fbpx

قبور القاهرة : حكايات من التاريخ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يدور في القاهرة اليوم الحديث عن القبور وأصحابها، وتخمينات حول من هو باقٍ مكانه ومن يهدد النقل رقوده، لكن من قرأ تاريخ المدينة سيعرف أن لما يجري سوابق موثقة، أقدمها عمره ستة قرون ويرتبط بأحد أشهر معالم المدينة اليوم: خان الخليلي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يخبرنا شيخ مؤرخي مصر، تقي الدين المقريزي  (توفى 1442 م)، في كتابه المعروف بـ “الخطط المقريزية “، أن القصة  بدأت مع ميلاد المدينة، عندما باشر الفاطميون بناء عاصمتهم الجديدة (القاهرة) في النصف الثاني من القرن العاشر ، حينها خصص الخلفاء أرضاً لتكون مقابر لهم بجوار القصر الذي شيدوه ليكون مقراً للحكم. 

يكتب المقريزي:” وفيها دفَن المعزُ لدين الله [الفاطمي، أول من حكم منهم في مصر]  آبائه الذين احضرهم في توابيت معه من بلاد المغرب … واستقرت [في أرض] يُدفن فيه الخلفاء وأولادهم ونسائهم، وكانت تُعرَف بتربة الزعفران”.  ولأن الفاطميين (نسبة للسيدة فاطمة الزهراء ابنة الرسول محمد التي انتسبوا لها، هي وزوجها الامام علي) كانوا من الشيعة الإسماعيلية المؤمنين بالإمامة المعصومة المُتوَارثة المُتِصلة، نالت ترُبة الزعفران أهميةً خاصة. 

يخبرنا المقريزي: “وكان لهذه التربة عوايد ورسوم منها أن الخليفة كلما ركب بمظلة (أي في موكب) وعاد إلى القصر لا بد أن يدخل إلى زيارة آبائه … وكذلك لابد أن يدخل في يوم الجمعة دائماً وفي عيدي الفطر والأضحى مع صدقاتٍ تُفرق.”  أنفق الفاطميون على تربة الزعفران بسخاءٍ  شديد إذ عُرفت قيمة ما فيها حين دفعت الشِدة المُستنصرية الشهيرة أتراكاً كان الخليفة المستنصر  (حكم 1036- 1095 م، والذي تُنسب إليه “الشِدة”) مديناً لهم بـ”نفقة” ماطل في دفعها، فنهبوا نفائس تربة أجداده “فأخذوا ما فيها من قناديل الذهب وكانت قيمة ذلك مع ما اجتمع من الآلات الموجودة هناك … خمسين ألف دينار”  (كان الدينار الفاطمي الذهبي يحوي تقريباً أربعة جراماتٍ وربع من الذهب الخالص).       

الفاطميون تنازلوا عن كل شيء إلا المقابر  

المعروف أنه  في العام 1171م  أجهز صلاح الدين الأيوبي على دولة الفاطميين، التي عانت اضمحلالاً واحتضاراً طويلين. وبرغم عداء صلاح الدين المعروف للشيعة عموماً والإسماعيلية خصوصاً، ومع أن معالم القاهرة لاشك قد تغيرت تحت حكمه هو ومن خلفه من أسرته الأيوبية التي دامت دولتها حوالي ثمانين عاماً، إلا أن مدافن الفاطميين لم يمسسها أحد.

أعتى سلاطين دولة المماليك (التي تلت حكم الأيوبيين) وأشدهم بأساً و المؤسس الحقيقي لدولتهم ،  الظاهر بيبرس (حكم 1260 م – 1277 م) لم يقترب منها، فمقابل تعويض مالي كما نفهم مما كتبه المقريزي، أجبر  بيبرس ورثة الخلفاء الفاطميين (نسلهم أو من بقي منهم في عهده، بعد قرنٍ تقريباً من زوال دولتهم) على التخلي عن  كل ممتلكاتهم في القاهرة “لتكون كلها “ملكٌ لبيت المال بالنظر المولوي السلطاني … من وجه صحيحٍ شرعي لا رجعة فيه” مع ترك استثناء أساس: “خلا ما في ذلك من مسجدٍ لله تعالى أو مدفنٍ لآبائهم.”

بعد الظاهر بيبرس بأكثر قليلاً من قرن، وتحديداً في عهد السلطان الظاهر برقوق  (في فترة حكمه الأولى 1382-1389م) تبدلت الأحوال.  جَهاركَس الخليلي كان أحد أهم رجالات برقوق، شغل منصب “أمير آخور”، أي المسئول عن اسطبلات السلطان، (ومن ثم المسؤول فعلياً عن عِماد الجيش المملوكي).  

