fbpx

“قناع بلون السماء”… عن السجن الأكبر لفلسطيني مولود من رحم النكبة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الرواية تتحرر من صندوق أدب السجون المعتاد، لأنها أولاً لا تتحدث عن السجن، بخلاف الكتابات الأخرى التي تكتب عنه وعن مقاومة السجان ونضالات الأسرى ضد إدارة السجون، وثانياً كونها كُتبت داخل السجن، بعكس السائد، وكذلك تتحرر من الأطر والتابوهات والمسلّمات المكرورة لهذا النوع من الأدب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مرّ على وجود الكاتب والروائي الفلسطيني باسم خندقجي في السجن نحو عشرين عاماً. اعتقلته السلطات الإسرائيلية عام 2004 بعد تخرّجه في جامعة “النجاح الوطنية” في قسم الصحافة والإعلام، وحُكم عليه بالسجن المؤبد 3 مرات.

وصلت روايته الأخيرة “قناع بلون السماء” الصادرة عن دار الآداب اللبنانية، إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية. وبحسب الروائية سارة النمس، لم يعلم خندقجي بوصول روايته بسبب حجب الأخبار والزيارات الذي يمارَس في السجون الإسرائيلية.

الرواية تتحرر من صندوق أدب السجون المعتاد، لأنها أولاً لا تتحدث عن السجن، بخلاف الكتابات الأخرى التي تكتب عنه وعن مقاومة السجان ونضالات الأسرى ضد إدارة السجون، وثانياً كونها كُتبت داخل السجن، بعكس السائد، وكذلك تتحرر من الأطر والتابوهات والمسلّمات المكرورة لهذا النوع من الأدب.

على رغم ذلك، يظل السجن حاضراً في الرواية، والسجين هو الضمير والمرجعية. أما “البطل الحر”، فنتلمس معه قضبان سجنه الكبير، إذ يتوه في معالمه غير الواضحة، حيث الحرية قد تكون وهماً كاتفاقيات السلام المزيّفة.

من السطور الأولى، يضعنا الكاتب أمام مخطط الرواية المتخيّلة، مخطط لن يرى النور، لكن نتعرف فيه على بطل الرواية الذي سيجعله خندقجي يحظى بقدر أكبر من الحرية، حرية مقيدة بالطبع، من دون أن يسمي له مكاناً، داخل سجن أكبر يُدعى “الأراضي المحتلّة”، ليتمكّن على الأقل من التجوّل بحرية، على عكس كاتبه الذي يملك جسداً سجيناً وخيالاً حراً.

البطل هو نور شاكر، ابن مخيم لا يُذكر اسمه، فلا أهمية لذكر الاسم إلا عندما “يرتبط المخيم بمجزرة كمجزرة مخيم تل الزعتر”، لكن وصف المخيم الذي يُفتتح به الفصل الأول من الرواية يصوّره كسجن، “إذ تضغط الأزقة على ضلوع بطلها، تدنو منه، تخترقه”.

يزيد خندقجي اللعبة تعقيداً، بإنشائه صداقة بين بطله نور “الحر”، وبين مراد، وهو سجين آخر تتشابه ظروف سجنه مع الروائي، إذ تعلّم كيف يستغلّ “درب آلامه” بالمعرفة وقراءة الكتب التي تقوده إلى حريته، الداخلية على الأقل، يتبعها بالدراسة الكثيفة ليحصل على بكالوريوس في العلوم السياسية ثم ماجستير في الدراسات الإسرائيلية.

وهو في ذلك على عكس “نور”، الذي يتبع مساراً مختلفاً في المعرفة، يولع بالتاريخ والآثار، ويتخصص في دراسته، إثر عمله المؤقت لمدة أسبوعين في موقع أثري غرب القدس، وظيفته فيه كانت غربلة الأتربة، فيفتن بما قد تبوح به الأرض من آثار وعملات ظلت مدفونة فيه لآلاف السنوات، وهو في ذلك عكس مراد الذي يلومه على عدم تخصصه في بحث أكثر معاصرة، مرتبطاً بمحددات الاحتلال السردية والفكرية.

