fbpx

أصوات من غزة… نجونا من الموت محض صدفة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الدمار والموت الذي زرعته إسرائيل في غزة بمليون ونصف المليون لاجئ، ومع انتشار الأمراض في الشوارع، ومع الجوع والعطش والمرضى بلا دواء، يتركنا أمام أزمة إنسانية في غزة، أزمة تكشف مدى ظلامية “الإبادة الجماعية” التي تنفذها  إسرائيل،  التي تدمر غزة لأن لا طريق آخر، وهي مهمة مستمرّة منذ نحو ثماني عقود.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الأحد 12/11

فجر  الأحد، اليوم السابع والثلاثين للحرب، أنجبت إكرام زوجة محمد ابن أخي،  طفلتهما الأولى، في المستشفى الاماراتي للولادة في تل السلطان غرب رفح. أطلقوا عليها اسم عائشة.

 حدثني محمد عن أكثر من عشر ولادات حصلت فجراً خلال الساعات التي انتظر فيها ولادة زوجته.

 كان بجانبه حينها، رجل مُرتبك، أخبره أنه قلق من أن تضطر زوجته لولادة قيصريّة، لأن رأسه كبير،  ويخشى أن يكون رأس الجنين كبير مثله. أتاه الخبر لاحقاً، زوجته أنجبت بدون عملية قيصيرية ولم تستغرق وقتاً طويلاً.

شاب آخر كان ينتظر أن تلد  زوجته مولودهما الأول بعد محاولات استمرت ست سنوات، واليوم حين قالت له خالته مبروك “أجاك ولد”، جلس يبكي من الفرح غير مصدق.

السبت 11/11

نزحنا للمرة الثانية مجبرين من البيت الذي لجئنا أو نزحنا إليه من مدينة غزة. أقمنا فيه 26 يوماً بعد قصف الطائرات الإسرائيليّة للبيت المجاور لنا. بعد خروجنا من البيت انا وابني يوسف ذهبنا لبيت أخي الأصغر في حي الجنينة، أما كوثر وشام فذهبتا لمنزل شقيقهما شمال مخيم رفح. رافقتهما والدة كوثر وعائلة شقيقها صابر، في حين توجهت بثينة ومحمد ودعاء وعادل ولميس نحو التل السلطان إلى بيت ابنة كوثر.

البيت المستهدف هو بيت أبو حسام الغوطي ويبعد عنا مترين (الباب على الباب)، قتلت إثر القصف أم حسام وأربعة من أحفادها الاطفال وابنتها ميرفت وزوجها هيثم ابو شرخ (ابو فادي) الذي لجأ إلى بيت صهره ابو حسام.

 نجونا من الموت بأعجوبة، إذ امتلأ البيت بالحطام، وسقط الدرج وراكم الحطام على الطابق الأول، وأدخلَ الدُخان ذو الرائحة الخانقة البيت في ظلام دامس. وبعد أن أفقنا من الصدمة  وسط  الظلام ، لا أعرف كيف وقفتُ في وسط صالون البيت، أتفقد الأطفال والحجة سارة وبثينة والنساء (كوثر ودعاء وريم وشام)، اللواتي كن في الطابق العلوي يحضرّن طعام الغداء، استغرق الاطمئنان عليهن 10 دقائق للتأكد من سلامة الجميع.

سقطت القذيفة بعد أن أنهيت محادثتي الهاتفية مع ابنتي سيرين بدقيقتين، كان يقف بجانبي عادل (عامان) وكانت الحاجة سارة تجلس قريبة مني. كنت أشارك في التحضير  للغداء. فجأة سمعت صوت انفجار وكأنه وسطنا، استطعت أن أضع عادل لدى الحجة وكان في الغرفة الشباب ولميس (3) أعوام، ومباشرة ذهب ابني يوسف للغرفة الاخرى وصرخ على شباب الخارج وتمكنا من خلع الحماية الحديدية المركبة على الشباك. 

