fbpx

هنا السويداء حيث الساحة التي صارت ثورةً! 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ساحة “السير” التي صارت في ما بعد ساحة “الكرامة”، لم تملّ طيلة يومين أعقبا استيقاظها الباكر، من أن تَخبِزَ كل الشعارات التي تشبه جوع الناس وتوقهم إلى الحرية، وتعيد على مسامع الجميع تلاوةَ تلك السيرة القديمة والحميمة عن رغبة السوريين في التحرر “سوريا بدها حريّة”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يوم السبت الفائت، هو أول يوم للتظاهر في مدينة السويداء السورية، بعد قرار حكومة النظام السوري مواصلة مشوارها في رفع الدعم عن أسعار المشتقات النفطية. بدت الشمس فيه عدّواً غير مرئي ولكنه محسوس، جابهت المتظاهرين حين انسكبت عليهم دفعةً واحدة، فمنعت مكوثهم تحتها طويلاً. 

لكن في اليوم الثاني لاعتصامهم وما بعده، التفّ المتظاهرون إلى الجهة الأخرى التي يظلّلها البناء الكبير لمديرية المالية، فصاروا يعتصمون هناك قاطعين الشارع المحاذي للساحة من جهتها الشرقية، مستفيدين من الإضراب العام الذي تسيّد مزاج المحال التجارية حين قررت الاستجابة إلى دعوات الإضراب والعصيان المدني منذ يوم الأحد الماضي.

من هناك أيضاً، صار بالإمكان إعادة بعث شعارات الثورة السورية ضد بشار الأسد من جديد، وإحياءُ تلك الأناشيد الساحرة التي تَبُثّ التضامن مع باقي المحافظات السورية، وتتوهج بطلاقة كلما لامست فكرة رحيل النظام ورموزه، بلازماتٍ موسيقية بسيطة لا تمتدح التعقيد، ويحفظها معظم السوريين بلا مشقّة أو عناء. فيتذكرون جيداً جِرْسَ كلّ منها وقافيته الحميمة بمجرد سماع أولى كلماته، فتعلو الصيحات من الرجال والنساء على السواء. النساء أيضاً حضرنَ منذ اليوم الأول للاحتجاجات، كنَّ يهتفنَ كلما تكاسل صوت الرجال أو غفا، فيُعجّلنَ من استيقاظه، كما كانت تفعل إحداهن وهي تحمل ابنتها الصغيرة ذات الثلاثة أعوام، وتجعل صوتها يتجوّل بحريّة بين الأصوات الخشنة البريّة للمتظاهرين. أو كما حدث في اليوم الثاني للاعتصام حين حضرت فتاتان مراهقتان ترتديان بنطالين من الجينز الأبيض، جذبهما الصوت المتصاعد من حنجرة الساحة، كلما نادى بضرورة رحيل بشار الأسد، فاقتربتا بتوجّس مفهوم، ثم وقفتا باستحياءٍ بادئ الأمر إلى جوار النسوة اللاتي كنَّ يحملن لافتات تترجم روح الاحتجاج. وسرعان ما انطلقت حناجرهنّ الناعمة بالكلام المرتب على إيقاع الهتافات ونداوةِ ملمسها، كنَّ يبتسمنَ ويهتفن، ثم يجعلن من صراخهما الرقيق سبيلاً ليقصَّ على من يراهما معاني عدة للتمرد والرفض.

ساحة “السير” التي صارت في ما بعد ساحة “الكرامة”، لم تملّ طيلة يومين أعقبا استيقاظها الباكر، من أن تَخبِزَ كل الشعارات التي تشبه جوع الناس وتوقهم إلى الحرية، وتعيد على مسامع الجميع تلاوةَ تلك السيرة القديمة والحميمة عن رغبة السوريين في التحرر “سوريا بدها حريّة”، ثم توضيب كل الشعارات التي بإمكانها أن تنالَ من هيبة نظام الطغمة المتوحشة، ورئيسها، وإطلاق سراحها بلا قيد أو شرط، في سرد جديد وساحر يعيد بعث الثورة السورية من أولها. وكأنها تحدث اليوم وللمرة الأولى، فنجد كيف أنّ بعض المتظاهرين راق لهم أن يخطَّوا الشعارات المنطوقة فوق رخام الساحة الكسول، حيث كان يجلس تمثال حافظ الأسد ببلاهةٍ قبل أن يرحل، ومكان التمثال بالضبط كان بمقدور كثر من الشبان فتح كاميرات جوالاتهم، وتصديرَ صورٍ كثيرة عن احتجاجهم إلى وهج قنوات تلفزيونية بعيدة، لكنها تهتمُ في جعل كلامهم يتحرك، ويسمعه الراغب في سماعهم، ويصدّقهُ أيضاً.

