fbpx

“ملفات بريداتور”: كيف ساهم الإليزيه مع شركة فرنسيّة في صعود ديكتاتوريات رقميّة ضد الثورات العربيّة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

من بين الوثائق التي اطلعنا عليها، تسجيلات لمحادثات حصل عليها المحققون الفرنسيون لستيفان ساليس أحد مدراء شركة نيكسا، يقول في أحدها: “إذا علمت الصحافة أننا قمنا ببيع بريداتور لمصر، ستكون هذه نهايتنا”. وفي مكالمة أخرى، تحدث عن العواقب “السيئة جداً جداً” إذا تكررت “أخطاء” من نوع قتل الخاشقجي أو التنصت على رجل الأعمال جيف بيزوس.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شركة NEXA الفرنسية التي تربطها صلة بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باعت أجهزة تنصت متطورة لديكتاتوريات من بينها مصر، وذلك تحت أعين (وأحياناً بتسهيل) أجهزة رسمية خلافاً للقوانين ومعايير التصدير الأوروبية. 

وزارات وإدارات رسمية عرقلت توسّع التحقيق في حق الشركة التي اتُّهم أحد مديريها في حزيران/ يونيو عام 2021 بـ”التواطؤ على التعذيب” بسبب دعاوى رفعتها منظمات فرنسية حقوقية على خلفية عقد بيع أجهزة تنصت لنظام القذافي في العام 2007 ونظام عبد الفتاح السيسي في مصر في العام 2014. 

“ملفات بريداتور”: شركات أوروبية لعبت دوراً كبيراً في صعود الديكتاتوريات الرقمية 

لا صوت يعلو على صوت المال في عالم السياسة والتجسس والاستخبارات، حتى وإن عنى ذلك تقويض الديمقراطية في عقر دارها، وارتكاب جرائم بحق المطالبين بها حول العالم. 

هذا ما تكشفه Predator Files – ملفات بريداتور، وهي وثائق سرية بالمئات حصل عليها موقع ميديابارت  Media Part الفرنسي وصحيفة دير شبيغل Der Spiegel الألمانية، وعمل عشرات الصحافيين على تحليلها على مدى أشهر بالتعاون مع تحالف الصحافيين الاستقصائيين European Investigative Collaborations EIC في أوروبا، وشركاء آخرين من بينهم موقع “درج” بمساعدة تقنية من مختبر الأمن التابع لمنظمة العفو الدولية.

التحقيقات المستندة إلى هذه الوثائق والتي سننشرها خلال الأيام المقبلة، تكشف الأساليب الملتوية التي لجأت إليها شركات أوروبية لتجاوز معايير التصدير الأوروبية والعقوبات المفروضة على ديكتاتوريات، بهدف إبرام العقود المربحة بأي ثمن، حتى بعد التأكد من الانتهاكات التي كانت تحصل على مستوى حقوق الإنسان، والتي وصلت في بعض الحالات إلى القتل، كما حصل في قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي. 

تكشف الوثائق عن بيع نيسكا NEXA (شركة فرنسية تملك صلات مباشرة مع الأليزيه ويواجه مديروها منذ العام 2021 تهمة “التآمر على التعذيب”)  تقنيات تجسس على الإنترنت لعدد من الأنظمة، من بينها قوات الجنرال خليفة حفتر المتهم بجرائم حرب، في تجاوز للعقوبات الأوروبيّة التي تمنع بيع الأسلحة الأوروبية إلى ليبيا.  

أبرز ما تكشفه وثائق Predator Files يتعلق بالصلة بين شركتي نيكسا NEXA وإنتيليكسا Intellexa، والأخيرة شركة أوروبية على علاقة بضباط مخابرات إسرائيليين سابقين اشتهرت بسبب منتجها “الخارق” بريداتور الذي بيع لثلاث ديكتاتوريات على الأقل، هي مصر وفيتنام ومدغشقر. 

 يعتبر بريداتور المنافس الأول لتطبيق بيغاسوس Pegasus الذي كُشف عنه منذ سنتين ضمن مشروع أدارته مؤسسة Forbidden Stories الفرنسية، وشارك فيه “درج”. 