وضع الخليلي تربة الزعفران نُصبَ عينيه، و وجد من أزال عَقبة حرمة القبور (تلك التي وقَرها السلطان بيبرس)، إذ استفتى الخليلي قاضياً حنفياً يدعى شمس الدين أحمد بن محمد القليجي، الذي لم يتوقف عند إباحة نقل رفات “ساكني” تربة الزعفران  والسماح بالبناء فيها ، بل إنه افتى للخليلي بما لم يفتٍ به أحدٌ لا قبله ولا بعده، فتبعاً لرأي القليجي “هذه عظام الفاطميين وكانوا كفاراً رفضة”، ولا يستحقون برأيه حتى كرامة الدفن.

عظام الأموات على الحمير

يروى المقريزي، أن الخليلي  أخرج من تربة الزعفران   “عظام الأموات في المزابل على الحمير وألقاها بكيمان البرقية هواناً بها”، وكيمان البرقية هي التلال الواقعة في منطقة الدَرّاسة على أطراف المدينة (القديمة)، حيث حديقة الأزهر اليوم التي أنشأها الآغا خان (زعيم النِزارية، واحدة من فرق الإسماعيلية، يدعي أنه ينحدر من نسل الخلفاء الفاطميين الذي ألقى الخليلي عظامهم في هذه التلال تحديداً) ، أما مكان تربة الزعفران بنى الخليلي الخان (أي الفندق أو النُزل) الذي عرف به المكان اليوم.

لا تنتهي القصة هنا بالنسبة للمقريزي، ففي كتابه “الخطط”، وبعد أن أخبرنا بما فعله الخليلي بتربة الزعفران، يخبرنا بما اعتبره عِقابه المُستحَق: “اتفق للخليلي في موته أمر فيه عبرةٌ لأولي الألباب”،  فعند خروج أحد كبار الأمراء المماليك على السلطان الظاهر برقوق في الشام أرسل لهم الخليلي وأمراء آخرين لوأد التمرد “فانكسر عسكر السلطان … وقُتل الخليلي وترك على الأرض عارياً وسوئته مكشوفة وقد انتفخ وكان طويلاً عريضاً إلى أن تمزق وبلي عقوبةً من الله تعالى بما هتك من رمم الأئمة وأبنائهم”.

وفي كتابٍ آخر للمقريزي “السلوك لمعرفة دول الملوك” يذكر نفس القصة بتفصيلٍ آخر، فبعد مقتل الخليلي “تُركت رمته بالعراء عارية مدة، إلى أن كفنته أمرأة ودفنته.” 

لكن المقريزي مع غضبه مما فعل الخليلي واعتباره نهايته البشعة مُستحقة، يُعدد فضائله في أكثر من موضعٍ في كتابيه “الخطط” و”السلوك”،  فيصفه بأنه كان “مُهاباً، عارفاً، خبيراً بالأمور، حسن السياسية عاقلاً، خيراً”. ويذكر المقريزي  أنه في  شوال عام 787 هجرية (1385 م)  “حمل … الخليلي قمحاً كثيراً إلى مكة والمدينة، ليعمل منه في كل يوم خمسمائة رغيف، وبالمدينة [مثلهم]… تُفرَق في السّؤال ونحوهم من الفقراء … فعم النفعُ بها ولم يبق بالحرمين من يسأل عن جوع”.

 وكتب المقريزي أيضاً  “ولقد كان عفا الله عنه عارفاً خبيراً بأمر دنياه كثير الصدقة ووقف هذا الخان [أي خان الخليلي] وغيره على عمل خُبزٍ يُفرق بمكة على كل فقيرٍ منه في اليوم رغيفان فعمل ذلك مدة سنين ثم لما عظمت الأسعار بمصر وتغيرت نقودها (قلت قيمتها؟) صار يحمل إلى مكة مال ويُفرق بها على الفقراء”.

الملفت أنه بينما يشدد المقريزي على بشاعة ما فعله الخليلي إلى حدِ أن أفعاله الخيرة الكثيرة لم تحمه من نهايِته المُهينة، ليس من لومٍ يذكر للفقيه القليجي الذي حلل للخليلي ما فعل. 

نشأة خان الخليلي

قصةَ تربة الزعفران و الخان الذي بني عليها لا تتوقف هنا. بعد أكثر من قرنٍ من بنائه، يخبرنا مؤرخٌ آخر،  ابن إياس الحنفي (ت 930 هجرية/ 1524 ميلادية) الذي كان شاهد عيان أرخ بالتفصيل لسنوات دولة المماليك  الأخيرة ولسقوط مصر في يد العثمانيين في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور” ، أنه في ربيع الآخر سنة 917 هجرية (1511 م) “أمر السلطان [الغوري] بهدم خان الخليلي وقد ملكه بطريقٍ شرعي، فلما هدمه أنشأه إنشاءً جديداً وجعل به الحواصل والدكاكين، وزاد في تزخرفه جداً ” (لاحظ تأكيد ابن إياس شرعية هذا التملك دون غيره). 