يولع نور بالتاريخ لسبب آخر، إذ تضعه المحاولة التخيلية أو حتى التاريخية، التي تتّخذ الخيال وسيلة في رواية “شيفرة دافينشي” لدان براون، والتي تصنع تاريخاً آخر متخيلاً لمريم المجدلية، ليطرح نور سؤالاً حول قدرة الخيال الجبارة على الإطاحة بالتاريخ عن ” متن الحقيقة والمعقول” وسؤال أكبر يحمل مرارة “لماذا انتزع دان براون، الأجنبي، مريم المجدلية عن سياقها التاريخي الجغرافي، ليلقي بها في مهاوي الغرب؟”.

هل ولع نور إذاً، هو ولع بالأرض وحقيقتها التاريخية ضد أسطرة سرديتها التي أباحتها إسرائيل؟ أليست هنا تكمن أيضاً واحدة من محددات “إبادة الذاكرة” أم أنه موهوم يضيّع وقته على شيء أقل جدية من بحث صديقه السجين الأكثر معاصرة رغم ذلك؟

“السجن الأصغر والأكبر”

المفارقة أن تلك الأسئلة تدور أصلاً داخل رواية تخاتل التاريخ والخيال معاً في بحثها عن الحقيقة، ومن منهما على حق، الروائي الذي نجد صداه في مراد السجين، أم الشخصية الروائية المتخيلة المتهمة بالهروب من الواقع إلى دهاليز تاريخية مجهولة المصير والمعنى؟ أيهما هو الآخر أصلاً؟ ألا يهرب الروائي بحريته عبر جدار السجون، باختراع نور الشخصية الروائية؟ بل إنه أيضاً يعاتبه على “عبارة السجن الأصغر والأكبر”، والتي يصفها كعبارة مقيتة، على رغم أنه هو من أوحى بها في بداية النص.

“السجن أفظع واقعة في الحياة… غربة حديدية صدئة… أما السجن الأكبر فأنت من تحبس نفسك به، أنت من تصنعه”، بينما يرد عليه نور “إنه يحسده على سجنه الأصغر… لأن واقعك الحديدي واضح الملامح، مكون من معادلة بسيطة”، لكن “في السجن الأكبر لم تعد الأمور واضحة”، إذ يدرك نور أنه في ذلك السجن الأكبر مصاب في وجوده وهويته، حتى أنه كان لا يميز حين يسمع وهو فوق فراشه، صوت إطلاق نار، إن كان هذا رصاص الاحتلال، أم شجار مسلّح بين “جماعتين متصارعتين على الوهم”.

ماهيّة الاستعمار 

جدال نور يتمحور حول كنه الكولونيالية، إذ هي هوس بالسيطرة على التفاصيل الصغيرة، التفاصيل المعرفية والثقافية والنفسية، ومريم المجدلية في عرفه هي جزء من تلك التفاصيل، واستعادتها هي طريقته “الصغيرة أيضاً” في مواجهة ما يتجرعه الفلسطينيون منذ النكبة من أكاذيب وأساطير واغتصاب أسطوري عبر الخيال، إذ يضطر كمرشد سياحي يجيد العبرية والإنكليزية، أن يزيف حتى التاريخ لصالح الأسطورة اليهودية التوراتية، عوضاً عن أن يسرد لهم أن تلك البقعة التي كتب عليها “قبر شمشون” هي أنقاض وأطلال لقرية فلسطينية، لا يفعلها إلا في خطبة منفلتة أشبه بالغصة، تكلّفه مصدر رزقه.

لكنه إذ يفشل في أن ينتهي إلى كتابة بحث تاريخي دقيق، يلجأ إلى الرواية، المخطط الذي لن يرى النور، يحقق فيها تصالحاً مع مراد نصفه الآخر، بشطرها إلى نصفين معاصر وتاريخي.

معركة نور إذاً لا تتحدد بالبحث عن الحقيقة، بل بتحدي لعبة دان براون بلعبة مماثلة، يحاول فيها استعادة السيطرة على الخيال، خالقاً أسطورة فلسطينية تخصّه. المخيم نفسه ليس من وجهة نظر الكتابة إلا رواية مقلوبة للجيتو اليهودي في أوروبا، إمعاناً في أسطرة الفلسطيني ومأساته، بحذفه من التاريخ إلى التخييل.