مثل منافسه الإسرائيلي الصنع، يستطيع بريداتور حصاد أية معلومات موجودة على هواتف ذكية عبر تحويل المايكروفون والكاميرا إلى أجهزة تنصت من دون إعطاء أي إنذار. آخر ضحايا بريداتور، أحمد طنطاوي، المرشح المحتمل للرئاسة في مصر، والذي كشف موقع Citizen Lab الكندي عن تعرض هاتفه للاختراق بين مايو/ أيار وأيلول/ سبتمبر 2023. هاتف عضو البرلمان والمرشح الرئاسي السابق أيمن نور تعرض أيضاً للاختراق في العام 2021 بحسب تقرير للموقع نفسه. 

ذاع صيت التطبيق أيضاً إثر فضيحة Predator Gate في اليونان، حيث كُشف عن استخدام التقنية للتجسس على 75 شخصاً، من بينهم معارضون وصحافيون.

الوثائق تكشف وللمرة الأولى عن العلاقة بين شركة إنتيليكسا (مجموعة مقرها في أوروبا يقودها ضباط مخابرات إسرائيليون سابقون) وشركة نيكسا.  كما تكشف تحقيقات Predator Files عن الأساليب التي اتبعتها إدارة نيكسا على مدى أكثر من عشر سنوات لإخفاء علاقتها بشركة فرنسية أخرى اسمها Amesys، واجهت هي الأخرى تهمة “”التآمر على التعذيب” على خلفية بيع أجهزة تنصت استخدمها الديكتاتور معمر القذافي للتنصت على معارضيه وملاحقتهم. 

هذه الملفات كلها بدأ التمهيد لها في أوج الربيع العربي، قبل أن تتحول الثورات المطالبة بالحرية إلى حروب أهلية وديكتاتوريات جديدة لا تقل عنفاً وإجراماً عن سابقاتها. بعد أكثر من عشر سنوات، تأتي وثائق Predator Files لتكشف عن الدور الذي لعبته شركات أوروبية ساهمت في تعويم أنظمة متهالكة قبل إعادة إنتاجها بشكل ديكتاتوريات رقمية.   

علمت شركة إنتيليكسا بالتحقيقات التي نقوم بها بعدما راسلناها لضمان حق الرد، وتمكن مكتب الأمن الدولي الرقمي في أمنيستي من رصد نشاط الشركة إثر ذلك، يقول دونشا أوشيربيل مدير المكتب: “شركة إنتيليكسا تحاول بشكل واضح إيقاف خوادم بريداتور الخاصة بالعدوى الرقميّة، منذ أن علموا أن الهجمات التي استُخدم فيها بريداتور قد تم فضحها، وأُغلق أكثر من 70 في المئة من خوادم بريداتور منذ منتصف أيلول”. 

شركة NEXA الفرنسية التي تربطها صلة بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باعت أجهزة تنصت متطورة لديكتاتوريات من بينها مصر، وذلك تحت أعين (وأحياناً بتسهيل) أجهزة رسمية خلافاً للقوانين ومعايير التصدير الأوروبية. 

البداية من معمر القذافي 

في 23 آب/ أغسطس من العام 2011، بعد ساعات قليلة من سقوط قاعدة باب العزيزية العسكرية جنوب العاصمة الليبية طرابلس في يد الثوار، دخلت مراسلة الـ”وول ستريت جورنال” الأميركية مصادفة إلى مبنى حكومي من ستة طوابق، لتجد نفسها داخل مقر جهاز المخابرات التابع لديكتاتور ليبيا معمر القذافي. 

في واحد من طوابق المبنى المهجور، وجدت المراسلة نفسها في غرفة العمليات التي أدارت منها أجهزة المخابرات الليبية حملات التجسس ضد معارضي القذافي مستعملةً تقنية إيغل EAGLE الفرنسية الصنع. 

