fbpx

كيف يموت طفلٌ ولا تتوقّف الأرض عن الدوران؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كيف لا تتوقف الأرض عن الدوران أو تحدث معجزة ما؟ كيف يموت طفل تحت الردم من دون أن تنشق الأرض حزناً أو تنكسر الشمس ألماً؟ كيف يموت الأطفال بهذه السهولة؟.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لدي أشياء كثيرة أخاف منها، في كلّ مرة تبدأ حرب جديدة في هذه البقعة من العالم، أشعر أني سأموت مرة ثانية وثالثة، حتى الناجون من الحروب ليسوا بناجين بالكامل، تموت فينا أشياء كثيرة، أردت يوماً أن أكتب الشعر وأحب رجلاً طيباً وأعيش في بلدٍ آمن، وأتأمل العجائز وهم يبتسمون.

لكن وجدتني فجأة وسط الموت، تحت القذائف، اختبئ من الديكتاتور، وأكتب شعراً عن الحرب الشريرة لا الرجل الطيب. مثل الملايين اليوم، كانت لنا جميعنا أحلامٌ بسيطة لكن مستحيلة، هكذا نختصر حياتنا في هذه المنطقة.

لو أن الحياة أقل قسوة على الضعفاء والأطفال وعلينا نحن الأكثر هشاشة، مَن تحطّمهم قسوة محاولة النجاة. تهزني الحرب على غزة كما لم يحصل من قبل. ككل من حولي، تذكرني الأهوال التي يعيشها الفلسطينيون بما عشناه في سوريا، فأفهم مشاعر الخيبة هناك، العجز والخوف. 

أن يتخلّى العالم عنا وعنهم، أن يشاهد الموت ببثّ مباشر، رغم ذلك لا يحدث شيء، ربما هذه الفكرة الأكثر رعباً بالنسبة إلي، ألا يدفع موت طفل بل آلاف الأطفال في بث مباشر العالم إلى التحرك؟ كيف لا تتوقف الأرض عن الدوران أو تحدث معجزة ما؟ كيف يموت طفل تحت الردم من دون أن تنشق الأرض حزناً أو تنكسر الشمس ألماً؟ كيف يموت الأطفال بهذه السهولة؟.

 كنت بعد كل مجزرة في سوريا أشعر بأن هذه هي النهاية وسيحصل شيء يغير كل ما يحدث، لا يمكن مجازر وحشية أن تمر من دون أن يتغير شيء، لكنها مرت ومضت، نُسينا وأصبحت مأساتنا اعتيادية.

يشبّهون موتنا بالتمثيل، يشبهون صراخنا، خوفنا، ذعرنا ورجاءنا بالتمثيل، ألم يتساءلوا لماذا يبدو هذا التمثيل شديد الواقعية، وكيف نجح رضيع في تقمّص دور الجثة والجريح والخائف؟

شعرت بأني أقل تفاؤلاً بشأن غزة، أعلم أن الناس يتعبون في النهاية، وهذه ليست نقيصة أو تهمة، وكما صارت سوريا ببساطة بلد المجازر والقتل والاعتقال وكأن الأمر جزء من طبيعة البلد، هكذا ربما يحصل مع غزة، وهو ما حصل أيضاً مع اليمن والسودان كذلك، إننى نُنسى لكثرة الحروب.

تحمل الحرب على غزة جرعة مركزة من اللإنسانية، إذ يحاصرنا سؤال: كيف لا يتعاطف أحدهم مع ما يحصل؟ بل الأسوأ، كيف يجد الشامتون مبرراً لقتل طفل؟

قرأتُ عشرات التعليقات الشامتة على الفيديوهات والصور القادمة من غزة، كان كل تعليق بمثابة طعنة، تكذيب ألمهم، تشويه الحقيقة، إيجاد مبررات للقتل العشوائي والوحشي، مرعب قراءة تعليق لا إنساني لشخص بينما يشاهد فيلماً أو يجلس في مقهى ربما، شخص قرر أن الآخر كاذب وأنه يستحق ما يحصل له ولا بأس بموته، من منحنا حق تقرير مصير الآخرين؟.

 ما يدهش في هذا العالم أنه لم يتوقف عن الانحدار والانحطاط، الهاوية التي نتخيلها غير موجودة، إنها مجرد المزيد والمزيد من الرغبة في التشفّي وقتل الأطفال والجلوس راضين لأننا صدقنا أن موت شخص على الجهة الأخرى من الأرض أمر يحدث لأسباب منطقية، ما يخلّصنا من شعور العطف أو الذنب.

