fbpx

“رأس الحكمة”: هل تنهي أزمة الاقتصاد المصري وتكون بديلاً عن الإصلاح؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على رغم التأثير الإيجابي المحتمل لاستثمارات “رأس الحكمة” على الاقتصاد المصري، وشكر الرئيس المصري الإمارات بحجة ألا أحد يدفع 35 مليار دولار في شهرين، لكن يبدو أن هذه التدفقات المالية غير المسبوقة كانت لها تكلفة باهظة تكبدّتها مصر خلال السنوات الماضية، من خلال الإنفاق على البنية التحتية ومد المنطقة بالطاقة وشق طرق النقل وإنشاء خطوط القطارات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في 23 شباط/ فبراير، كشفت الحكومة المصرية عن توقيع أكبر صفقة استثمار مباشر في تاريخ مصر، باستثمارات إماراتية تُقدّر بنحو 35 مليار دولار، مقابل الاستحواذ على حق تطوير مدينة رأس الحكمة وتنميتها، وتحتفظ الحكومة المصرية بحصة 35 في المئة في مشروع تطوير رأس الحكمة. ويقع المشروع على سواحل البحر المتوسط في منطقة الساحل الشمالي على مساحة 170.8 مليون متر مربع.

 أوضح بيان رئيس مجلس الوزراء، أن هذه التدفّقات المالية ستدخل الخزينة المصرية خلال شهرين فقط، من خلال الحصول على دفعة أولى بعد أسبوع بقيمة 15 مليار دولار، والثانية بعد شهرين بقيمة 20 مليار دولار. وبخلاف هذه المبالغ، قال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي خلال المؤتمر، إن الجانب الإماراتي سيضخّ استثمارات بقيمة 150 مليار دولار طوال مدة تنفيذ المشروع.

وبصفته المالك لحق تطوير المشروع، نشر صندوق أبو ظبي السيادي “القابضة” (ADQ) بياناً يكشف تفاصيل الصفقة بشكل أكثر وضوحاً. وجاء فيه، أن الصندوق حصل على حقوق تطوير مشروع رأس الحكمة مقابل 24 مليار دولار. بالإضافة إلى تحويل 11 مليار دولار من الودائع التي ستُستخدم للاستثمار في مشاريع رئيسية في جميع أنحاء مصر. 

وتمتلك الإمارات 11 مليار دولار من الودائع المالية المستحقّة ضمن الدين الخارجي على مصر، وهي الدائن الأكبر لمصر بنحو 22.2 مليار دولار، ولدى الدول العربية أيضاً ديون لدى مصر تقدّر بـ 48 مليار دولار، ما يُشكل 29.4 في المئة من إجمالي الدين الخارجي المصري، الذي يُقدر بـ164.5 مليار دولار، وفقاً لبيانات البنك المركزي.

كما يتوقّع الصندوق أن يستقطب المشروع استثمارات تزيد قيمتها عن 150 مليار دولار، وهو ما يختلف بعض الشيء عما ورد في كلمة رئيس الوزراء المصري، التي تُدلّل على أن هذه التدفقات المالية الضخمة من المؤكد استثمارها من جانب الشريك الإماراتي، فيما يظهر بيان الصندوق أن المشروع سيعمل على استقطاب هذه الاستثمارات. ولم يُحدد البيان جدولاً زمنياً لإرسال التدفقات المالية الى مصر، كما غابت التفاصيل المتعلقة بخطط التطوير للمشروع الذي من المفترض أن يبدأ تنفيذه بداية العام 2025. 

نحاول في هذا التقرير، تسليط الضوء على التفاصيل غير الواضحة في الصفقة، وأسباب غياب المعلومات، وتوضيح تأثير الصفقة المتوقع على الاقتصاد المصري، وهل تكون هي الحل السحري للأزمة الضاغطة التي تمر بها مصر، وبديلاً عن الإصلاح؟

صفقة سياسيّة قبل أن تكون اقتصاديّة

عند النظر إلى الاتفاقية من خلال ما أعلنه الطرفان، سنجد أن هناك غياباً للمعلومات الأساسية التي تكشف عن الصيغة التي حصل من خلالها الطرف الإماراتي على حق تطوير المشروع. ومن غير الواضح ما مقابل القيمة المالية الضخمة للصفقة، فهل كان ذلك مقابل بيع أصول واستثمار مباشر، أم أنه حق انتفاع.  