يكرر ابن إياس رواياتٍ عن تفقد الغوري الدائم لمنشآته العديدة التي واصل  بنائها، بالرغم من عجزه المتكرر عن توفير نفقات المماليك، بُخلاً أو عجزاً، مما سبب اضطرابات ومشاكل متكررة عانى منها سكان القاهرة عموماً وأسواقها وتجارها خصوصاً. فبعد شهرين فقط من الشروع في بناء خان الخليلي دخل السلطان “من باب النصر وأتى إلى خان الخليلي وكشف عن العمارة التي أنشأها هناك”، و في شوال من العام نفسه (917 هجرية، بعد ستة أشهر فقط من الشروع في البناء) “نزل السلطان وتوجه إلى خان الخليلي وكشف على عمارته التي أنشأها هناك”.  

نفهم من وصف ابن إياس لما شهدته القاهرة من أحداث عام 922 هجرية (1516ميلادية)  أن خان الخليلي كان قد أصبح أحد أهم أسواق المدينة، إن لم يكن أهمها، لكن العام لم يكن واعداً بالخير لا للسلطان الغوري، ولا لسلطنة المماليك. 

لو مددنا منطق المقريزي على استقامته، نستنتجن أن اللعنة التي جلبتها ما شهدته تربة الزعفران وما عرفته عظام قاطنيها من هوان لم تتوقف عند جهاركَس الخليلي. أبو الفتوح، كما لُقب الظاهر بيبرس لفرط إنجازاته العسكرية، التي لازمتها قدرة إدارية فذة، لم يمسس قبور الفاطميين، ثم بعده بأكثر من قرن، وبعد فتوى من فقيهٍ شبه مجهول،  كان ما كان ، وصولاً لعهد الغوري الذي أدار دولةً، كما يفيضُ ابن إياس في الوصف، مترهلة فاسدة  تواجه أزمات اقتصادية تباع فيها المناصب وتُشترى وصولاً للقضاء، و حينما استهل ابن إياس وصف عام الغوري الأخير في السلطة والحياة   (922 هجرية الموافق 1516 ميلادية) ، وبعد أن عدد أسماء أصحاب المناصب العسكرية في السلطنة، كتب: “وقد كثر العسكر وقل الرزق”. 

كتب ابن إياس، قبل أن يحدثنا عن دخول عام الغوري الأخير، عن أحداث شهر رجب من العام السابق  (921 هجرية الموافق 1515 ميلادية)، نقرأ :”ثم أن السلطان أشهر المناداة في القاهرة: بأن لا سوقي ولا تاجر يبهدل مماليك السلطان ولا يمسك لأحد منهم لجام فرسه ومن فعل ذلك قُطعت يده … وكانت هذه المناداة من أكبر أسباب الفساد في حق الناس، وصارت المماليك من بعد ذلك يدخلون إلى الأسواق ويخطفون القماش من على الدكاكين ولا يقدر أحدٌ [أن]  يمنعهم من ذلك، وصار الناس معهم من بعد ذلك في غاية الضنك والقهر.”

كيف كانت نهاية الغوري ؟ يوم الأحد الخامس والعشرين من رجب 922 هجرية ، الثامن من أغسطس/ آب 1516 ميلادية، بعد ساعاتٍ من معركة حامية مع سلطان العثمانيين سليم الأول في مرج دابق بشمال سوريا تبين أن النصر قد حالف العثمانيين، لأسباب أحدها خيانة واحد من كبار أمراء الغوري وتخليه عنه في المعركة. 

 يُروى أن أحد قادة الغوري نصحه بالهرب لينجو بحياته، فأصابته أزمة قلبية أسقطته مشلولاً من على فرسه،  يكتب ابن إياس: “وأما السلطان فمِن حين مات لم يُعلم له خبر، ولا وقف له أحدٌ على أثر، ولا ظهرت جثته بين القتلاء، فكأن الأرض انشقت وابتلعته في الحال … وزال مُلك الأشرف الغوري على لمح البصر فكأنما لم يكن، فسبحان من لا يزول ملكه ولا يتغير … فكانت مدة سلطنته خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وخمسة وعشرين يوماً … فكانت الناس معه في هذه المدة في غاية الضنك، وقد قلت [أي ابن إياس الحنفي] في المعنى:

اعجبوا للأشرف الغوري الذي       مذ تزايد ظلمه في القاهرة

زال عنه ملكه في ساعة             خسر الدنيا إذاً والآخرة”

كان هذان البيتان آخر ما كتب ابن إياس عن الغوري، باني الدكاكين في تربة الزعفران حيث رقدت يوماً عظام بناة القاهرة.