في غرف أخرى من المبنى، كان واضحاً أنها أخليت على عجل مع اقتراب وصول الثوار الى طرابلس، إذ وجدت الصحافية نسخاً عن عقود تم توقيعها في العام 2007 مع شركة فرنسية اسمها أميسيز AMESYS، إضافة الى كم هائل من الوثائق التي تم تجميعها بدءاً من العام 2009، تاريخ الانتهاء من تركيب إيغل وبدء العمل فيه والاستمرار بذلك حتى بعد انطلاق تظاهرات 2011.  من بين الوثائق، آلاف المحادثات والرسائل الإلكترونية تبادلها ناشطون وحقوقيون وصحافيون تمت طباعتها وحفظها على شاكلة ملفات أمنية في حق أعداء الدولة المشاركين بتهمة واحدة: معارضة القذافي.

بعد فترة قصيرة، في شهر تشرين الأول/ أكتوبر، تقدمت منظمتان حقوقيتان هما الاتحاد الدولي لرابطات حقوق الإنسان ( Federation Internationale des Ligues des Droits de L’homme-FIDH ورابطة حقوق الإنسان  (LDH) بشكوى تحمل طابعاً مدنياً طلبتا بموجبها من المدعي العام في المحكمة العليا في باريس فتح تحقيق في إمكان التورط بجرائم حرب، واتهمتا أميسيز بـ“التواطؤ على التعذيب”.

آنذاك، نفت أميسيز التهمة نفياً قاطعاً مؤكدة عبر بيان أن بإمكانها وبسرعة إثبات أن الشركة كانت ملتزمة بالقوانين. لكن ذلك لم يكن كافياً لإنقاذها. 

نهاية أميسيز بداية نيكسا وشقيقتها الإماراتية AMES

في تلك الفترة، كانت الثورات العربية لا تزال تلهم العالم بسبب شجاعة المشاركين فيها ونضارتهم، ومجرد محاولة الوقوف في وجهها كان محكوماً بالخسارة. انعكس هذا الأمر على قضية بيع أجهزة التنصت للقذافي. في البداية، بدأت الرسائل “المهينة” تصل الى مديري الشركة، لكن الأزمة الحقيقية جاءت من البنوك التي راحت تغلق حسابات الشركة واحداً بعد آخر.

 فهم مديرو أميسيز خطورة الوضع وكان لا بد من التصرف، وهكذا اتُّخذ القرار بإنهاء حياة الشركة أياً كان الحكم القضائي.  

بالنسبة الى مدير الشركة والرقم واحد فيها ستيفان ساليس Stéphane Salies، كان الحل بسيطاً وواضحاً: إنشاء شركة جديدة مقرها في فرنسا واسمها نيكسا تطوي صفحة شركة أميسيز سيئة الذكر بعد استحصالها على الملكية الفكرية لتطبيق إيغل الذي أعيدت تسميته هو الآخر ليصبح سيريبرو.

خلال تلك الفترة، تم تأسيس شركة أخرى اسمها Advanced Middle East Systems (AMES) ويديرها الأشخاص أنفسهم، ولكن مقرها في إمارة دبي بالإمارات العربية المتحدة.

في إجابته عن أسئلتنا، نفى ساليس أن يكون الهدف من الشركة في دبي هو تجاوز قوانين التصدير الفرنسية، ولكن تفاصيل ننشرها لاحقاً تظهر كيف استفادت نيكسا من وجود شقيقتها الإماراتية. 

مع إغلاق أميسيز، طويت صفحة حافلة من العقود المشبوهة التي وُقِّعت مع عدد من العملاء، من بينهم ديكتاتوريات كانت على علاقة جيدة بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مثل الغابون وغينيا والمغرب. من بين الزبائن الذين اشتروا تطبيق إيغل أيضاً، قطر وكازاخستان في توقيت مريب ويحتمل أن يكون مصادفة، إذ تزامن إمضاء العقود مع فوز قطر بتنظيم كأس العالم في العام 2010، وفي السنة نفسها صدرت الأحكام في قضية Kazakhgate التي كشفت عن تلقي الرئيس الأذري نزارباييف رشوة من رجل أعمال أميركي. 