فأصواتهم تلك تنتمي إلى قرابة أربعين نقطة احتجاج وتظاهر وُثّق انبعاثها إلى الحياة خلال يومين. وخلال يومين أيضاً، التأم جسدُ عصيان مدني بحجم الفضاء الاجتماعي الذي يشغلونه. محالٌ تجارية أقفلت أبوابها بوجه البيع والتربّح، ودوائرُ حكومية أصبحت مقفرةً يسيّجها الصمتُ والترقب، وطرقٌ أوصدتها الإطارات المطاطية المشتعلة، وشبابٌ صغار لا يملّون من تلقيم المزيد منها إلى كل نارٍ هدأت، ودخانٌ كثٌّ يفيض منها، ويعبر رئات المتظاهرين، ولا يبالون لأمره. والمتظاهرون في انتفاضة السويداء الحالية ليسوا كلهم من طينةٍ واحدة، هناك من ثقب أذنه وزيّنها بقرط معدنيّ، وأرخى شعره طويلاً، وهناك من يتباهى بلحيته الطويلة المصففة بعناية عند صالون حلاقة، وهناك السياسي المعارض المعروف، وهناك من تفضحه ملامحه في أنه بائع خضار بسيط جاء لكي يوسعَ الحياة الرديئة التي يعيش ضرباً. وهناك أيضاً رجل الدين هادئ الملامح، والسبعينيّ الذي رماه التقاعد إلى أرخبيل العجز والفراغ، وطالب الجامعة مَرِحُ المزاج، والعاشق الذي لا يفارق الجوالُ أذنه، يتحدث عبرهُ إلى حبيبته البعيدة، يخبرها شيئاً عن حربه الأخيرة ضد زعران السلطة، ورئيس عصابتها، ثم يُسمِعها هتافاتٍ تؤكد أنه في المكان الصحيح حيث ينبغي له أن يكون.

أمام ذلك كله، تقف الساحةُ، وخلف ذلك كله تقفُ الساحة أيضاً، وبمقدور الساحة التي غيّرت اسمها أن تنطق أيضاً، وأن تعيد الى الثورة السورية ضد بشار الأسد صوتها، فالتمثال رحل عنها منذ زمن. 

قبل ذلك بأعوام، كانت يدُ التمثال اليمنى مرتفعةً للغاية وهي تحاذي الرأس، وأصابعُ الكف كانت مفرودةً بعناية غير مقصودة، وكأنها ترسم الرقم 5، أو أنها كانت تُحدّقُ بالمارة وتلقي عليهم التحيّة بلا سأم. كان التمثال كبيراً إذاً، الى درجة أنهم زرعوا خلفه أشجارَ نخيل لا تُثمر، لكنها كافية لكي تظلّله في أوقات الظهيرة، وكان تمثال حافظ الأسد ذاك لا يتعب من الوقوف، وكأنه امتهنَ جباية الوقت بلا طائل من أعين الذين ينهرون وجوده بنظرات خاطفة. ظلَّ واقفاً هكذا حتى أوائل شهر أيلول/ سبتمبر من العام 2015 حين اقتلعه متظاهرون غاضبون من مكانه، وجرّوه بسلاسلَ معدنية، ثم ربطوه بجرار زراعي وأبعدوه مساءً عن مدار الساحة والغضب الملتصق بها على أثر جريمة اغتيال مؤسس حركة رجال الكرامة الشيخ وحيد البلعوس، ومن كان معه من قيادات الصفّ الأول لتلك الحركة.

حينها، عرف الناس للمرّة الأولى درباً جديداً للتظاهر يصلهم بتلك الساحة التي سرعان ما تبدّل اسمها من ساحة “السير” إلى ساحة “الكرامة” الأولى، كانت تتمسكُ بأكبر تمثال لحافظ الأسد في السويداء، والثانية ظهرت بلا تمثال يشدّها إلى فضاء دولة البعث، صارت الساحة التي تتوسط السوق التجارية مكاناً ترتاده الاعتصامات والاحتجاجات  منذ العام 2015، وآخرها التظاهرات التي قصدت الساحةَ منذ أيام قليلة، رافعةً تلك الشعارات التي أرعبت النظام السوري قبل 12 عاماً، والتي تمرّدت على السكوت العام مناديةً برحيل بشار الأسد وإسقاط النظام القائم.