fbpx

السودان بين فكّي جنرالين “قاتلين” وخذلان المجتمع الدولي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

منذ اليوم الذي فرّ فيه ممثلو السفارات الغربية في السودان، وبعدما غادرت كل وسائل الإعلام، كان واضحاً أن العالم يدير ظهره للشعب الذي تمسّك بحلم الدولة المدنية، وظل يناضل لإنهاء حقبة الحكم العسكري.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تدخل الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شهرها الرابع، وتتزايد معها أعداد الضحايا ما بين قتلى ونازحين، في أوضاع إنسانية غاية في السوء، نجوا من أهوال كبيرة تركت ندبات على الأجساد والأرواح، وأعداد كبيرة من المغتصبات وأخريات تحولن إلى سبايا بين مجرمي الحرب في السودان. 

المحزن في هذا كله، أن الطرفين من القتلة وسيكون كلاهما أو أحدهما حاكماً بالقوة لشعب لم يتركا جرماً إلا وارتكباه ضده. وفي خضم هذا الوضع، يبدو أن المجتمع الدولي قد تخلى عن السودانيين وتركهم وحيدين يواجهون قدراً لعيناً لم يختاروه. 

منذ اليوم الذي فرّ فيه ممثلو السفارات الغربية في السودان، وبعدما غادرت كل وسائل الإعلام، كان واضحاً أن العالم يدير ظهره للشعب الذي تمسّك بحلم الدولة المدنية، وظل يناضل لإنهاء حقبة الحكم العسكري، حتى المنظمات التي تدعي دعم الإنسان في كل مكان أظهرت هي الأخرى وجهاً قبيحاً في تعاملها مع ضحايا الحرب في هذه البلاد، على خلاف ما أبدته في حرب أوكرانيا، وكأن نسق التدخل والدعم وسرعته تختلف حسب جنسية الضحايا ولونهم.

“حرب الجنرالين”

تجاوزت “حرب الجنرالين”عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو(حميدتي)، في السودان يومها المائة، والحصيلة آلاف القتلى وملايين النازحين واللاجئين، وخراب كلي للبنى التحتية في البلاد، بما في ذلك المرافق الصحية والتعليمية والاقتصادية، وخراب كبير لممتلكات المواطنين ومساكنهم، لا سيما في مدن الخرطوم ودارفور (الجنينة، نيالا، زلنجي، الفاشر). ومع ذلك، لا يبدو أن الجنرالين ينويان أو يتجهان الى وقف آلة الحرب. كلاهما لا يكترث لحجم الدمار وهول الجرائم ورعب المدنيين وعذاباتهم، إذ تبدو لهما أثماناً رخيصة للفوز بالكرسي. 

لا يهم أن يموت الآلاف وتُغتصب عشرات الفتيات والقاصرات والسيدات، لا مشكلة في أن تُحرق المنازل وتُنتهك وتُدمر وتُسرق الأملاك، لا ضير في أن ينزح المواطنون حفاة بلا أكل ولا شرب إلى دول الجوار بحثاً عن الأمان، بعدما فقدوا كل شيء، لا يهم أن تتحلل جثث من قُتلوا ظلماً في الشوارع بعدما هجر أهاليهم أو هربوا خوفاً من موت يترصدهم من كل جهة بأشكال مختلفة. كل الأثمان قابلة لأن تُدفع من أجل إرضاء غرور الجنرالين ليعلن أحدهما أنه الحاكم وأن السلطة له وحده.

وإن كانت هذه عقلية غالبية قيادات الأنظمة العسكرية القمعية، لكن كيف سيكون في وسع أحدهما أو كلاهما أن يخرج على الشعب الذي قتله وشرده واستباح نساءه وأملاكه وأذاقه كل صنوف الذل والإهانة والترويع، أن يعلن أو يعلنا بكل صفاقة: نحن حكامكم؟ كيف في وسع أحدهما أن يجلس على الكرسي ويعلن نفسه حاكماً على شعب يراه مجرماً وقاتلاً؟  ألا يستحيان؟ سيكون من المخيف والمروّع جداً أن يجد أولئك الذين قُتل أفراد عائلاتهم وأحبائهم، وأصدقاؤهم وجيرانهم أمام أعينهم على يد هذا الفصيل أو ذاك بلا ذنب يذكر، أو اللاتي اغتصبن بلا شفقة ومن دون مراعاة لضعفهن واستجدائهن وبكائهن وصراخهن، أنفسهم بعد رحلة الشقاء الطويل هذه، محكومين من جلاديهم، ومن قتلة من يحبون. كيف يمكن أن يكون القتلة بكل هذا القدر من الفجور والإجرام؟ هل يمكن أن تكون السلطة مغرية إلى هذا الحد؟ 