هذه القضايا كافة كان بإمكانها أن تؤثر على أميسيز بشكل أو بآخر، ولكنها بالنسبة الى نيكسا لم تكن تعني شيئاً. خلال أشهر قليلة، عادت الشركة باسمها الجديد لممارسة نشاطاتها وكأن شيئاً لم يكن. لا بل إن حجم الأعمال صار ينمو بطريقة متسارعة. خلال هذه الفترة، كانت الشركة الفرنسية قد طورت تقنيات جديدة تسمح بالتنصت على المكالمات الهاتفية وبالتجسس على الإنترنت بطرق أكثر فعالية. 

الوثائق التي اطلعنا عليها تظهر أن أكثر من 30 عقداً في عشرين بلداً تم توقيعها خلال الفترة الممتدة بين 2012 و2021، بعضها مع ديمقراطيات مثل سويسرا وألمانيا والنمسا، ولكن غالبيتها كانت مع ديكتاتوريات من بينها قطر والتوغو وبرازافيل وكينيا والإمارات العربية المتحدة وباكستان والأردن وفيتنام.

من أكبر العقود التي تم توقيعها، عقد بقيمة 15.6 مليون يورو في العام 2014، بعد أشهر قليلة على الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال عبد الفتاح السيسي كشف عنه للمرة الأولى تحقيق صحافي في برنامج Télérama في العام 2017.

بناء على التحقيق في 17 تشرين الثاني من العام نفسه، تقدم كل من الاتحاد الدولي لرابطات  حقوق الأنسان ( Federation Internationale des Ligues des Droits de L’homme-FIDH ورابطة حقوق الأنسان (LDH) مرة جديدة بشكوى تحمل طابعاً مدنياً (a constitution de partie civile)، وهذه المرة ضد شركة نيكسا تكنولوجيز NEXA TECHNOLOGIES بتهمة “التواطؤ على التعذيب”.  هذه الدعوى أعادت دفع ملف مديري الشركة القضائي الى الواجهة، ولكنّ وزيراً فرنسياً عرقلها، وهو ما نكشفه في تحقيق ننشره خلال هذا الأسبوع. 

“إذا علمت الصحافة، ستكون نهايتنا” 

شكّل مقتل الصحافي جمال خاشقجي في تشرين الأول من العام 2018، أزمة بالنسبة الى مديري شركة نيكسا. بالنسبة الى ستيفان ساليس، لم تكن المشكلة في هول الجريمة المرتكبة، بل في الخوف من انعكاساتها على سير الأعمال. من بين الوثائق التي اطلعنا عليها، تسجيلات  لمحادثات ساليس حصل عليها المحققون الفرنسيون، يقول في أحدها: “إذا علمت الصحافة أننا قمنا ببيع بريداتور لمصر، ستكون هذه نهايتنا”. وفي مكالمة أخرى، تحدث عن العواقب “السيئة جداً جداً” إذا تكررت “أخطاء” من نوع قتل الخاشقجي أو التنصت على رجل الأعمال جيف بيزوس. 

أهمية هذه التصريحات تكمن بأنها تكشف وعي مديري نيكسا لخرق زبائنهم معايير الاستعمال، بخاصة على صعيد حقوق الإنسان، والأخطر، إدراكهم أن فضح معلومات عن بعض العقود ستكون له عواقب خطيرة، وهو أمر تعذر إثباته في مراحل سابقة.   

الدعوى في حق ساليس والشركاء الآخرين كانت قد توقفت في مرحلة سابقة لعدم إمكان إثبات فرضية أن استخدام تقنية إيغل ومن بعدها سيريبرو أدت الى توقيف معارضين تعرضوا للتعذيب في السجون سواء كان ذلك في مصر أو قبل ذلك في ليبيا، حتى وإن كانت خدمة “التنصت على المواطنين” هي تماماً ما قدمته شركة أميسيز عند طرحها إيغيل الذي كان يقدم أحدث ما توصلت إليه تقنيات التجسس في تلك المرحلة، نقرأ في منشور ترويجي للشركة:  

“أي نشاط رقمي يقوم به شعبك؟ العناوين. الأصدقاء. الموردون. الشركاء. من على تواصل مع من في بلدك؟”، تحت هذه العناوين، روجت أميسيز لمنتجها ولكن

مديريها حافظوا على موقفهم بحجة أن العقود كانت قانونية وضرورة ولأهداف أمنية واستراتيجية. 

