fbpx

في غزة: سيناريو “إسرائيل الكبرى” مقابل سيناريو أوسلو

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مرة أخرى، سيؤدي قصر النظر والكيل بمكيالين لدى الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين إلى انفجار الأمور في وجههم، لكن هذه المرة بعواقب أكثر مأساوية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

على رغم الإعلان عن الاجتياح البريّ لقطاع غزة قبل أيام عدة وكأنه أمر وشيك، إذ أُعطي لأكثر من مليون إنسان يقطنون النصف الشمالي من القطاع 24 ساعة فقط للفرار جنوباً، لم يبدأ بعد هجوم الجيش الإسرائيلي برّاً على غزة عند تحرير هذا المقال. وعلى رغم محاولات إسرائيل إعطاء انطباع مغاير، فإن التأخير في الغزو البريّ يعكس حقيقة مفادها أن القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيليتين لم تكن لديهما خطة جاهزة لاجتياح غزة على النطاق الذي باتوا يتأملونه منذ هجمة “حماس” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر. ولم يكن الجيش الإسرائيلي يتوقع إعادة احتلال غزة التي انسحب منها قبل 18 عاماً. فالعمليات المتتالية التي شنّها ضد القطاع في أعوام 2006 و2008-09 و2012 و2014 و2021 — لو اكتفينا بالإشارة إلى أكبرها — إنما كانت محدودة جميعاً، قامت بصورة أساسية على القصف الجويّ، بالإضافة إلى هجمات برّية محدودة في عامي 2009 و2014. لكنّ حجم العنف الاستثنائي في 7 تشرين الأول وتأثيره المروع جعلا من المستحيل على قادة إسرائيل تحديد هدف أقل من القضاء الكامل على “حماس” في غزة، و”إحلال السلام” في القطاع.

إنه لتحدّ كبير، إذ إن اجتياح أرض مأهولة بكثافة سكانية مثل قطاع غزة يقتضي خوض حرب مدينية محفوفة بالمخاطر بالنسبة الى المهاجم، فضلاً عن أنه يطرح بصورة حادة مشكلة مصير الأراضي التي يتم الاستيلاء عليها. فالقضية ليست عسكرية فقط، بل هي سياسية بشكل رئيسي. ذلك أن الارتباط الوثيق بين الاعتبارات السياسية والعسكرية يظهر على أوضحه في الوضع الحالي، إذ إن نطاق العنف الذي لا بدّ منه في سبيل أن تحقق إسرائيل أهدافها المعلنة، سيثير بالضرورة عواقب سياسية ستؤثر على سير الحرب نفسها.

أبرز عامل في المعادلة هو أن تحمّل إسرائيل الخسائر بين جنودها محدود جداً، كما بيّنت مبادلة الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، الذي كان محتجزاً في غزة، بأكثر من ألف أسير فلسطيني. هذا يجعل من المستحيل على الجيش الإسرائيلي شنّ هجمات برية ذات كلفة عالية بأرواح الجنود، على غرار هجمات القوات الروسية على أوكرانيا منذ عام 2022 (سواء شنّتها القوات النظامية أو تلك التابعة لجماعة فاغنر)، ناهيك بالحالات القصوى مثل “الأمواج البشرية” التي أطلقتها إيران خلال حربها مع العراق لسنوات 1980-88.

لذا، فإن تفوق الجيش الإسرائيلي على أقصاه في أراض مثل صحراء سيناء المصرية أو هضبة الجولان السورية، حيث الأبنية قليلة وحيث تكون القوة النارية عن بُعد هي الحاسمة. وبالعكس، عندما أمر أرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، جنوده بدخول بيروت المحاصرة في أوائل آب/ أغسطس عام 1982، اضطرّوا إلى التخلي عن المحاولة في اليوم التالي. ولم يتمكنوا من اجتياح المدينة في منتصف أيلول/ سبتمبر إلا بعد إجلاء المقاتلين الفلسطينيين منها إثر مفاوضات، ثم انسحبوا في نهاية الشهر بعد بدء حركة مقاومة مدينية لبنانية ناشئة باستهدافهم.