يشبّهون موتنا بالتمثيل، يشبهون صراخنا، خوفنا، ذعرنا ورجاءنا بالتمثيل، ألم يتساءلوا لماذا يبدو هذا التمثيل شديد الواقعية، وكيف نجح رضيع في تقمّص دور الجثة والجريح والخائف؟

هذا ليس مقالاً سياسياً، أستطيع كتابة عشرات المقالات حول كيف وصلنا إلى هذه الحال من وجهة نظر السياسة، لكني أتخمت من السياسة، من تحليل كيف يُقتل الناس وكيف يُهجّرون وكيف تصبح الشماتة سمة البشر، وكيف تتحوّل الوحشية إلى رد فعل طبيعي ومقبول، وكيف يمكن اختصار كل ما يحدث بـ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بمسح عقود من الاحتلال والظلم والقهر.

سؤالي ليس لماذا يُقتل الأطفال؟ بل كيف بتنا نعيش على الكوكب ذاته مع أناس لا يشفقون ولا يرفضون قتل الأطفال والأبرياء؟ يرعبني أكثر الحد الذي سيصل إليه بعض البشر، لا أتحدث هنا عن الجيوش حين تقتل وتقصف بل عن البشر الذي يقتلون الأبرياء عشرات المرات من خلف الشاشات، لقد مُنح البشر أسوأ سلاح على الإطلاق، السوشال ميديا، هنا حيث تُرتكب مجازر وتُنتهك الحريات ويُدفن الأطفال وسط مقابر جماعية مصنوعة من العنصرية والكراهية والتفوق الأبيض.

اعتدتُ في عام 2018 أن أقف أمام نافذة منزلنا في القرية بمدينة السويداء، لم تكن هناك كهرباء في غالبية الأوقات، وكان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يملأ البادية المجاورة، كان شباب القرية يقومون بدوريات ليلية لمراقبة أي تسلسل أو تحركات غير طبيعية.

 كنت أقف أمام النافذة أو على الشرفة وأنظر إلى الأرض الخالية أمام منزلنا، كانت العتمة تبتلع كل ضوء صغير، عتمة لا أتذكر أني رأيت مثيلاً لها، ربما لأنها ظلمة كانت تحمل داخلها الموت والذعر والخوف، حاولت في حينها رؤية القتلة وهم قادمون، وكنت أخاف مثلما لم أخف يوماً، انتظار الموت هو أكثر رعباً من أي شيء اختبرته سابقاً.

 لم تخفني فكرة الموت، إنما كيف يريد الآخرون قتلنا، كيف يروننا حيوانات تُجزّ أعناقها من دون اكتراث، وكأن القتل هو ما يجب أن يحصل لنا، أمرٌ مشابه لما يحصل لغزة ولما يحصل في بقعة من هذا العالم قرر القوي فيها أن يقتل ويمارس مجازره فقط لأنه يعتقد أن له الحق في ذلك.

تختلط المشاعر والذكريات داخلي، العجز أمام غزة يذكرني بالعجز داخل سوريا، يحق لي تذكر حرب بحرب؟ أم أن هذا أيضاً يعني سقوط التعاطف، تقصيراً مني؟ كيف يجب أن يكون شكل تضامني؟ أسئلة كثيرة تجوب في رأسي بينما أشاهد القصف في سوريا وفي فلسطين.

استمرار الموت يوماً بعد آخر لا يدل على شيء سوى على أن هذا العالم تحكمه مجموعة من الأوغاد، نمر بواحد من أسوأ الأزمان، إذ تختلط الوحشية مع الإنسانية، فنحن نمارس التعاطف من جهة وننسف الإنسانية من جهة أخرى، نريد من الجميع أن يتعاطف بالطريقة ذاتها وبقالب جاهز، شيء شبيه بما يحصل في الغرب مع الجملة الشهيرة: “هل تدين حماس؟”.

هل نستطيع القول إننا قادمون من بلاد قُتل فيها الناس بطريقة مشابهة تماماً لطريقة قتل إسرائيل الفلسطينيين؟ أيضاً لا، لأننا نخرّب “ستاندرد” الألم الجاهز والتعاطف الذي يجب أن يصبّ في مكان واحد، مع أن الحروب تنهش الإنسان في المنطقة، والإنسان العربي يغصّ بدمائه، اليمن، السودان، فلسطين، لبنان، سوريا، العراق، إننا نموت حرفياً، لم تتوقف مطحنة القتل يوماً، وخوف الأطفال وموتهم هما ذاتهما في كل هذه البلاد، الفرق فقط هو الاختلاف في أسماء القتلة.

أردت يوماً أن أكتب الشعر وأحب رجلاً طيباً وأعيش في بلد آمن، اليوم أنظر إلى ذلك كله بتوجّس، تنكسر الأحلام البسيطة يوماً بعد آخر، تكسرها قسوة القاتل، وتصبح فارغة أمام الموت الكبير، أمام عالم بات مرعباً، هذه ليست الحياة، قطعاً ليست حياةً، ولا حتى جحيماً، أفي الجحيم أناس يتشفّون بموت بعضهم؟ ربما هناك مكان ثالث وهو حيث نعيش.