لم يشعر العالم بالذنب تجاه السودانيين، ولم تتحرك القوى الكبرى، باستثناء تصريحات صادرة عن بعض الدبلوماسيين، تطالب بوقف الحرب، وهي في الحقيقة بلا أي أثر على الإطلاق.

يبدو أن هناك علاقة ما بين الشر والسلطة، حتى أن أفلاطون قال يوماً، “الناس عند السلطة يتحولون في غالبيتهم الى أشرار”، لكن لم يكن في الحسبان أن مستوى الشر عند أصحاب السلطة سيكون بهذا القدر، فما يجري مع السودانيين وقادتهم اليوم تجاوز كل التوقعات.

ما يجري مع السودانيين ليس فقط نتيجة جشع جنرالين كلاهما يرى نفسه المخول الوحيد ليحكم، بل أيضاً هو نتاج تراخي المجتمع الدولي عندما كانت اللحظة مواتية لإنهاء حكم العسكر وتثبيت حكم مدني تتطلّع إليه غالبية السودانيين، وعندما كان ممكناً وضع حدّ لقوات الردع السريع بعد جرائمها ضد المدنيين في احتجاجات 2019 المطالبة بإنهاء حكم العسكر والتحول الى حكم مدني، لكن تم التخلي عنهم وتركهم فريسة حرب قاسية، حتى المنظمات الإنسانية لم تقم بدورها معهم وتركتهم لجوعهم ومرضهم وتشردهم. ولسائل أن يسأل: ما دخل المجتمع الدولي في ما يجري في بلد كبير وغني بالثروات مثل السودان؟.

أحلام السودانيين المهدورة

في عام 2019، نجحت الثورة الشعبية السودانية في إطاحة الرئيس عمر البشير، واستطاع السودانيون الطامحون الى التخلص من حكم العسكر، أن يدفعوا الى تشكيل حكومة مدنية. في هذه اللحظة التاريخية بالنسبة الى أبناء هذا البلد، كانت الأجواء مواتية جداً لتثبيت نظام مدني وتمهيد الطريق نحو الديمقراطية في السودان. وكان بإمكان القوى الغربية، وعلى رأسها واشنطن، أن تفعل ذلك، لكنها اختارت الدخول في لعبة المقايضة خدمة لمصالحها الضيقة، وفي اللحظات الحاسمة أهدرت كل شيء وأجهزت على أحلام شعب برمته. فالولايات المتحدة الأميركية ممثلة بالرئيس السابق دونالد ترامب، استغلت تلك اللحظة المفصلية لتبتز السودان بضرورة التطبيع مع إسرائيل وإعلان الخرطوم الموافقة على ما يسمى بـ”اتفاقية أبراهام”، ودفع 335 مليون دولار كتعويضات لأهالي ضحايا هجمات إرهابية حدثت بين عامي 1998 و2000، واتهمت واشنطن نظام البشير بالضلوع فيها، حتى يتم رفع السودان من القائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب.