عنوان مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة كان دائماً الأبرز لتبرير العقود، ولكن المعلومات التي حصلنا عليها تظهر أن هدف عدد كبير من هذه الدول كان مراقبة المعارضين وتوقيفهم وقمعهم، فيما بقي الكسب المالي هو المعيار الأهم بالنسبة الى الشركة حتى في الدول ذات السجل الحافل بتجاهل حقوق الإنسان، لا بل أكثر في هذه الدول. من بين الوثائق التي اطلعنا عليها، مراسلة تظهر أن نسبة 4 في المئة إضافية كانت من نصيب من يتمكن من إتمام عملية بيع مع ثلاث دول عالية الخطورة، هي العراق وأفغانستان وليبيا. بالطبع، ينفي مديرو نيكسا هذا الأمر بشكل قاطع. فقد قالوا للشرطة خلال التحقيق معهم بحسب الوثائق التي اطلعنا عليها، إن الشركة تصرفت بطريقة “مطابقة بشكل كامل” للقوانين.

“أنا لا أحكم على التجربة الديمقراطية للزبائن، لأني أعتمد على تقييم الدولة التي تأذن لي بالبيع لهذه الدول”، قال رينو روكس Renaud Roques الرقم 3 في الشركة والمسؤول عن صلتها المباشرة بقصر الإليزيه.  

دبي: عقود أكثر قيود أقل

في العام 2021، سأل محققو الـ SBDU عما إذا كانت فعلاً قد أعطت تراخيص بيع لشركة نيكسا، ليتبين أن هناك تراخيص لثلاث دول هي قطر ومصر وسنغافورة. 

من بين الفرضيات المطروحة، أن الشركة الفرنسية تمكنت من الحصول على رخص تصدير من دول أخرى، بخاصة الإمارات العربية المتحدة.  

هنا يبدأ دور الشركة الشقيقة في دبي.

تشير السجلات الرسمية الى أن شركتي نيكسا الفرنسية وAMES الإماراتية غير مرتبطتين، ولكن الوثائق التي حصلنا عليها تظهر أنهما بالفعل شركتان شقيقتان. وينفي مديرو نيكسا أن يكون الغرض من تأسيس شركة دبي هو الالتفاف على القوانين الأوروبية، ويتذرعون بأن الهدف الوحيد هو “الاقتراب” من الزبائن. الوثائق تظهر أن شركة دبي كانت تقع على عاتقها مهمة التهرب الضريبي، فضلاً عن غياب المشاكل مع الصحافة وسهولة أكبر للتصدير.

في رسالة إلى جهاز المخابرات في باكستان، يقول ساليس: “الاتحاد الأوروبي شدد معايير التصدير بالنسبة الى التكنولوجيا السيبرانية والتنصت، ولكن لحسن الحظ هذه العقبات محلولة بالنسبة الى AMES التي تملك نسبة 100 بالمئة من الحقوق الفكرية للشركة، وهي في دبي حيث ليس هناك خطر أن يتم رفض إذن التصدير”.

تكشف الوثائق أن وجود الشركة الإماراتية كان يسمح بالتصدير بعيداً عن مراقبة الأجهزة الفرنسية المتخصصة التي كانت تغض النظر. وتكشف أيضاً أن الإمارات منحت AMES على الأقل تصريحاً للتصدير. لكن الإمارات نفت منحها أية تصريحات للتصدير، وقالت في رد رسمي على أسئلتنا: “الادعاءات المذكورة في سؤالكم المتعلق بمنح الإمارات العربية المتحدة تراخيص تصدير لبيع أجهزة تنصت خاطئة بشكل كامل. الإمارات تنفي بشكل كامل أية ادعاءات تتعلق بتسهيل بيع أي أجهزة تنصت لأي دولة”.