أخرجنا عادل ولميس، ومن ثم الحاجة سارة، وبعد الاطمئنان على الجميع خرجنا بعد أن أزاح شباب الحارة والدفاع المدني الحطام الذي أغلق باب البيت، وملئ نصف الصالون إضافة الى الحطام الذي تساقط علينا من الطابق الثاني.

في الخارج، تحول بيت جيراننا المستهدف (المكون من 3 طبقات الطبقة الاخيرة من التوتياء) إلى كومة من الحطام بين البيوت المجاورة المدمرة.

كانت فرق الدفاع المدني والإسعاف يخرجون  ام حسام وعدد من الاطفال من تحت الحطام، وكذلك عدد من الأطفال الذين كانوا في الشارع، هم أطفال العائلات النازحة من جباليا الذين يقيمون لدى أقاربهم.

هؤلاء القتلى، خاصة الأطفال، كنت التقيهم يومياً في الشارع، وشكّلوا  جزء من حياتي لمدة 26 يوماً. أشاهدهم في دكان البقالة المجاور، وفي الشارع الضيق الذي يفصل بيتهم عن بيتنا. أعرف أسمائهم وأبناء من هم، والآن، ماتوا.

ظهر  الخميس من الأسبوع الماضي استهدفت الطائرات الحربية الإسرائيلية بناء سكنياً غرب رفح، وتم تدميره بالكامل، وقتل عدد من الفلسطينيين، وبعد ساعة سمعنا صوت مكبرات الصوت من المسجد القريب ينادي لصلاة الجنازة على أحمد مازن، وفجأة سمعنا صوت صراخ في بيت ابو حسام الغوطي،  وتبين مصدر الصراخ من زوجة محمد ابن ابو حسام، وتبين أن القتيل الذي نادى المنادي في المسجد للصلاة عليه هو شقيقها. 

10/11 الجمعة

صباح الجمعة الباكر،اليوم  السادس والثلاثين للحرب الهمجية، التقيت هيثم ابو شرخ 45 عاماً، (ابو فادي). تعرفت عليه أثناء النزوح وكنا نلقي التحية من دون أن نتحدث. نزح  أبو فادي من شرق رفح إلى مخيم الشابورة وسط رفح، بعد أن قُتلت زوجته ومعها أطفاله في الحرب الإسرائيلية على غزة في العام 2014. ما زال يتذكر الدبابة وصوتها عندما داهمت منزله وقتلت زوجته وأطفاله وأصيب هو إصابة بالغة، وتعافى بعد أشهر من العلاج.

صباح الجمعة تحدثنا انا وابو فادي حول الحرب والقتل والدمار وحال الناس النازحين وغير النازحين البائس/ كان يقف معه اثنان من أطفاله، لم تتجاوز أعمارهما الأربعة أعوام، حور وعبد الرحمن (عبود).  كان يمسك بهما ويمنعهما من التحرك. قال لي: “هم أسرى برفقتي لفض الاشتباك، بسبب وجود عدد من الأطفال في البيت، وإذا بقيوا في البيت، ستنشب معارك مع أبناء أخوالهم بينما والدتهما تقوم بالتنظيف”.

يُعتبر ابو فادي جزء من الحارة، إذ يساعد الجميع في حل المشكلات التي تواجههم، فقبل أيام تعطّل قفل باب البيت، وقام بإصلاحه، وقبل ساعة من مقتله أحضر قفلاً جديداً وقام بتركيبه عوضاً القديم.

في اليوم التالي ذهبت إلى الحارة لتعزية جيراننا، وتمَني السلامة لمن تضررت بيوتهم والشفاء للمصابين. الحزن والغضب يسيطران على الناس ووجوههم صارمة، والجميع يحاول ترميم بعض النوافذ، بينما الدفاع المدني يحاول فتح الشارع الذي أغلقه الدمار. 