كانت السودان حينها في حاجة ماسة إلى الخروج من هذا التصنيف حتى ينتعش الاقتصاد، لأن هذا الإجراء كان يمنع الشركات العالمية من الدخول والاستثمار في هذا البلد الغني بالموارد الطبيعية الزراعية والحيوانية والمعدنية. وكان الاقتصاد الورقة الأهم بالنسبة الى رئيس الحكومة الانتقالية حينها عبد الله حمدوك للاستمرار، وبالتالي لتثبيت الحكم المدني في البلاد. فالوضع الاقتصادي كان هشاً جداً، والمواطنون كانوا متعطشين لحدوث نقلة تساهم في تحسين مستوى معيشتهم المتدني. لكن واشنطن والقوى الغربية لم تكترث، حتى بعد زيارات حمدوك لعواصم عدة من هذه الدول مثل واشنطن ولندن وبروكسل، وسعيه الى إقناعها بالوقوف إلى جانب السودان في تلك المرحلة الدقيقة وتأجيل الشروط إلى حين استقرار الأوضاع في البلاد، إلا أن ترامب ظل يماطل، وظلت بقية القوى تتحجج بتلك العقبة ورفضت مد يدها للسودانيين. وكانت النتيجة مزيداً من تدهور الاقتصاد وضعف الحكومة المدنية وخيبة أمل كبيرة في تحقيق انتقال حقيقي ودائم الى الحكم المدني، وانقلاباً عسكرياً أطاح حكومة حمدوك في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 من دون أن يحرك العالم ساكناً، وصولاً الى اندلاع حرب بين الجنرالين في نيسان/ أبريل 2023.

حتى عندما اندلعت الحرب، لم يشعر العالم بالذنب تجاه السودانيين، ولم تتحرك القوى الكبرى، باستثناء تصريحات صادرة عن بعض الدبلوماسيين، تطالب بوقف الحرب، وهي في الحقيقة بلا أي أثر على الإطلاق. كانت الهبة الوحيدة التي شهدها المسرح السوداني من القوى الدولية، هي الركض الحثيث لإجلاء رعاياها من السودان، وبمجرد أن اطمأنت لمغادرتهم عادت سياسة اللامبالاة بما يجري من أحداث خطيرة في هذا البلد، حتى في ظل التحذيرات الأممية من احتمال انجرار البلاد الى حرب أهلية دموية، استمر الفتور والتجاهل، واختفى فجأة حديث الديمقراطية وحقوق الإنسان الذي دأب الغرب على ترديده ليلاً نهاراً.

المفارقة الأخرى، أن الفتور لم يصب القوى الغربية فحسب، بل شمل أيضاً منظمات الإغاثة وحقوق الإنسان، التي تخلى بعضها عن المساعدة رغم حاجة السودانيين الماسة الى العون، وفرض بعضها إجراءات بيروقراطية كثيرة وطويلة الأمد رغم دقة الوضع وخطورته.

تقول الدكتورة إيثار الخليل، التي تطوعت مع عدد من الأطباء السودانيين لمساعدة النازحين إلى التشاد: “ونحن نطرق أبواب المنظمات الإغاثية صباحاً ومساءً، وصل بنا الحد الى درجة أشبه بالاقتحام، طلباً لسد حاجة للضحايا من جوع ومرض وعري، تختلط داخلي مشاعر كثيرة ونحن على أبوابهم، ما بين ذل وقهر وقلة حيلة ونحن نسمع الإجابة ذاته ونرى البيروقراطية التي تتعامل مع الإنسان كما لو أنه آلة، جوعه ينتظر، مرضه ينتظر، عريه ينتظر وحتى موته ينتظر، ويراودني سؤال: هل كانت ردة فعل المنظمات الأممية والغربية ستكون نفسها لو كان الضحية أبيض؟ وأستحضر التعامل مع الأوكرانيين ضحايا حرب روسيا، وأشعر بقهر أكبر وأسأل مجدداً: أليسوا ضالعين مباشرة أو بالوكالة في ما نحن فيه كسودانيين؟

تتحدث الدكتورة إيثار بيأس ومرارة، فهي تشهد يومياً موت عدد من الأطفال بسبب الجوع، وترى أن الأمهات لم يعدن قادرات على توفير الحليب لمواليدهن لأنهن لم يذقن الطعام منذ شهر، ولأن الدواء لم يعد ذي جدوى طالما أنه مقرون بضرورة توافر الأكل والشرب.

المجتمع الدولي بأنظمته ومنظماته، خذل السودانيين وتركهم وحيدين بين فكي جنرالين متعطشين الى مزيد من الدماء، وهذا ليس بالأمر الجديد، فقد سبق أن حدث مع دول عربية أخرى. يسقط القناع تدريجياً وتظهر ازدواجية المجتمع الدولي بشكل فج في كل مرة.