطي درع الصحافة صدري، ودائماً إصابات الجيش حين الاستهداف تكون بالأطراف، حينها اختبأت خلف الساتر الترابي ولم يكن أي شيء ظاهراً مني سوى الجزء العلوي من جسدي، لكن تم استهدافي!”.

استهداف متعمد

رغم الإجراءات الاحترازية لحمايته والتي تحول دون تعرضه للخطر، بعد دراسته لميدان العمل، لكن معاذ عمارنة لم يسلم من الإصابة، فقد استهدفه قناص إسرائيلي بعيار ناري استقر بعينه، واستبدلت عينه بعد رحلة من العلاج بأخرى بلاستيكية تجميلية، والرصاصة ما زالت بمكانها لا تمكن إزالتها كونها تشكل خطراً على حياته.

لم يتوقع معاذ أن تكون إصابته بالوجه أو الرأس، فهو كما يقول: “يرتدي ملابس وخوذة الصحافة، وأخذت بالحسبان احتياطاتي الكاملة، وكان الجيش يراني بشكل واضح، أنا أعتقد أن الإصابة كانت متعمدة”.

أمر بالقنص

كانت المسافة بين المصور الصحافي معاذ عمارنة وبين القناص الذي أطلق عليه النار لا تتجاوز 30 متراً، وكان يراه، لكن معاذ تزداد قناعته بأنه مستهدف بشكل مقصود حينما تحدث الضابط المسؤول عن الوحدة باللغة العبرية مع القناص إثر جدال حصل بينه وبين معاذ، ما يعني أن الضابط أعطى أمراً للقناص باستهدافه.

يقول معاذ: “إصابتي كانت بشكل متعمد، لأن نسبة الخطأ عند القناص (صفر)، الرصاصة لم تكن طائشة، بل رصاصة تعرف هدفها أطلقها قناص يتبع لوحدة (حرس الحدود) بسلاح (روجر) عادة يستخدمه قناصة جيش الاحتلال الإسرائيلي عدا عن تعاملهم قبل الإصابة وبعد الإصابة معي ومع بقية الصحفيين يثبت الاستهداف، كما شاهدت القناص الذي أصابني قبل الإصابة بعشرين دقيقة وكان يستخدم سلاح (روجر) ولم يكن جندي أو قناص آخر يستخدم السلاح غيره”.

“الشعور بالخطر” يعني القتل!

لا يحتاج الجندي الإسرائيلي إلى مبرر قوي لإطلاق النار على أي فلسطيني، فالجندي بحسب “نداف وايمان” نائب مدير منظمة “كسر الصمت”، وجندي سابق في الجيش الإسرائيلي في وحدة القنص خدم في قطاع غزة والضفة الغربية بين عامي 2005 و 2008، يستطيع إطلاق النار على أي فلسطيني وقتله، بالرغم من أنه يكون قادراً على إطلاق النار على المناطق السفلية لكن هذا لا يحصل كثيراً، ويكفي الجندي الإسرائيلي مبرر “الشعور بالخطر” لإطلاق النار وقتل أي فلسطيني.

منظمة “كسر الصمت” هي منظمة إسرائيلية تأسست عام 2004 من قبل جنود مسرحين من الجيش الإسرائيلي خدموا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي مناهضة للاحتلال، ومتخصصة بنشر انتهاكات جنود الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، وتؤكد أن هدفها “رفع مستوى الوعي للواقع اليومي، الذي يعيشه الفلسطينيون”.

هناك مساحة واسعة أمام الجندي الإسرائيلي للقيام بما يريد، حيث يقول وايمان: “عندما كنت جندياً كان هنالك ما يسمونه  spice up، وهذا يعني أن الجندي الإسرائيلي بإمكانه إضافة أي تفاصيل يريدها لوصف الحدث الذي أمامه لقائده المباشر”.

ووفق وايمان، “فعلى سبيل المثال بإمكان الجندي القول عن فلسطيني يقف مقابله ويدخن سيجارة بأن ذلك الفلسطيني يحمل شيئاً خطيراً داخل ملابسه ويدخن سيجارة، وربما بعد ذلك، يتلقى أمراً من قائده بإمكانية إطلاق النار بشكل مباشر على ذلك الفلسطيني، ولا بأس إذا أطلقت النار على نافذة منزل إن كانت الستارة تتحرك بذريعة وجود شخصٍ خلفها!”.

في الغالب، وبحسب وايمان، فإن الجنود الذين أطلقوا النار على الفلسطينيين لم يكن يفترض أن يطلقوا النار، كما لا يحاكم أحد منهم عند قتله أي فلسطيني، بذريعة عدم وجود أدلة كافية، ويبدأ التحقيق عادة بعد انتهاء الخدمة العسكرية لذلك الجندي، والتحقيق يكون تغطية على الحدث الحقيقي، والجنود يعلمون أنهم لن يٌعاقَبوا على أفعالهم، حتى إذا قتلوا صحافيين وأطفالاً، “وحتى لو جمعت الأدلة لم نرَ جنوداً ذهبوا إلى السجن، ولم يرسل أحد لهيئة المحلفين”.

يذكر أنه وفي حالات نادرة جداً يخضع الجنود للمحاسبة الجنود اعتدائهم على الفلسطينيين وفي الغالب تكون العقوبات غير متناسبة مع الفعل، كما حدث مع الجندي “أليئور أزاريا” الذي أُدين بتهمة القتل العمد بهدف الانتقام بعد قتله الشاب عبد الفتاح الشريف في مدينة الخليل عام 2016، وحُكم عليه لمدة 18 شهراً ثم تم تخفيضها إلى 4 أشهر. 