النتيجة الطبيعيّة لما سبق، هي أن السبيل الوحيد لجيش إسرائيل كي يجتاح أي جزء من مناطق غزة المدينية الكثيفة والواسعة بأقل خسائر ممكنة، هو تسطيح المساحات التي يسعى إلى احتلالها بواسطة قصف مكثف قبل شن الهجوم البري. وهذا هو بالفعل ما بدأ على الفور بعد 7 تشرين الأول، وقد تجاوز مستوى الدمار بنطاقه وكثافته حملات القصف الإسرائيلية السابقة، من لبنان في عام 2006 إلى الحروب المتتالية على غزة. فلم يكن في وسع الجيش الإسرائيلي تسطيح مساحات واسعة من الأراضي المدينية في أي من الحروب السابقة، لا لنقص القوة المدمرة لديه بالطبع، لكن لعدم توافر الشروط السياسية السانحة.

كان الأمر على أوضحه في عام 1982، عندما أثار حصار إسرائيل لبيروت احتجاجات دولية كبيرة وأزمة سياسية داخل إسرائيل نفسها، حيث خرجت المعارضة لحكومة الليكود برئاسة مناحيم بيغن وأرييل شارون في احتجاجات حاشدة. أما في الحروب السابقة على غزة، فلم تكن لدى الجيش الإسرائيلي أي نية في إعادة احتلال جزء من القطاع على أي حال. لكن هذه المرة، فإن هذه النية معلنة بوضوح، إذ إن الصدمة من جراء قتل عدد كبير من المدنيين الإسرائيليين، فضلاً عن الجنود، بلغت حجماً أدى بالجمهور الإسرائيلي وبالداعمين الدوليين التقليديين لإسرائيل إلى تأييد صريح أو ضمني لإعادة احتلال غزة بكاملها. فماذا يمكن أن يعني القضاء على “حماس” ومقارنتها بـ”داعش” إن لم يكن تمشيط القطاع بكامله؟

وقد نقلت صحيفة Financial Times أخيراً، بناءً على مقابلات أجرتها مع خبراء عسكريين، ما يلي:

“سينتهج الجيش الإسرائيلي ما يسمى “عقيدة النصر”، التي تقتضي أن يدمّر سلاح الجو بسرعة قدراً كبيراً من الأهداف المُعتمدة مسبقاً. هذه المقاربة جارية الآن، إذ تقصف الطائرات النفاثة بشكل كثيف مناطق واسعة في غزة، ولا تتوقف سوى للتزود بالوقود، وهو أمر غالباً ما يتم في الجو. تهدف الحملة إلى الحؤول دون أن تستطيع “حماس” إعادة تجميع صفوفها، بالإضافة، وفقاً لشخص مطلع على المناقشات التي أسفرت عن عقيدة عام 2020، إلى “تحقيق أكبر قدر ممكن من الأهداف قبل أن يقوم المجتمع الدولي بالضغط سياسياً لإبطاء العملية”.

هذا هو السيناريو العسكري الذي يُعدّ الآن. وهنا يأتي البعد السياسي. فإذا كان الهدف العسكري هو بالفعل إعادة احتلال غزة للقضاء على “حماس”، فالأسئلة التالية هي بالطبع: إلى متى سيستمر الاحتلال ومن سيضع مكان “حماس”؟ ثمة مجال أكبر بكثير للاختلاف حول هذين السؤالين الاستراتيجيين مقارنة بالاستراتيجية العسكرية، التي عادة ما تكون مُعاملاتها أضيق بكثير، نظراً الى أنها تعتمد على اعتبارات موضوعية وطبيعة الوسائل العسكرية المتاحة. فإن القطبين المعاكسين للتباين السياسي يفضيان إلى تصوّرين نسميهما سيناريو “إسرائيل الكبرى” و”سيناريو أوسلو”.

على رغم الإعلان عن الاجتياح البريّ لقطاع غزة قبل أيام عدة وكأنه أمر وشيك، إذ أُعطي لأكثر من مليون إنسان يقطنون النصف الشمالي من القطاع 24 ساعة فقط للفرار جنوباً، لم يبدأ بعد هجوم الجيش الإسرائيلي برّاً على غزة عند تحرير هذا المقال.