أي بطولة وشجاعة تلك التي تفتخر إسرائيل بها وبحجة “الحرب على الإرهاب”، والادعاء بأن “حماس” تتخذ من الناس دروعاً بشرية، وكأن شوارع مخيم الشابورة والمخيمات جنوب قطاع غزة ساحات حرب شوارع بين حماس والجنود الإسرائيليّن؟.

الجنود الإسرائيليين يقاتلوا عن بعد من السماء، يرافق حربهم علينا الكذب والتضليل ونشر وسائل الاعلام الاسرائيلية لبطولات مزعومة للجيش الاسرائيلي. تتجلى هذه “البطولة” و”الدعاية الرخيصة” بنشر وسائل الاعلام الاسرائيلية للمكالمة التي أجريت عبر اللاسلكي بين أحد طياري الاحتياط (57 عاماً) أثناء تحليقه فوق غزة بعد تنفيذه  مهمة تدمير البيوت وقتل الأطفال، وبين ابنه الجندي في  سلاح المدرعات الذي يشارك في قتل المدنيين.

أي مزاعم كاذبة حول قصف مواقع (الإرهابيين) والاحتفاء بالطيارين الإسرائيليين “الاكثر اخلاقية” في العالم حسب ادعاء المسؤولين الاسرائيليين!. أي أخلاق وإنسانية  يحملها هؤلاء الطيارون الذي يقصفون بصواريخ فتاكة مساكن الناس التي لا تحتاج كل هذه المتفجرات!، لأنها آيلة للسقوط بفعل التقادم والبناء العشوائي.

ربما هو الحظ أن الهجوم على بيت أبو حسام وقع في الظهيرة، وأثناء تحضير ما تبقى من طعام لوجبة الغداء، التي المفترض أن تشبع بطون الأطفال الذين عادوا للمنزل بعد اللعب في الشارع، وذلك لضيق المنازل وازدحامها بالسكان. 

 هؤلاء الأطفال، الذين أعرف أسماء كثير منهم (حبيبة وشيرين ويوسف وعبود ومحمد وجنى ولانا وحور وامال وايمان واسماعيل)، الذين يستيقظون في الصباح الباكر للعب في الشارع، هؤلاء هم الأهداف العسكرية. هؤلاء هم الذي لا يخجل الصحافيون والمحللون الإسرائيليين من القول بأنهم “سيكبرون وسيحاربون إسرائيل بعد عشرين عاماً” كما يجري الآن، فمن يقاتلوننا هم الذين ولدوا قبل عشرين عاماً في انتفاضة الأقصى”.

لم يتوقف التحريض على القتل والكذب حول ما يسمى الممرات الإنسانية لمساعدة المحاصرين في مدينة غزة وشمال القطاع، فأوضاعهم الإنسانية قاسية، ويتعرضون للقتل والتجويع. هذه ممرات لإهانة الفلسطينيين وتعذيبهم وتضليل العالم، والهدف الأساسي لها، هو ترحيل الفلسطينيين للجنوب.

ما زالت يافا وزوجها وعائلته مقيمين في مدينة غزة، لم نخبرها أننا نزحنا بعد قصف المنزل المجاور، واننا  في بيت أعمامها وخالها بعد مغادرتنا  بيت خالتها الذي كنا مقيمين فيه. أتواصل معها عبر الرسائل النصية، لم استطع سماع صوتها وصوت شادن وزين، وقلقي عليهم يتصاعد حد الرعب، بينما هي تسألني: “وقتيش بدها تخلص الحرب ؟”. 

أوضاعهم صعبة، المياه والمواد الأساسية شحيحة وبدون انترنت.

الدمار والموت الذي زرعته إسرائيل في غزة بمليون ونصف المليون لاجئ، ومع انتشار الأمراض في الشوارع، ومع الجوع والعطش والمرضى بلا دواء، يتركنا أمام أزمة إنسانية في غزة، أزمة تكشف مدى ظلامية “الإبادة الجماعية” التي تنفذها  إسرائيل،  التي تدمر غزة لأن لا طريق آخر، وهي مهمة مستمرّة منذ نحو ثماني عقود.