مدير “برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنظمة العفو الدولية”، فيليب لوثر يعقب على تقرير بعنوان “سعداء بالضغط على الزناد”: تهور الجيش الإسرائيلي في استخدام القوة في الضفة الغربية، بالقول: “إن التقرير يعرض مجموعة من الأدلة التي تُظهر وجود نمط مروع من عمليات القتل غير المشروع، وإلحاق الإصابات بالآخرين، دون داعٍ تمارسه القوات الإسرائيلية بحق المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية”.

ويؤكد لوثر، “أن تكرار لجوء الجنود وأفراد الشرطة الإسرائيليين إلى استخدام القوة التعسفية والمسيئة ضد المحتجين السلميين في الضفة الغربية- وما يتمتع الجناة به من إفلات من العقاب على أفعالهم- إلى أن ذلك يتم كما لو كان تنفيذاً لسياسة معتمدة”.

في غزة… لا حصانة لأحد

خدمة الجنود الإسرائيليين في قطاع غزة تبدو مختلفة نوعاً ما، “فلا قواعد اشتباك خاصة هناك، على سبيل المثال: أثناء قمع مسيرات العودة السلمية الجنود كانوا يطلقون النار على أي شيء يتحرك، فلا حصانة لأحد”، يؤكد نداف وايمان.

ما حصل مع المصور الصحافي عطية درويش يوم 14 كانون الأول/ ديسمبر 2018، يثبت استهدافه في منطقة العين، حيث أنه وأثناء تغطيته لمسيرات العودة في قطاع غزة، جرى استهدافه بقنبلة غاز مسيل للدموع بشكل مباشر أصابته بوجهه (أسفل عينه اليسرى)، رغم ارتدائه الزي الصحافي الكامل، ووقوفه على بعد 300 متر من السياج الفاصل الذي ينتشر جنود الاحتلال على جانبه،  وبعد نحو عام من الإصابة فقد درويش عينه وفشلت محاولات إنقاذها.

وبحسب التقرير الطبي المتعلق بإصابة درويش، فإن قنبلة الغاز أحدثت اختراقاً قدره 7 سم في عظم وجهه، أدى إلى ضرر بالفك والأذن والعين اليسرى، وأجريت له بعد يومين من الإصابة عملية استئصال العظم الذي تفتت وتركيب بلاتين في وجهه لتجبير مكان الإصابة، كما تبين بعد فحوص في مستشفى العيون أن حالته تستدعي إجراء عملية في العين لتضرر شبكية العين اليسرى.

عانى درويش في البداية من فقدان موقت للسمع والبصر في الجهة اليسرى من الرأس، وصعوبة في النطق، نتيجة تضرر الفك، وبعد نحو عام أكد له الأطباء بعدم وجود أمل في علاج عينه، وأنه فقد البصر فيها بشكل كلي.

بعد أشهر كان المصور في قناة “الأقصى” سامي جمال طالب مصران، وتحديداً في 19 تموز/ يوليو 2019، هدفاً آخر للجنود الإسرائيليين، وبينما كان يغطي مسيرة العودة السلمية شرق غزة أصيب بشظايا عيار ناري متفجر في عينه اليسرى، تسببت بتهتك في عينه وإصابة القرنية وماء العين، وفقد الرؤية في عينه بشكل كامل.

تهرب من المسؤولية القانونية

بعد استقرار الحالة الصحية للمصور الصحافي معاذ عمارنة، وبدئه التعايش مع عينه البلاستيكية الجديدة، تواصل مع محاميه لرفع دعوى قضائية على القوة التي استهدفته، وحينما تقدم بشكوى إلى الشرطة الإسرائيلية، سرعان ما جاء الرد بأن الشرطة قامت بتحرياتها ووجدت أن الشكوى ليست من اختصاصها، وأن الحدث وقع في منطقة حرب، ولا صلاحية لهم بالتحقيق فيها أو متابعتها.

يقول معاذ عمارنة: “حين يدخل أي أحد مصاب بالرصاص إلى المستشفى، فإن الشرطة وعلى الأقل، تأخذ منه إفادة، لكن لم يسألني أحد عن شيء! لقد تقدمت بشكوى لشرطة الاحتلال الإسرائيلية خلال 90 يوماً من إصابتي، ولكن سرعان ما جاء الرد للمحامي بأنهم لن ينظروا بالقضية بحجة أن الأمر ليس من اختصاص الشرطة، وأن الإصابة لم تكن من قبل الجيش الإسرائيلي، رغم أنهم لم يستدعوا الشهود أو المصاب نفسه!”.

إلى القضاء الدولي

يكشف المصور الصحافي معاذ عمارنة عن توجه لدى الاتحاد الدولي للصحافيين برفع ملف قضيته إلى جانب 4 صحافيين آخرين إلى محكمة الجنايات الدولية، حيث قام بإعطائهم التوكيلات اللازمة.

تضمن اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 الحماية للصحافيين باعتبارهم أشخاصاً مدنيين، وتكفل حمايتهم أثناء النزاع المسلح، والذي ورد في المادتين (79) و(52) من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، التي تنص على حماية الصحافيين بالنزاعات العسكرية، والحماية العامة للأعيان المدنية.

ويعتبر ما يتعرض له الصحافيون من انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي الجنائي – علماً أنه يمكن التعرف إلى الصحافيين من خلال ما يرتدونه في الميدان – جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، بحسب ما جاء في المادتين (7) و(8) من ميثاق روما (النظام الأساسي لمحكمة الجنائية الدولية) لعام 1998.

“أُنجِز هذا التحقيق بدهم من “مركز الخليج لحقوق الانسان” في إطار مشروع التحقيق في قضايا الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.