سيناريو “إسرائيل الكبرى”

سيناريو “إسرائيل الكبرى” هو الذي يستهوي بنيامين نتانياهو وأعوانه في أقصى اليمين الإسرائيلي بصورة خاصة. فإن حزب الليكود وريث أقصى اليمين الصهيوني، المعروف باسم “الصهيونية التصحيحيّة”، والذي ارتكبت فروعه المسلحة مذبحة دير ياسين، أشهر عملية قتل جماعي للفلسطينيين في نكبة عام 1948. فعلى 78 في المئة من أراضي فلسطين الانتداب البريطاني التي تمكنت القوات المسلحة الصهيونية من احتلالها خلال حرب تلك السنة (كان الصهاينة قد حصلوا على 55 في الفيلم وفقاً لخطة التقسيم التي اعتمدتها منظمة الأمم المتحدة الناشئة آنذاك، والتي كانت بلدان شمال العالم تسيطر عليها آنذاك)، نزح 80 في المئة من الفلسطينيين. لاذوا بالفرار من الحرب، مرعوبين من الفظائع على غرار حادثة دير ياسين، ولم يُسمح لهم أبداً بالعودة إلى منازلهم وأراضيهم. ومع ذلك، لم يغفر اليمين الصهيوني أبداً للتيار الصهيوني السائد آنذاك، الذي كان زعيمه ديفيد بن غوريون، قبوله بوقف الحرب قبل الحصول على 100 في المئة من فلسطين بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن.

خلال خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، قبل 7 تشرين بأسبوعين فقط، رفع نتانياهو خريطة للشرق الأوسط تُظهر “إسرائيل الكبرى” متضمنة غزة والضفة الغربية. وما هو أكثر صلة بحرب غزة الجديدة هو أمر قليلاً ما تم ذكره في وسائل الإعلام العالمية، وهو أن نت نياهو استقال من مجلس الوزراء الإسرائيلي برئاسة شارون في عام 2005 احتجاجاً على قرار الأخير بالانسحاب من غزة. (كان شارون قد خلف نتانياهو على رأس الليكود في عام 1999 بعد هزيمة هذا الأخير الانتخابية أمام حزب العمل الذي كان يرأسه إيهود باراك. وقد تمكن شارون من الانتصار في الانتخابات التالية عام 2003، وسلّم وزارة المالية لنتانياهو).

كان شارون رجلاً عسكرياً أكثر منه سياساً، فكانت أذنه صاغية لمطالبة الجيش بسحب قواته من غزة المضطربة، مفضلاً السيطرة على القطاع من الخارج. ولم يرَ شارون أي احتمال لضم غزة مماثل لما يجري في الضفة الغربية منذ احتلالها في عام 1967. لذلك قرر أنه سيكون من الأفضل السماح للسلطة الفلسطينية، التي تم إنشاؤها بموجب اتفاقيات أوسلو في عام 1993، بالعناية بغزة، بينما يتم التركيز على الضفة الغربية – وهي هدف صهيوني يحظى بتقدير وإجماع أكبر بكثير.

 نصّت اتفاقية أوسلو على انسحاب القوات الإسرائيلية من مناطق الضفة الغربية المأهولة بكثافة سكانية فلسطينية، مع احتفاظ إسرائيل بالسيطرة على معظم أراضي الضفة. وكي يُظهر شارون ازدراءه للسلطة الفلسطينية، اعتمد “خطة فك الارتباط الأحادية” في عام 2005 منسحباً من غزة من دون التحضير للأمر مع السلطة الفلسطينية. وما حدث بعد سنتين هو استيلاء “حماس” على السلطة في القطاع. 

