fbpx

قرافة القاهرة: تاريخ وثقافة سبقا العمارة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الاعتقاد في قدسية المكان تخطى حدود مصر؛ إذ تخبرنا كتب الرحالة والجغرافيين المسلمين عبر العصور، أن القرافة مثلت معلماً أساسياً ومحل تبرك مشهوداً له.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كأسرٍ كثيرة عاشت في القاهرة لبضعة أجيال، لنا “حوش” كما يسمى المدفن، على أطراف القرافة (منطقة المقابر) بالقرب من سور القاهرة القديم، هناك حضرت أكثر من جنازة وزرت الراحلين مراراً. كقاهريين كثر، شهدتُ عدداً من شعائر الدفن في القرافة الشاسعة نفسها الممتدة من أطراف سور القاهرة الذي بناه صلاح الدين الأيوبي، وصولاً، من جهة، إلى منطقة الإباجية حيث مدفن الصوفي الأشهر عمر ابن الفارض، ثم مشهد الإمام الشافعي وما وراءه حتى بركة (بحيرة) عين الصيرة، ومن جهة أخرى حتى أضرحة سلاطين المماليك وأمرائهم. 

المقابر جزء أساس من حياة سكان القاهرة. الغائبون حضورٌ وإن كانوا تحت التراب، فهناك الزيارات الموسمية والاهتمام المستمر والصيانة التي لا تنقطع لمقبرة هذه الأسرة أو تلك، وفي هذه العادات تفسير لطبيعة المباني القائمة، فبعضها أقرب الى البيوت منه الى مراقد المتوفين، فالبناة سعوا إلى فضاءات تملأها قراءة القرآن والزيارة وأَنس الميت بحضور أهله وكسر وحشة البعد بالقرب من مرقده. صحيح، أن هناك تراثاً معمارياً شديد الأهمية تزخر به مقابر عاصمة مصر، لكن لهذا الثراء المعماري جذوره التي تتخطى البناء إلى ثقافةٍ من روايات وممارساتٍ عمرها يزيد عن 12 قرناً أوصلتنا إلى التحف المعمارية التي نعرف والتي كان جيلنا جاهلاً بها، حتى لفت الانتباه إليها ما يحصل من هدمٍ وتوسيعٍ للطرق على حساب المقابر.

من وجهة نظر تكاد تكون قديمة قدم الإسلام في مصر: أنت هنا في أرض مقدسة.  أول رواية بين أيدينا عن “القرافة” تعودُ إلى أقدم مصدرٍ تاريخي عربي كُتب عن مصر حصراً: كتاب “فتوح مصر وأخبارها” لعبد الرحمن ابن عبد الله ابن الحكم أبو القاسم القرشي أصلاً والمصري مولداً ومعاشاً ومماتاً، والمعروف اختصاراً بابن الحكم (توفي عام 870). هنا نجد رواية مصدرها الفقيه المعروف، المصري المولد والممات أيضاً، الليث ابن سعد (توفي عام 791): عند فتح مصر  “سأل المقوقس [الذي نفهم مما بين أيدينا من نصوص أنه كان حاكم البلاد من قبل البيزنطيين] عمرو بن العاص [قائد جيش المسلمين وفاتح البلاد] أن يبيعه سفح جبل المقطم بسبعين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك وقال: أكتب في ذلك إلى أمير المؤمنين فكتب … إلى عمر [بن الخطاب، الصحابي الكبير والخليفة الثاني].” فرد عليه الخليفة: “سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزدرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها؟” فسأله. “فقال  [أي المقوقس] “إنا لنجد صفتها في  الكتب أن فيها غِراس الجنة”.  فكتب عمرو بذلك إلى عمر. فكتب إليه عمر: “إنا لا نعلم غراس الجنة إلا المؤمنين، فاقبر فيها من مات قِبلك من المسلمين ولا تبعه بشيء، فكان أول من دفن فيها رجل من  [قبيلة] المعافر  يقال له عامر فقيل: عَمُرت”. ثم إن المقوقس، يروي ابن الحكم بأسانيد اخرى،  أغضبه ما فعل عمرو: “ماذا لك ولا على هذا عاهدتنا فقطع [أي عمرو] الحد الذي بين المقبرة وبينهم [أي مقابر الأقباط]”. ثم يذكر  ابن الحكم روايات تطابق في فحواها ما تقدم ويعدد أسماء صحابة دفنوا فيها أشهرهم عمرو بن العاص نفسه. ولأن عامر، أول المدفونين بها كان، فيما نفهم، من بطن من قبيلة المعافر ذات الأصول اليمنية اسمه بنو قرافة، عرفت المنطقة بالقرافة. علماً أن  أسرة ابن عبد الحكم  تمتعت بمكانة بارزة و في مقابرهم  في القرافة نفسها دُفن أحد أساتذتهم، الإمام الشافعي (توفي عام 810)، حيث ضريحه الشهير اليوم، وإلى جواره، عدا أصحاب المقبرة الأصليين، دُفن  لاحقاً بعض أفراد الأسرة المالكة الأيوبية (حكمت بين عامي  1174 -1250)، علماً أن مؤسس هذه الدولة (أي الأيوبية) السلطان  الناصر صلاح الدين كان  أول من بنى مشهداً على ضريح الإمام الشافعي وصلاح الدين أيضاً هو من أمر بوضع التابوت الخشبي الرائع على قبر الإمام الباقي إلى اليوم (القبة أضيفت وعدُلت بعد ذلك).

