fbpx

رجال الإطفاء في سوريا: معاناة صامتة أمام الحرائق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بينما تلتهم النيران بيوتاً دمشقية تاريخية كما في سوق ساروجا ودمشق القديمة، تكشف أصوات الإطفائيين المكتومة عن كفاح يائس لكسب العرفان والدعم، وسعي وراء لقمة العيش بسبب رواتب زهيدة ومعدات متهالكة. “درج” يكشف النقاب عن قصص غير مرويّة وراء أزمة الإطفاء في سوريا، ورجال الإطفاء الذين يواجهون الصعاب لأداء مهامهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تعرضت بيوت تاريخية عريقة في دمشق لأضرار جسيمة إثر حريق اندلع في حي ساروجا القديم، ومن بين الخسائر بيتان لشخصيتين بارزتين من التاريخ السوري، هما عبد الرحمن باشا اليوسف (1871 – 1920) وخالد العظم (1903 – 1965). كان اليوسف، أمير الحج الشامي ومستشاراً للسلطان العثماني خلال الحرب العالمية الأولى. أما العظم، فقد شغل منصب رئيس الوزراء والرئيس المؤقت للجمهورية. ولحسن الحظ، أكد مسؤولون حكوميون أن الوثائق التاريخية النفيسة في منزل العظم لم تتضرر، ما شكّل بعض العزاء وسط الدمار الهائل.

رجحت السلطات في سوريا سبب الحريق في ساروجا إلى عوامل منها ارتفاع درجات الحرارة، والخصائص المعمارية للبيوت القديمة المبنية من الخشب والطين، وأشارت الى أن ضيق أزقة الأحياء القديمة أعاق جهود الإطفائيين أثناء مكافحة الحريق. وقال العميد عصام محمد، مدير الإطفاء وإدارة الكوارث في وزارة الإدارة المحلية والبيئة، في تصريح لجريدة “الوطن” الموالية للنظام السوري، إن “الحصار الاقتصادي أثر سلباً على مرفق الإطفاء والإنقاذ في سوريا، إذ خرج الكثير من الآليات عن الخدمة نتيجة الإرهاب الذي تعرضت له سوريا”.

معاناة رجال الإطفاء

بعيداً من حجج السلطات الرسميّة الواهية، هناك قضية ملحّة تكمن وراء الحادث المأساوي، وتعصف بقطاع الإطفاء في سوريا. إذ يواجه الإطفائيون السوريون تحديات هائلة، ويرجع ذلك أساساً إلى نقص العناصر وعوامل مختلفة أخرى، تشمل الرواتب المتدنية، ساعات العمل غير المواتية، وانعدام الحقوق والاعتراف بالإطفائيين. وبالتالي، أدى ذلك إلى ضعف الأداء وأضرّ بسمعة الإطفائيين السوريين المخضرمين.  كما أنهم وأسرهم مجبرون اليوم على العيش في ظل ظروف مرهقة وبائسة، ما دفع الكثيرين إلى التفكير في تغيير المهنة أو حتى مغادرة البلاد بحثاً عن فرص أفضل.

عام 2010، بلغ عدد الإطفائيين السوريين أكثر من 5000. وانخفضت الأرقام بشكل كبير مع الوقت. إذ بقي 1802 عنصر، بمن فيهم السائقون في جميع أنحاء البلاد، قسم من هؤلاء في سن قريب إلى التقاعد.

وبسبب الانخفاض الحاد في أعداد الإطفائيين، اضطرت السلطات خلال دورتي تجنيد عامي 2016 و 2018 إلى قبول جميع المتقدمين، بغض النظر عن قدراتهم. ومع ذلك، لم يتجاوز عدد المتقدمين في الدورتين الـ 50 شخصاً. وتقدم إلى الدورة الأخيرة في 2020، أقل من 10 أشخاص، لذلك أُلغيت الدورة.

“الحصار الاقتصادي أثر سلباً على مرفق الإطفاء والإنقاذ في سوريا، إذ خرج الكثير من الآليات عن الخدمة نتيجة الإرهاب الذي تعرضت له سوريا”.

فقر في الآليات والكوادر البشريّة

 يبلغ عدد آليات الإطفاء العاملة حالياً في سوريا 463، وكان على رجال الإطفاء في النصف الأول من العام الحالي، التعامل مع أكثر من 4500 حالة حريق وغرق وتصدّع وهبوط وغيرها.  وتتعارض الأرقام المذكورة مع أرقام أخرى كشفت عنها تصريحات رسمية العام الماضي، وحددت عدد الآليات في أفواج الإطفاء في سوريا بـ 330 آلية، منها 147 آلية متوقفة، و96 أخرى جار العمل على إصلاحها.