احتجّ نت نياهو على “فك الارتباط” الذي نفّذه شارون، وقاد المعارضة ضده في حزب الليكود جامعاً ما يكفي من الزخم لدفعه إلى الانسحاب من الحزب وتأسيس حزب جديد في العام ذاته، 2005. وقد تزعم نتانياهو حزب الليكود منذ ذلك الحين، وناور للعودة إلى رئاسة الوزراء في عام 2009 من خلال اللعب على تشتّت المشهد السياسي الإسرائيلي – وهو فنّ يتقنه بامتياز لشدّة انتهازيته. وقد بقي نتانياهو مترأساً مجلس الوزراء حتى حزيران/ يونيو 2021، ثم عاد إلى هذا المنصب بحلول نهاية عام 2022، على رأس الحكومة الأكثر تطرفاً نحو اليمين في تاريخ إسرائيل – وهي دولة عرفت حكومات متعاقبة عدة منذ فوز ليكود بالانتخابات للمرة الأولى في عام 1977، وُصفت بأنها “الأكثر يميناً في التاريخ”، وذلك في شطح بلا نهاية نحو اليمين. هذا ولم يوافق نتانياهو على “خطة السلام” التي اقترحها دونالد ترامب (وجاريد كوشنر) عام 2020 سوى لأنه أدرك تماماً أنه ليس في وسع الفلسطينيين قبولها. وقد رأى على الأرجح في ذلك الرفض الذي لا مناص منه ذريعة جيدة لضم معظم أراضي الضفة الغربية في وقت لاحق.

كانت غاية إعادة احتلال غزة تحتاج اضطراباً رئيسياً لم يكن يلوح في الأفق، ولم يكن أحد يتوقع أن تخلق “حماس” هذه الفرصة فجأة عبر عملية “طوفان الأقصى”. إنها عملية تعادل حقاً 11 سبتمبر بالنسبة الى إسرائيل، بل كان 7 تشرين الأول في الحقيقة أكثر فتكاً من 11 سبتمبر بعشرين مرة نسبة الى عدد السكان، كما أشار نتانياهو لجو بايدن حين زار الرئيس الأميركي إسرائيل في 18 من الشهر الحالي. وكما خلقت اعتداءات 11 سبتمبر الظروف السياسية التي أتاحت لإدارة جورج بوش تحقيق مشروعها المفضّل بغزو العراق، خلقت عملية 7 تشرين الأول الظروف السياسية الملائمة لاستعادة غزة، وهي غاية لطالما رغب فيها نتانياهو، لكنها كانت متهورة ومستعصية المنال إلى حدّ لم يسمح بمناقشتها علناً حتى هذه اللحظة. إن كانت الغاية ممكنة التحقيق أمراً سيبيّنه المستقبل القريب، لكنها عين ما يطمح إليه أقصى اليمين الصهيوني.

إن الإنذارات المتكررة التي توجّهها السلطات السياسية والعسكرية الإسرائيلية إلى سكان غزة كي يهربوا جنوباً نحو الحدود مع مصر، وسعيها وراء إقناع القاهرة بفتح الباب إلى شبه جزيرة سيناء واستيعاب معظم سكان غزة (2.3 مليون نسمة)، هي دعوة فهمها المصريون بشكل صحيح على أنها دعوة الى أن يتيحوا للغزاويين البقاء في سيناء لمستقبل غير محدد، تماماً مثلما تم تحويل الفلسطينيين المشردين من أراضيهم في عامي 1948 و1967 إلى لاجئين دائمين في البلدان العربية المجاورة. في 18 تشرين الأول، ألقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كلمةً قضت على هذه الفكرة، داعياً إسرائيل بحنكة إلى منح الغزاويين مأوى في صحراء النقب، داخل أراضي عام 1948، إذا كانت حقاً تسعى وراء توفير مأوى مؤقت لهم، ليس إلا.

بيد أن “إسرائيل الكبرى” ليست طموحاً يحظى بإجماع قادة إسرائيل حتى بعد 7 تشرين الأول. إنها فكرة تلقى بعض الدعم في الولايات المتحدة من أقصى اليمين في صفوف الجمهوريين وفي أوساط “الصهاينة المسيحيين”. ولكنها بالتأكيد لا تحظى بدعم القسم الأعظم من أوساط السياسة الخارجية الأمبركية، بخاصة الديمقراطيين. 