من بين الأمثلة الفادحة، العقد الذي تم توقيعه في العام 2014 مع مصر، والذي شمل، من بين برامج أخرى، سيريبرو لمراقبة الإنترنت، وكان بقيمة 15.6 مليون دولار، دفعتها الإمارات العربية المتحدة التي كانت ترغب في مساعدة السيسي بعد انقلابه على الإخوان المسلمين، خصمها اللدود. أيضاً لم تجب الإمارات عن هذه النقطة.

عملية البيع بكاملها كانت مع شركة نيكسا، ولكن الترخيص الذي حصلت عليه الأخيرة من SBDU، يقول إن الشركة تقدم خدمات لصالح شركة AMES لتركيب النظام في مصر. 

حول هذه النقطة، ردّ ساليس بالنفي بشكل قاطع، وقال إن “تأسيس الشركة لم يكن ولا بأي شكل من الأشكال لتجاوز القوانين، لأن الإمارات تلتزم المعايير الأوروبية، فهي أيضاً قد وقعت على اتفاقية Wassengar.

شفافية ساليس قد يكون مشكوكاً في أمرها، ولكن عندما يتعلق الأمر بدبي فيبدو الرجل صادقاً بإعجابه بالمدينة التي جعلها مكان إقامته منذ العام 2017. فبعد نشر تحقيق Telerama والكشف عن العقد مع  مصر، استقال ساليس من الشركة الفرنسية وانتقل للعيش في دبي حيث “لا مشاكل مع الإعلام” في بلده الجديد. وهو يعيش حياة رفاهية واضحة في فيلا قيمتها مليون ونصف المليون دولار، ويملك سيارتي بورش ماكان ومرسيدس جي تي بقيمة 170 ألف دولار، فضلاً عن منزل في ضاحية فرنسية بقيمة أربعة ملايين ونصف المليون دولار. 

 باريس..رئيس جديد وبداية جديدة

تحقيق Telerama والدعوى القضائية الجديدة التي تلته، كان لهما وقع كبير على شركة نيكسا، من بينها استقالة ساليس، ولكن مرة أخرى، استطاعت الشركة أن تتجاوز الإشكاليات القضائية، والحل هذه المرة جاء من بوابة الإليزيه وعن طريق الرجل رقم 3 في الشركة رينو روكس الذي شاءت المصادفة أن يكون من المتطوعين في حملة ماكرون الانتخابية. 

مصادفة ممكنة أخرى حصلت بعد أقل من سبعة أشهر على وصول ماكرون إلى الرئاسة، جاءت على شكل ترخيص من جهاز الأمن الوطني يسمح لشركة نيكسا بالمشاركة في عقود دفاع عالية السرية. العلاقة بالرئيس الفرنسي لم تنته عند هذا الحد. فبعد أقل من سنة، شارك ماكرون في اجتماع مع ممثلين عن نيكسا بحضور حارسه الشخصي السابق ألكسنر بنالا الذي تقول المعلومات إنه لعب دور الوسيط بين نيكسا والمملكة العربية السعودية. الإليزيه وبنالا لم يردا على الأسئلة.

مديرو نيكسا قالوا إن بنالا لم يلعب أي دور وساطة مع السعودية ولم يتلق أي أموال من الشركة. وبنالا نفسه صدر حكم بحقه أخيراً في قضية أخرى.  

المزيد عن هذا الموضوع في تحقيقنا عن السعودية هنا.  

تحالفات جديدة وعقبات جديدة 

في العام 2019، اشترت نيكسا Trovicor، وهي شركة ألمانية مرتبطة بشركتي Siemens and Nokia Siemens Network، تعرضت لمشاكل قضائية بعد الكشف عن بيعها تقنيات تجسس لصالح ديكتاتوريات في الشرق الأوسط، من بينها البحرين وإيران وسوريا. وللابتعاد عن المشاكل التي تلت فضيحة بيع الأجهزة الى مصر، تم تغيير اسم الشركة الفرنسية لتصبح Trovicor Intelligence،

الأساليب نفسها استخدمها المديرون للهروب من الملاحقات القانونية، ومرة جديدة نجحوا بذلك، أقله مرحلياً. ولكن المشكلة في تلك السنة لم تكن في التسميات بل في أسباب أخرى تقنية.  