المقابر جزء أساس من حياة سكان القاهرة. الغائبون حضورٌ وإن كانوا تحت التراب

الرواية التي نقلها لنا ابن عبد الحكم عن اتخاذ سفح المقطم تربة للمسلمين بقرار من الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب اقتبسها منه آخرون بعده أو عضدوها بروايات أكدت فحواها من مصادر متباينة، أهم هؤلاء كان شيخ مؤرخي مصر تقي الدين المقريزي (توفي عام 1442)، في كتابه المعروف بـ”الخطط المقريزية”، و الفقيه المعروف جلال الدين السيوطي (توفي عام 1505)  في “حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة”. 

 السيوطي أضاف رواياتٍ أخرى. واحدة منها ينقلها عن ابن عساكر (توفي عام 1106 ميلادية) صاحب كتاب  “تاريخ دمشق” الشهير، فيها حديث مشابه لما ذكرنا بين عمرو ابن العاص والمقوقس. يسأل عمرو: “ما بال جبلكم هذا… ليس عليه نبات ولا شجر، على نحو من جبال الشام؟” فرد المسؤول: “الله أغنى أهله بهذا النيل” وأكرم جبل المقطم بأنه سيدفن “تحته قومٌ يبعثهم الله يوم القيامة لا حساب عليهم”. فيقول عمرو، اللهم اجعلني منهم”. لكن أكثر رواية تقدس سفح المقطم يوردها السيوطي نقلاً عن المؤرخ المصري أبي عمر الكندي (توفي عام 961) الذي روى أن كعبَ الأحبار، التابعي الشهير الذي عاش في القرن الأول الهجري، سأل رجلاً يريد السفر إلى مصر أن يأتيه بتربة من “سفح مقطمها”؛ “فلما حضرت كعباً الوفاة أمر ففُرش [ما عنده من هذه التربة] في لحده تحت جنبه”.

بديهي أن يسائل أي باحث جاد مصداقية هذه الروايات، لكن التواتر والانتشار أسكتا الشك، فالظاهر مما ذكرنا أن قدسية سفح الجبل رسخت خلال أقل من قرنين من دخول الإسلام مصر . ابن عبد الحكم والكندي خَطّا نصوصهما قبل بناء القاهرة على يد الفاطميين قرب نهاية الألفية الأولى، فالقرافة ولدت مع أول عواصم مصر الإسلامية، الفسطاط (عام 641)، وهذه كانت إلى الجنوب الغربي من الموقع الذي شهد لاحقاً بناء القاهرة الفاطمية (يقع مكان الفسطاط بين وسط القاهرة المعاصرة وحي المعادي، على الجانب الشرقي من نهر النيل)، ثم أُنشئت إلى الشمال الشرقي من الفسطاط (داخل نطاق القاهرة المعاصرة) مدينتا العسكر ثم القطائع، ثم أخيراً وليس آخراً، القاهرة. عواصم مصر الإسلامية الأربع تتابعت على مرمى حجرٍ من سفح المقطم من غربه أولاً (الفسطاط) وصولاً إلى شمال غربه (القاهرة)، لكن توالي المدن لم يَجْر على منطقة المقابر التي أقرها المسلمون الأوائل، فقط توسع فيها مساحة وبناءً وعمراناً.