سيناريو أوسلو

إدارة بايدن – المعروفة بقلة تعاطفها مع نتانياهو، الذي دعم بشكل علني الجمهوري ميت رومني في السباق الرئاسي ضد باراك أوباما (وقد كان بايدن نائب الرئيس) في عام 2012 – ملتزمة بالأفق الناشئ عن اتفاقيات أوسلو والرامي إلى خلق دويلة فلسطينية توفر حجة لإحجام القضية الفلسطينية وتمهيد الطريق لتطوير الروابط والتعاون بين إسرائيل والدول العربية. 

لهذا السبب، قال بايدن لشبكة CBS في 15 تشرين الأول أنه “يكون خطأ كبيراً” لو احتلت إسرائيل غزة. ولم يقصد الرئيس الأميركي أن اجتياح القطاع بكامله للقضاء على حماس فكرة خاطئة. بل أكد على العكس، وبشكل واضح، أن “الدخول للقضاء على المتطرفين… مقتضى ضروري”. ورداً على السؤال الذي تلى، “هل تعتقد أن حماس يجب تصفيتها بالكامل؟”، قال بايدن: “أجل، أعتقد ذلك. ولكن يجب أن تكون هناك سلطة فلسطينية. يجب أن يكون هناك مسار نحو دولة فلسطينية. هذا المسار معروف باسم “حل الدولتين”، وقد اعتمدته السياسة الأميركية لعقود. سيخلق هذا الحل دولة مستقلة بجوار إسرائيل لـ 5 ملايين فلسطيني يعيشون في غزة وفي الضفة الغربية لنهر الأردن”.

إن الغرض من زيارة بايدن لمدة يوم واحد إلى إسرائيل، لم يكن فقط تعزيز حجته السياسية في انتخابات الرئاسة لعام 2024، بحيث يضمن ألا يستطيع ترامب والجمهوريون اليمينيون والصهاينة المسيحيون الإنجيليون المزايدة عليه في دعمهم العسكري لإسرائيل. (لاحظ أن بايدن، من خلال ذلك، يعارض آراء غالبية المواطنين الأميركيين، وبخاصة غالبية الديمقراطيين الذين يؤيدون مقاربة أكثر توازناً للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني.) كما لم يكن هدف بايدن فقط التفاوض على إجراءات إنسانية رمزية للتظاهر بأن إدارته تقوم بكل ما في وسعها للتخفيف من الكارثة الناشئة. بل كان هدفه أيضاً وربما قبل كل شيء، إقناع صناع السياسة الإسرائيلية – مع نتانياهو أو من دونه – بضرورة الالتزام بأفق أوسلو. وكان ينوي تعزيز هذا التوجّه من خلال لقائه بمحمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، وبملك الأردن، لكنّ تدمير مستشفى الأهلي العربي عشية الزيارة أفسد المشروع.

هذا وأوضح دليل حتى الآن على أن جزءاً من المؤسسة العسكرية السياسية الإسرائيلية يرى الأمور بعين واحدة مع إدارة بايدن، بدا من خلال تصريحات إيهود باراك، قائد الأركان العامة السابق للقوات المسلحة الإسرائيلية ورئيس الوزراء السابق، عندما فصّل سيناريو أوسلو في لقاء مع مجلة الإيكونومست على النحو التالي:

“يرى السيد باراك أن النتيجة المثلى، بعدما يتم تدمير قدرات “حماس” العسكرية بشكل كافٍ، هي إعادة إقامة السلطة الفلسطينية في غزة. … بيد أنه يحذر من أن محمود عباس، الرئيس الفلسطيني، “لا يجوز أن يظهر بمظهر العائد إلى السلطة على ظهر الدبابات الإسرائيلية”. ستكون بالتالي ثمة حاجة إلى فترة انتقالية “تنصاع خلالها إسرائيل لضغط المجتمع الدولي وتسلّم غزة إلى قوة حفظ سلام عربية، تتضمن أطرافاً مثل مصر والمغرب والإمارات العربية المتحدة. ستؤمن هذه القوة المنطقة حتى تتمكن السلطة الفلسطينية من السيطرة عليها”.