السلام المزعوم

نور ابن لأب كان مناضلاً سابقاً، عُرف بالأسير المحرر بعدما أمضى خمسة أعوام من أصل 25 عاماً حُكم عليه بها في سجون إسرائيل بعد توقيع معاهدة أوسلو. لكن الأب الذي يشعر بأنه طعن في قلبه من رفاقه إثر هذا “السلام المزعوم”، يبني لنفسه جداراً من الصمت والعزلة عن كل شيء، ويكتفي بأن يركز عالمه حول شيء واحد تافه، إذ يستبدل مسيرة نضاله بنصبة شاي وقهوة، خذلان مصدره أن رفاق نضاله السابقين في فرحهم بأبهة السلطة المزيفة، أعادوا تسمية حياته مع أعدائه، إذ صار نضاله وثورته عنفاً وإرهاباً، ومعاناة اعتقاله هراء.

نور ابن هذا الصمت والخذلان وميل أبيه ليمد جدار عزلته إلى الابن، الذي يسعى الى إيجاد سبل نجاته خارج جدار الصمت المخذول والأسى والعزلة، بصداقته العميقة مع مراد، ثم رسائلهما السرية داخل الكتب عقب سجن صديقه، ثم بالتركيز على العمل في وظائف شاقة بالداخل الصهيوني كي يصرف على دراسته الجامعية الباهظة، لكنه يجد في منتصف بحثه عن سبل نجاته، قناعاً لذاته وملامحه ذاتها.

يوصف نور في المخيم بـ”الأشكنازي” لبياض بشرته وزرقة عينيه، ما يجعله أقرب الى بشرة اليهود من أصل أوروبي، وبتعلمه العبرية من أفواه شوارعها نفسه، يكتسي القناع بطبقة جديدة، تنجيه من مداهمات شرطة الاحتلال لكونه لا يحمل ترخيصاً بالعمل في الداخل الصهيوني، يذوق البحر للمرة الأولى في يافا بحرية من استولى على الأرض، ثم تتعقد اللعبة عندما يجد بالمصادفة داخل معطف قديم وأنيق اشتراه بسعر جيد، مستخدماً لغته وقناعه العبري الجديد، بطاقة هوية شخصية لإسرائيلي، وقد نُسيت في جيب المعطف، تحمل اسم: أور شابيرا، وأور تعني بالعبرية ” نور”، ينجح لاحقاً في تزويرها باستبدال صورته بصورة أور. 

مصادفة روائيّة، قد تكون في رواية أخرى محل نقد، إذ لا يعترف قانون الروايات منذ زمن بهذا النوع من المصادفات، لكننا نعلم من البداية أنها لعبة قد حطّم فيها الجدار الرابع، وأننا أمام سجين يتحرر عبر خيال كتابة رواية أمام أعيننا.

عبر تلك الهوية المزيفة، يكتمل القناع الذي يخطط به للتسلل إلى أعماق العالم الكولونيالي، فيشعر بقدرته على كتابة تلك الشخصية الجديدة المتخيلة “أور”، ويضفي عليها ما أراد من التفاصيل، عبر جرأة التخيل، هذا الخلط بين الهويتين، يصير هوية ثالثة ملتبسة، تتيه معها حقيقته، ويظل مراد هو الرابط الأخير كي لا يطمس قناعه هويته، وكي لا يتحول، بحسب تعبير فرانز فانون، إلى كائن يحمل بشرة سوداء وقناع أبيض.

 تتعقد اللعبة الروائية، من روائي نعرفه إلى شخصية متخيلة تكتب رواية، إلى كونها تتخيل نفسها كشخصية روائية حية، ويعيد اختراع شخصية تاريخية “مريم المجدلية” في كتابة روائية، إذ يخترع لها كنزاً سرياً تتناقله الأجيال، يحتوي إنجيلاً أوصت أتباعها السريين ألا يرى النور إلا عند هبوط يسوع من السماء ليخوض معركته الأخيرة في مجدو “هرمجدون” ضد قوى الشر والشيطان.