وقال إطفائي متقاعد في حديث لـ “درج”، إن فوج دمشق كان الأفضل تقريباً في سوريا، حيث كان فيه لوحده أكثر من 700 عنصر إطفاء عام 2010 عدا الفنيين والإداريين وغيرهم. بينما انخفض العدد اليوم إلى أقل من 150 شخصاً مع الفنيين والإداريين وغيرهم. وأكد الإطفائي المتقاعد، الذي طلب عدم الكشف عن هويته لأسباب تتعلق بسلامته الشخصية، أن معاناة عناصر الأفواج الأخرى – في اللاذقية وطرطوس مثلاً – تزيد بما لا يُقاس عن معاناة عناصر فوج دمشق. وتزيد المعاناة حين تقارنها بالأفواج الأصغرة – كالقنيطرة – التي لا يزيد فيها عدد الإطفائيين عن أربعة عناصر.

الرادع الرئيسي الذي يثني الراغبين في دخول السلك عن المضي قدماً، الحظر الصارم الذي يمنع الإطفائيين من الاستقالة بمجرد دخولهم المهنة. كما أن قطاع الإطفاء ذو طابع عسكري يحمل فيه عناصر الإطفاء رتباً عسكرية بملاك مدني.

سائق واحد لـ13 مركز إطفاء في دمشق

تعاني مراكز الإطفاء في دمشق راهناً، من نقص في السائقين والإطفائيين والمنقذين. ويوجد في كل من مراكز إطفاء دمشق الثلاثة عشر، سائق واحد فقط، وتضطر المراكز للاستعانة ببعضها في حال غياب سائق ما، كما يضطر عناصر الإنقاذ والإطفاء، وبسبب نقص الأفراد، للقيام بأدوار بعضهم البعض، وهو أمر خطير لأن الاختصاصين مختلفان كلياً.

يتحمّل الإطفائيون جدول مناوبات شاقّاً بواقع يوم عمل كامل (24 ساعة)، يليه يومان (48 ساعة) يفترض أنهما للاستراحة؛ عدا حالات الاستنفار أو المهمات الاحترازية والأمنية. ومع ذلك، فإن إيجاد وقت للخلود إلى الراحة قد يكون مستحيلاً بالنسبة إليهم، لأنهم غالباً ما يكونون منشغلين بأعمال إضافية خلال يومي الاستراحة للحصول على دخل إضافي. 

لسوء حظهم، يبدو مسعاهم مرهقاً بسبب الاختناقات المرورية المتكررة أو انقطاع وسائل النقل. ويؤدي ذلك بهم إلى فترات انتظار طويلة على الطرق وفي محطات الحافلات أثناء تنقّلهم بين مراكز خدمتهم ومنازلهم البعيدة. وتالياً، يتركهم وأسرهم في نهاية المطاف فريسة ضغوط جسدية ونفسية هائلة.

لكن، لماذا يضطر الإطفائي للعمل في يوم راحته سائق باص أو تاكسي أو بائعاً متجولاً؟

يتراوح الراتب الشهري للإطفائي في سوريا ما بين 100 ألف إلى 150 ألف ليرة سورية (10.10 – 15.15 دولاراً أميركي / بسعر صرف 9900 ليرة سورية للدولار الواحد (بحسب نشرة الحوالات والصرافة الصادرة عن مصرف سوريا المركزي في 18 تموز/ يوليو).

لا يلبي الراتب الرسميّ الاحتياجات الأساسية للأسر. فعلى سبيل المثال، كشف الإطفائي علي (اسم مستعار)، 52 عاماً، والذي يعمل في دمشق، أنه يحتاج إلى ما يقرب من 300 ألف ليرة سورية (30.30 دولاراً أميركياً) شهرياً لمصاريف السجائر وحدها.

كما أن الإطفائيين، وفي حال إصابتهم، ملزمون بتغطية تكاليف العلاجات الطبية الأساسية بأنفسهم، ما يجعل أوضاعهم المالية أكثر صعوبة. وفي حديث مع “درج”، قال إطفائي تعرّض للإصابة حديثاً، إنه في كل شهر يدفع أكثر من ثلاثة أضعاف راتبه الشهري مقابل تغطية أساسيات العلاج الطبي من معقّمات وشاش طبي. 

أضاف علي الذي رفض الكشف عن هويته خوفاً على سلامته: “تلك الصعوبات المالية الضاغطة تخلق بيئة تثني أكثر الشباب شجاعة ونبلاً عن الانضمام إلى الإطفاء”.

النظام الطبي متهالك  في سوريا، والضمان الصحي فقير. إضافة إلى ذلك، يواجه الإطفائيون عقبات بيروقراطية عند الحاجة الى رعاية طبية طارئة. إذ لا تؤدي تلك التأخيرات إلى تفاقم حالتهم فحسب، بل تزيد أيضاً من خطر حدوث مضاعفات من الممكن تجنّبها في حال حصولهم على العلاج الفوري.

لا مكافآت ولا معدات

يضاعف من معاناة الإطفائيين، عدم حصولهم على تعويض مالي إضافي من الدولة، الشأن الذي يرونه من حقهم، نظراً إلى طبيعة عملهم الخطرة، بالإضافة إلى غياب المؤن الأساسية اللازمة لتنفيذ المهام الصعبة.