توقف مسار أوسلو، بعد مضي زمن قصير على إطلاقه بحفل وزخم كبيرين في عام 1993، وقد أدى توقفه إلى اندلاع الانتفاضة الثانية في عام 2000 وما عقبها من إعادة احتلال إسرائيل المؤقت لأجزاء الضفة الغربية التي كانت قد انسحبت منها لصالح السلطة الفلسطينية. لكن يبدو أن ذلك التوقف لم يثنِ واشنطن وحلفاءها عن النظر إلى مسار أوسلو كالتسوية الوحيدة الممكنة. وهم يعتقدون على الأرجح أن نوعاً من تبادل الأراضي مثل ذلك الذي تم التخطيط له في “خطة السلام” التي اقترحها ترامب وكوشنر، قد يؤدي في نهاية المطاف إلى معجزة التوفيق بين ضم مناطق من الضفة الغربية حيث انتشرت المستوطنات مقابل منح الفلسطينيين “دولة مستقلة” مفككة على 22 في المئة من أرضهم الأصلية غرب نهر الأردن.

في النهاية، يتوقف تحقيق كل من سيناريو “إسرائيل الكبرى” وسيناريو أوسلو على قدرة إسرائيل على تدمير “حماس” بما يكفي لمنعها من السيطرة على غزة. وهذا يقتضي احتلال الجيش الإسرائيلي معظم القطاع، إن لم يكن كامله، وهو هدف لا يمكن تحقيقه من دون تدمير معظم غزة، وذلك بتكلفة بشرية هائلة.

نقلت صحيفة “واشنطن بوست” أخيراً عن بروس هوفمان، خبير في مكافحة الإرهاب وأستاذ في جامعة جورج تاون، إشارته إلى القضاء على النمور التاميلية في الجزء الشمالي من سريلانكا كنوع وحيد من النجاح الذي يمكن تحقيقه في مثل هذه المساعي. فقد تم القضاء على النمور في عام 2009 بعد حملة عسكرية من القوات المسلحة السريلانكية تضمنت قتل ما يصل إلى 40 ألف مدني، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة. “لا سمح الله بأن يحدث هذا النوع من المذبحة اليوم”، قال هوفمان للصحيفة. “ولكن إذا كنتَ مصمماً على تدمير منظمة إرهابية، يمكنك ذلك. لكنه يترافق مع وحشية”.

غير أن أنظار العالم مركزة على ما يحدث في الشرق الأوسط بما لا يمكن مقارنته على الإطلاق بتركيزه على ما حدث في سريلانكا. لذلك، يصبح السؤال ما يمكن أن تحققه القوات المسلحة الإسرائيلية قبل أن يجبرها مزيج من الخسائر في صفوفها والضغط الدولي على التوقف، ناهيك باحتمال اندلاع نزاع إقليمي يشمل “حزب الله” في لبنان بدعم من إيران. لذلك، ليس من المؤكد بتاتاً أن أياً من التصورين سيتحقق. وقد احتاط الجيش الإسرائيلي للأمر بوضع خطة حد أدنى تتمثل في إنشاء حزام أمني جديد ممتد داخل غزة على طول حدودها، بما يزيد من ظروف القطاع بوصفه “سجناً في الهواء الطلق”.

أما الأمر الوحيد المؤكد فهو أن هجوم إسرائيل الجديد على غزة أكثر دموية وتدميراً من جميع الحلقات السابقة في التاريخ المأساوي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الذي دام 75 عاماً حتى يومنا. من المؤكد أيضاً أن الوضع سيزداد سوءاً بشكل مضاعف، بما سيفاقم عدم الاستقرار في أكثر مناطق العالم انعداماً للاستقرار، والتي تلعب دوراً كبيراً في زعزعة استقرار الشمال العالمي نفسه – بموجات اللاجئين وانتقال العنف. مرة أخرى، سيؤدي قصر النظر والكيل بمكيالين لدى الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين إلى انفجار الأمور في وجههم، لكن هذه المرة بعواقب أكثر مأساوية.

نُشر المقال بالإنكليزية بتاريخ 23/10 في مجلة New Lines.