الاعتقاد في قدسية المكان تخطى حدود مصر؛ إذ تخبرنا كتب الرحالة والجغرافيين المسلمين عبر العصور، أن القرافة مثلت معلماً أساسياً ومحل تبرك مشهوداً له. في كتابه الشهير “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم”، يقول الجغرافي والرحالة المقدسي (توفي عام 990)  في حديثه عن مصر: “وبالمقطم مواضع يفضلونها وصوامع يقصدونها ليالي الجمع، وعلى صيحةٍ من الفسطاط موضع يسمى القرافة فيه… سقايات حسنة وخلق من العباد وموضع خلوة وسوقٍ لطلاب الآخرة وجامع حسن. ومقابرهم في غاية الحسن والعمارة ترى البلد غبراء والمقابر بيضاء ممتدة على طول المصر [أي البلد]،  [و] فيها قبر الشافعي بين المزني وأبي اسحق المروزي” (والمزني فقيه شافعي كبير عاش بين القرنين الثاني والثالث الهجريين /الثامن والتاسع الميلاديين، والمروزي أيضاً فقيه شافعي كبير توفى بمصر في القرن الرابع الهجري /العاشر الميلادي). 

وبعد المقدسي بأقل من قرنين، عام 1183، في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي،  زار مصر الرحالة الأندلسي ابن جبير، و أمضى ليلة في “الجبانة المعروفة بالقرافة” التي وصفها بأنها “إحدى عجائب الدنيا، لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء، صلوات الله عليهم، وأهل البيت رضوان الله عليهم، والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء، ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة”، ثم عدّد أضرحةً لـ13 رجلاً وأربع نساء من آل البيت، كلهم من نسل الحسين ابن علي ابن أبي طالب، علماً أن هذه المشاهد، يخبرنا ابن جبير، هي ما عاينه فقط، فهي “أكثر من ذلك”. و”على كل واحد منها بناء حفيل، فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان، عجيبة البنيان، وقد وُكل بها قَوَّمة [أي قائمين عليها] يسكنون فيها ويحفظونها … والجرايات متصلة لقوّامها في كل شهر”.  ثم ذكر 12 مشهداً للصحابة وأبنائهم، ربما أشهرهم معاذ ابن جبل ومحمد ابن أبي بكر ( ابن الخليفة الأول، وهذا قائم معروف لليوم). ثم تحدث ابن جبير عن عشرات من أضرحة العلماء والزهاد، أشهرهم الشافعي. ثم كرر ثانيةً: “والمشاهد الكريمة بها أكثر من أن تضبط بالتقييد، أو تتحصل بالإحصاء، وإنما ذكرنا… ما أمكننا مشاهدته”. ومن الواضح أن ابن جبير حين أتى مصر، وجد مجتمعاً حياً بين الأضرحة: “من العجب أن القرافة المذكورة كلها مساجد مبنية، ومشاهد معمورة، يأوي إليها الغرباء والعلماء والصلحاء والفقراء، والأُجَراء على كل موضع منها من قبل السلطان”.

في وصف القاهرة، يقول الجغرافي القزويني (توفي عام 1283) في كتابه “آثار البلاد وأخبار العباد”: “وبها موضع يسمى القرافة وبها أبنية جليلة ومواضع واسعة وسوق قائم ومشاهد للصالحين، و هي من متنزهات أهل القاهرة والفسطاط، لا سيما في المواسم، وبها مدرسة الشافعي وفيها قبره”. ثم زاد القزويني: “وبظاهر القرافة مشهد صخرة موسى، عليه السلام، وفيه اختفى من فرعون لما خافه… ومسجد ذُكر أن [النبي] يوسف الصديق بيع هناك [أي عنده]”.

بعد ابن جبير بقرنٍ ونصف  القرن، والقزويني بنحو نصف قرن، آتياً من المغرب الأقصى، زار المنطقة الرحالة ابن بطوطة (دخلها عام 1326) في عهد السلطان المملوكي الناصر قلاوون  (المعروف بإنجازاته المعمارية الهائلة). يخبرنا ابن بطوطة: “ولمصر القرافة العظيمة الشأن في التبرك بها… لأنها من جملة الجبل المقطم الذي وعد الله أن يكون روضةً من رياض الجنة، وهم يبنون بالقرافة القباب الحسنة، ويجعلون عليها الحيطان، فتكون كالدور ويبنون بها البيوت، ويرتبون القراء يقرأون ليلاً ونهاراً بالأصوات الحسان، ومنهم من يبني الزاوية والمدرسة إلى جانب التربة، ويخرجون في كل ليلة جمعة إلى المبيت بأولادهم ونسائهم ويطوفون على الأسواق بصنوف المآكل”.  ثم ذكر أضرحة عدة، منها [الشهير إلى اليوم] قبر السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور المنحدر من الحسين ابن علي والشافعي، ثم ختم: “وبقرافة مصر من قبور العلماء والصالحين ما لا يضبطه الحصر”.