تفاقم الوضع سوءاً الحالة المزرية للعدة والعتاد والمركبات، بما في ذلك أجهزة التنفس القديمة التي يعمد الإطفائيون إلى إصلاحها بأنفسهم بطرق بدائية قد تشكل خطراً على مستخدميها. حتى سيارات الإطفاء نفسها، أصبحت تباع في سوق السيارات المستعملة عام 2022، العام ذاته الذي سمحت فيه رئاسة مجلس الوزراء للمنشآت الصناعيّة، باستيراد سيارات الإطفاء الجديدة والمستعملة، على ألا يتجاوز عمرها الـ 5 سنوات،كما يعاني الإطفائيون من استقطاب الوضع الأمني والسياسي. فرغم أن نقاط التفتيش التي يضعها الجيش السوري لا تعرقل عادةً حركة سيارات الإطفاء، إلا أن التأخير قد يحدث بحجة التفتيش.

لا دعم ولا امتيازات

في ظل الوضع الراهن، يشعر الإطفائيون في سوريا بالخذلان والإحباط والخوف، ما يؤثر على أدائهم ويتركهم متقاعسين في كثير من الأحيان عن إتمام مهماتهم، كما يقول علي. فهم يعلمون مسبقاً أنهم لن يتلقوا – لا هم ولا عائلاتهم – الدعم اللازم في حال الإصابة أو الوفاة أثناء أداء الخدمة. فهم ليسوا بمنزلة نظرائهم في وزارتي الدفاع والداخلية؛ وليس من حقهم الحصول على الامتيازات التي يحصل عليها هؤلاء، وفقاً لعلي.

ويتمتع العاملون في وزارتي الدفاع والداخلية وعائلاتهم بامتيازات كبيرة في حال الوفاة أو التعرض للإصابة أثناء أداء الخدمة. وتشمل الامتيازات تأمين السكن والراتب والمكافآت الشهرية، إلى جانب التغطية الصحية والتأمين الشامل لجميع أفراد الأسرة. إضافة إلى ضمان حق أطفالهم في دخول “مدارس أبناء وبنات الشهداء” الحكومية، وفي دراسة التخصصات الجامعية التي يرغبون فيها.

غالباً ما تقابَل الإصابات أثناء الخدمة بالحد الأدنى من التعويضات والفرص المحدودة لمصادر الدخل البديلة. فعلى سبيل المثال، حصل إطفائي أُصيب أثناء الخدمة على تعويض هزيل قدره 450 ألف ليرة سورية (نحو 870 دولاراً أميركياً – وفقاً لسعر صرف الليرة التقريبي بتاريخ الإصابة)؛ من محافظة دمشق والباقي من مؤسسة التأمينات الاجتماعية الحكومية. 

ولم يتمكن الإطفائي الجريح من الحصول على ترخيص لمصدر رزق جديد، مثل كشك صغير في دمشق، لأن فرص كهذه محصورة بجرحى وزارتي الدفاع والداخلية. وقد فضّلنا في “درج” عدم الكشف عن تاريخ الحادثة حفاظاً على سلامة المصدر، لكن يمكن الإشارة إلى تصريح مدير الإطفاء وإدارة الكوارث في وزارة الإدارة المحلية والبيئة العميد عصام محمد، الذي أكد بعد حريق ساروجا، أن تعويض “طبيعة عمل”  الذي يحصل عليه رجال الإطفاء “ما زال 300 ليرة سوريّة”، في حين أن سعر صرف الدولار الواحد تجاوز الـ12 ألف ليرة سورية.

خضع إطفائي آخر لأكثر من 35 عملية جراحية بسبب إصابته، وتطلبت كل عملية رجاء شخصياً من محافظ دمشق للحصول على المساعدة المالية. ودفعته تلك العمليات الجراحية، التي تمولها الدولة نظرياً، إلى طلب دعم المحافظ للتعامل مع الطلبات والأعمال الورقية البيروقراطية المعقّدة.

أبطال رغم كل شيء

في ظل تلك التحديات، يضطر عدد متزايد من الإطفائيين إلى التخلي عن المهنة، والهجرة بحثاً عن فرص أفضل لتأمين مستقبل أفضل لهم ولأسرهم في مكان آخر. وتجدر الإشارة الى أن الحالة المزرية للإطفائيين في سوريا زمنها طويل، يعود إلى ما قبل عام 2011. ويسلط الحريق الأخير في حي ساروجا، الضوء على الحاجة الملحّة الى دعمهم والاعتراف بحقوقهم.

وعلى رغم جميع الصعوبات التي يواجهونها، لا يزال الإطفائيون من أمثال علي مخلصين لمهامهم، ويجدون العزاء في إنقاذ الأرواح وحماية المنازل، حتى في خضم صراعاتهم على الصعد الشخصية ودخلهم المحدود.  ومن وجهة نظر علي: “ليس هناك نصف أو ربع إطفائي، بل هناك إطفائي كامل؛ روحاً وجسداً”. ويختم بالقول: “صدقني حين يدخل أي زميل إلى موقع حريق ما، فإنه ينسى كل ما ذكرت لك من هموم. كله يزول أمام ابتسامة طفل تنقذه أو منزل تحافظ عليه؟.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.