في العام 2018، أدخلت شركات الهاتف تقنية encryption الى أجهزتها الجديدة. مع دخول هذه التقنية إلى المشهد، فقد تطبيق سيريبرو فعاليته، الأمر الذي انعكس بشكل كبير على مداخيل الشركة وأرباحها. إذ تظهر الوثائق أن العقود الموقعة في تلك السنة تراجعت من 23 مليون دولار إلى 8 ملايين دولار. 

مرة جديدة كان لا بد من تدابير غير اعتيادية. والمطلوب كان تطوير تقنية شبيهة لبيغاسوس الذي أنتجته الشركة المنافسة NSO. فصار اللجوء إلى الخبرة الإسرائيلية في المجال، أمراً لا بد منه بالنسبة الى الشركة الأوروبية. 

الشريك الإسرائيلي

قد يكون تال ديليان Tal Dilian اسماً لامعاً في عالم الاستخبارات، ولكن هذا الاسم قد لا يعني أي شيء لسكان بلدة Champéry السويسرية. على واحدة من تلال هذه المقاطعة الهادئة من كانتون Valais وعلى بعد أقل من ستة كيلومترات عن الحدود الفرنسية، اختار الضابط السابق في المخابرات الإسرائيلية مكاناً للإقامة. على باب الشاليه، لوحة صغيرة كُتبت عليها عبارة Chez Dilian الى جانب لوحة صغيرة كتب عليها: “السلام لكم، و السلام لمنزلكم، والسلام لكل ما تملكون”،  ومن حولها تبدو الطبيعة جميلة وساكنة. كل شيء في المشهد يوحي بالهدوء، بما في ذلك التفاصيل القليلة المتوافرة عن حياة ديليان. ففي العام 2010، استثمر في شركة تاكسي محلية، وفي العام 2021 استقبل مولوداً جديداً بحسب ما ذكرت صحيفة محلية.

منزل الضابط السابق في المخابرات الإسرائيلية تال ديليان في سويسرا

هذه الحياة الهادئة لا تعكس الصورة الحقيقية للحياة الصاخبة التي عاشها ديليان، سواء كان ذلك خلال الـ 25 عاماً التي أمضاها في الوحدة 81، وهي إحدى أكثر وحدات النخبة الإسرائيلية شهرة، أو خلال المرحلة التي تلت خروجه منها وانضمامه إلى شركات التجسس الخاصة.

أظهر تحقيق نشرته مجلة Catalyst، أنه بين العامين 2003 و2010، أسس 100 متقاعد من الوحدة 81، خمسين شركة استخبارات خاصة، جمعت 4 مليارات دولار بلغت قيمتها الاستثمارية أكثر من عشرة مليارات دولار. في العام 2003، أجبر ديليان على الاستقالة من الجيش بسبب شبهات اختلاس. 

شهرته الإعلامية أخذت أبعاداً كبرى بعد مقابلة أجراها مع مجلة Forbes الأميركية في العام 2009، بعيد انتقاله إلى قبرص حيث أسس في العام 2008 شركة اسمها Circles باعها في العام 2014 الى منافسته NSO بقيمة 130 مليون دولار.

خلال مقابلة مع Forbes، يبدو ديليان مرتاحاً وواثقاً وفخوراً بما تقدمه شركته التي فاقت مبيعاتها الـ500 مليون دولار سنوياً، بحسب قوله. 

مثل شركائه الفرنسيين، يبدو ديليان مقتنعاً عندما يقول إن المسؤولية ليست على الشركة التي تبيع الأجهزة، وإنما على الزبون الذي قد لا يلتزم بمعايير استخدامها. “نحن نعمل مع الناس الصالحين، وهذا لا يعني أنهم لا يخفقون أحياناً”. 