عدا الاعتقاد في القداسة، كانت مقابر القاهرة مجتمعاً حياً حينما زار ابن جبير مصر بُعيد نهاية العصر الفاطمي وفي بداية العصر الأيوبي، وعندما وصل ابن بطوطة بعد سبعة عقود ونيف من ميلاد الدولة المملوكية، بدت القرافة أقرب الى مدينة تعج بالحياة منها الى ساحة دفن. من ثم، يخبرنا المقريزي في كتابه التاريخي الأشهر “السلوك لمعرفة دول الملوك”، أنه في نهاية عام 1385، في سلطنة الظاهر برقوق، “استجد لقرافة مصر والٍ بإمرة عشرة [رتبة متوسطة في الهرمية العسكرية المملوكية]، وأخرجت عن والي مدينة مصر [أي الفسطاط]، ولم يعهد هذا فيما سلف”. 

لكن قداسة أرض القرافة تنبع من غرضها الأصلي كما حدده الخليفة الثاني الصحابي عمر ابن الخطاب، وأي توظيف آخر غير مقبول، هذا ما رآه جلال الدين السيوطي الذي عاش قرب نهاية الدولة المملوكية (توفي عام 1505).  يتخذ السيوطي موقفا فقهياً صارماً،  فلأن المنطقة كلها “وقف من عمر [ابن الخطاب] على موتى المسلمين” عدد [أي السيوطي]  فتاوى (يؤيدها) “بهدم كل بناءٍ بسفح المقطم”  (أي أن المقصود بالإزالة هنا هو أي مبنى غير المقابر). وينقل السيوطي رواياتٍ عن الفقيه ابن الجميزي (توفي عام 1252) يتهم فيها الأيوبيين بأنهم أول من شرع في بنايات غير المقابر في هذا “الوقف” من الخليفة الثاني. جَهد ابن الجميزي أهم فقهاء مصر في عصره لإقناع الملك الصالح أيوب بهدم ما أُحدث في القرافة من بناء، لكن السلطان الأيوبي رفض متحججاً بأن ذلك من عمل أبيه، السلطان الكامل. ويخبرنا السيوطي، “أمر عمت به البلوى وطمت، ولقد تضاعف البناء حتى انتقل إلى المباهاة والنزهة، وسلطت المراحيض على أموات المسلمين من الأشراف والأولياء وغيرهم”. ثم ينقل السيوطي عن أحد فقهاء القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي  (الفاكهي، وأظن المقصود تاج الدين الفاكهاني) ،”لا يجوز التضييق فيها [أي في القرافة] ببناء يحرز (أي يحدد) به قبراً ولا غيره، بل لا يجوز في المقبرة المُحَبسّة  [أي الموقوفة] غير الدفن فيها خاصة”. بل إن السيوطي يذكر فقهاء كبار سابقين عليه رفضوا حتى الصلاة في المساجد التي اختطت في القرافة لأنهم لم يعتبروها من المساجد “فإن المسجد هو الأرض، والأرض مُسَبَلة [أي مُخَصصة حصراً] لدفن المسلمين”. وكل من قال بذلك، يخبرنا السيوطي، وهم أسماء عدة، يعودُ إلى ما قرره الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب بجعل سفح المقطم مقابر حصراً. 

هل قصد السيوطي بوجوب هدم كل بناء نراه اليوم في ما نسميه القرافة؟ بما في ذلك بعض أفضل نماذج العمارة المملوكية في الطرف الشمالي الشرقي منها (مثلاً لا حصراً  ما شيده من أضرحة ومدارس ومساجد السلاطين، فرج ابن برقوق وبرسباي وقايتباي)؟ لا نعرف يقيناً، فهذه كانت مباني حديثة في ذلك الوقت، ما لدينا من صور فوتوغرافية  تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، يرينا أن كثيراً مما حولها كان فضاءً حتى عهدٍ قريب. بداهة؛ نحن  ممتنون لوجود أي أثر  مهما صَغُر حجماً كما لكل عملٍ معماري عظيم، ولهذا نحن مدينون للغرض الأصلي من هذا الاتساع الكبير الذي منحه هويته عبر القرون، وجعله جزءاً أساسياً من ثقافة القاهرة وطبيعة عمرانها، وسواء كان الواقف عمر ابن الخطاب أم من هو أقل قدراً، بجّل الأسلاف هذه التربة الشاسعة، وليس لنا إلا أن نُوقِّر إرثهم ناهيك بقبورهم.