سردية مريم المجدلية في نظر نور، تشبه سردية الفلسطيني التي تم إسكاتها وإقصاؤها.

صراع الهويات الأصليّة والمُزيّفة

الأزمة، أن الهوية المزيفة التي ينتحلها للالتحاق ببعثة أثرية تابعة لمعهد إسرائيلي، تهدده بخطر ضياع هويته الأصلية، تتنازعه وتتمرد عليه وتحاوره، ويتهمها باحتلال أرضه واغتيال حياته، وتتهمه هي بالعداء للسامية، هو الذي يسير في الطريق الذي سبق أن سار عليه يسوع، لكن على عكسه لا يحمل قناعاً بل صليباً، يصير القناع صليباً.

عبر الهوية المزيفة لا يعبر فقط جدار عزل عنصري، بل عتبة تفصل بين عالمين، يكتشف فيه ذاته المشطورة، أو هكذا يظن، فبفهمه لأورا الصهيوني، يدرك أول ما يدرك أن الفلسطيني الحالي قد وُلد من رحم سردية الصهيوني، وبفهمه قد يتمكن كلاهما من الانفصال عن بعضهما البعض. أما مراد الذي يغيب عن النص، يتحول حضوره الغائب من تبادل للرسائل إلى مرجعية وضمير وحكم، بين شخصيتي نور وأورا، لكن ما يخفيه النص لبرهة، ثم يكشفه في النهاية، هو أن نور كان يخفي وراء كل الأسباب التي أعلنها شيئاً آخر، هو تجربة الاستسلام للعيش كصهيوني حقاً، كأورا، كوسيلة لخلاص من وصمه كفلسطيني لاجئ كتب عليه أن يعيش كل لحظة كسجين بلا صوت، عل ذلك ينقذه من جرح الهوية المشوّه.

في البعثة الأثرية، يتضح أيضاً أن التاريخي لا ينفصم عن المعاصر، إذ ما تبوح به الأرض هو أطلال قرية فلسطينية، أخفت معالم تهجير وقتل أبنائها، عبر بناء المستوطنة والكثير من الأشجار، التي أشار إليها المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه: التطهير العرقي في فلسطين، إذ يميل الإسرائيليون الى تخدير ضمائرهم ببناء غابات من الأشجار فوق أماكن الجرائم والمذابح، فتتحول الأشجار من لغة حياة وتجدد للإسرائيلي، إلى علامة موت وشواهد قبور للفلسطيني. الحقيقة مدفونة تحت ركام الأرض والسرديات المزيفة للتاريخ، حيث تسيّس التوراة لصالح سرقة الأرض.

يتخلّى نور عن مشروع مريم المجدلية، إذ يجدها في “سماء إسماعيل” الفلسطينية من عرب 48، التي تشترك معهم في البعثة، والتي ترفض تقديم نفسها كمواطنة إسرائيلية، رغم أنها تملك بطاقة هوية إسرائيلية، فتكتفي بتعريف نفسها “كفلسطينية من حيفا”، وتخوض مناقشات واضحة، حول الاحتلال وطبيعته وتحويل الهولوكست من مأساة إنسانية إلى سردية صهيونية تبرر لهم إبادة الفلسطينيين.

لحظة التنوير هي اللحظة التي يربط فيها نور بعد تأمله في وضوح “سماء”، ماذا تعني كلمة قناع أو الهوية المزيفة التي رأى فيها حلاً مزيفاً لهويته، وهي تعني بالإنكليزية Mask، وتنطق بالعبرية التي تقلب الكاف خاء، إلى مسخ، يخفي به نور ملامحه المشوّهة المولودة من رحم النكبة، اللحظة التي يعقبها تمزيق القناع وبطاقة هوية أورا.

تنهزم إذاً سردية نور في مقابل سرية مراد وسماء، لكنه في المقابل يكتشف أن وجهه لا يستحق الوصم، بل الظهور الحي من دون أقنعة.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.