خلال المقابلة، يقول ديليان إن باستطاعة التطبيق حصاد كل المعلومات على أي هاتف ضمن إطار 500 متر. ولإثبات الأمر، يقدم تجربة من فان أسود وُضعت فيه كل المعدات. “الآن سنتتبعهم، سنقوم باعتراضهم وسنصيب هواتفهم” يقول متحمساً.   وبعد ثوان قليلة يصبح كل ما هو مسجل على هواتف زملائه موجوداً على شاشات شاحنة التجسس.

يضيف ديليان في المقابلة: “لا يجب اعتبار هذه التقنية سيئة، فهي تُستخدم لملاحقة الإرهابيين وتجار المخدرات”. لم يقنع هذا الكلام السلطات القبرصية، التي بدأت تحقيقاً وصادرت الفان. آنذاك، غادر ديليان قبرص متجهاً إلى اليونان، وفي العام 2019 تم إطلاق إنتيليكسا أليانس Intellexa Alliance بالشراكة بين نيكسا ومجموعة تال ديليان التي تديرها محامية بولندية تدعى سارا هامو، وهي زوجة ديليان الثانية. مكان إقامة ديليان الحالي غير معروف، ولكن لديه أربعة أرقام شارك من خلالها في محادثات على تطبيق “واتسآب” جمعته مع مديري شركة نيكسا، رقمان في إسرائيل، ورقم سويسري ورقم أخير قبرصي. 

الزبون المصري: 

الحديث عن بريداتور وبيعه لمصر من أكثر المواضيع التي ناقشتها مجموعة الـ”واتسآب” إثارةً. وورد فيها مثلاً، أنه في 19 أيلول 2020، يخبر ساليس المجموعة على “واتسآب”، أن “الزبون يصر على تجربة التقنية الجديدة في القاهرة خلال أسبوع، وأن الدفعة الأولى مرتبطة بنجاح التجربة”. ويشير تطور المحادثات على المجموعة إلى أن العملية تمت بنجاح التجربة. 

في 31 كانون الأول من العام نفسه، يكتب ساليس إلى المجموعة قائلاً: “حصلت الآن على رسالة من العميل تفيد بأن العقد قد تم توقيعه”. “ممتاز، كل سنة وأنتم بخير” رد ديليان مع إيموجي شامبانيا”.

نجاح التجربة التقنية لا ينفي أرجحية أن الشركاء كانوا على معرفة بما تقوم به السلطات المصرية من خروقات لحقوق الإنسان بحق معارضيها. قبل أشهر قليلة من توقيع العقد، وتحديداً في 24 حزيران، كانت سارة حجازي قد أقدمت على الانتحار في شقتها في تورونتو. كانت هذه المحاولة الثالثة لسارة لإنهاء حياتها، وفي هذه المرة نجحت.  

مأساة سارة مع نظام السيسي كانت قد بدأت قبل ذلك بسنوات، عند اعتقالها وتعذيبها لمدة ثلاثة أشهر بتهمة “نشر الرذيلة” بسبب رفعها لعلم الفخر خلال حفل غنائي لفرقة “مشروع ليلى” اللبنانية. 

من الصعب جداً أن يتمكن مديرو نيكسا من إنكار معرفتهم بسارة وقصتها، إذ تظهر محادثات بين روكس وأحد المهندسين حدوث استقالات في الشركة “لأسباب أخلاقية”.  

خرجت سارة من المعتقل في شهر كانون الثاني من العام 2018. في تلك السنة، استقال مهندسو كومبيوتر من شركة نيكسا بسبب خوفهم من أن التقنية “تُستخدم لملاحقة المثليين”.

“عشت مع هذا الثقل كل هذه السنوات، إنه ثقل كبير على ضميري”، يقول نيكولاس ديكمان Nicolas Deckmyn، وهو مهندس غادر نيكسا في 2019. “بعد سنوات، بتّ مقتنعاً بأن لا شيء سيتغير بالنسبة الى القوانين المتعلقة بأجهزة التنصت، والتي تباع لبعض الدول غير الديمقراطية”.

في 15 و16 حزيران 2021، تمت مداهمة نيكسا ومنازل مديريها، ولكنهم حالياً يتمتعون بقرينة البراءة.