يقول الباحث الاقتصادي محمد رمضان، في حديث مع “درج”، إن هناك تفاصيل غامضة وأسئلة  كثيرة تحتاج إلى إجابات، فالمخفي أكبر بكثير مما أُعلن عنه. وهو ما يجعلنا لا نملك أي تأكيد واضح للأرقام المعلنة. كما أننا لا نعرف أي تفاصيل عن مخطط تطوير هذه المدينة، وعن الطرف صاحب هذا المخطط.

 يضيف رمضان، أن المتعارف عليه في مثل هذه الصفقات، أن المستثمر عندما يحصل على الأرض بطريقة البيع أو حق الانتفاع، فإنه يدفع التكلفة على دفعات وعلى مدار مدة زمنية طويلة، ولا يتم ضخّ المبلغ بهذه الطريقة. ما يعني أن المؤكد الوحيد في هذه الصفقة، أنها ذات طابع سياسي قبل أن يكون اقتصادياً، ويبدو أن الغرض منها هو إنعاش الاقتصاد المصري ومنحه الثقة المفتقدة.

وهذا ما عبّر عنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في تصريحاته خلال مؤتمر “قادرون باختلاف”، حينما وجّه الشكر إلى رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد على مشروع رأس الحكمة، قائلاً “إن لا أحد يدفع 35 مليار دولار خلال شهرين من دون أن يستغرق الاتفاق وقتاً، وما حدث هو أحد أشكال المساندة والدعم الواضحين من الأشقاء”.

وعن حجم الاستثمارات الضخمة للصفقة، يرى د. ولاء بكري، المحاضر في إدارة وتمويل المشروعات الدولية في جامعة ويستمنستر بيزنس سكول البريطانية، أنه من المؤكد أن هذه الأرقام جاءت اعتماداً على دراسة جدوى وافية، ولها ارتباطات عدة، منها حجم النمو المتوقع للاقتصاد المصري خلال السنوات المقبلة، وهي تضع في الاعتبار مدى قدرة الجانب الإماراتي على جذب استثمارات وشركاء في عملية التطوير، بالإضافة إلى التحفيزات المقدمة من مصر لجذب المزيد من الاستثمارات.

يتفق البكري مع الرأي القائل بأن البعد الجيوسياسي هو السبب الرئيسي لإبرام الصفقة، إذ يرى أنه نتيجة تدهور قيمة العملة وتفاقم التضخم عند مستويات مقلقة، وما تبع ذلك من تأثير على ارتفاع تكاليف المعيشة وقدرة معظم المواطنين على تأمين الغذاء، دفع الحكومة المصرية الى التحرك والبحث عن حلول عاجلة. وفي الوقت نفسه، فإن هذه الأزمة كانت محل اهتمام المؤسسات الدولية والحلفاء الدوليين، وعلى رأسهم الأشقاء في دول الخليج، الذين يحرصون على استقرار مصر، ولا يريدون حدوث أي توترات أو قلاقل اجتماعية لدولة تمتلك الكتلة السكانية الأكبر في المنطقة.

تمتلك الإمارات 11 مليار دولار من الودائع المالية المستحقّة ضمن الدين الخارجي على مصر، وهي الدائن الأكبر لمصر بنحو 22.2 مليار دولار، ولدى الدول العربية أيضاً ديون لدى مصر تقدّر بـ 48 مليار دولار، ما يُشكل 29.4 في المئة من إجمالي الدين الخارجي المصري، الذي يُقدر بـ164.5 مليار دولار، وفقاً لبيانات البنك المركزي.

هل ستنعش “رأس الحكمة” الاقتصاد المصري؟

قبل توقيع اتفاقية “رأس الحكمة”، كان الاقتصاد المصري يُعاني من فجوة تمويلية تصل إلى 30 مليار دولار سنوياً بحسب تصريحات الرئيس المصري، فيما قدر بنك “غولدمان ساكس” قيمة احتياجات مصر التمويلية للسنوات الأربع المقبلة، بـ 25 مليار دولار. لذلك، يتوقع البنك أن تساهم التدفقات المالية الإماراتية الضخمة، إلى جانب برنامج صندوق النقد الدولي، في توفير سيولة مالية كافية لتغطية هذه الفجوة. 

يُعلق الباحث الاقتصادي محمد رمضان، خلال حديثه مع “درج”، على تقرير البنك الأميركي قائلاً: لا يُمكن الاعتماد على هذه التقديرات بشكل كلي حتى إذا صدرت من مؤسسة عالمية ومرموقة، إذ إن البنك يعتمد في تقديره على عملية حسابية تفترض ثبات العوامل الحالية وعدم تغيرها، ولكن ما نراه أن إيرادات مصر الدولارية أصبحت متذبذبة، وأهمها تحويلات المصريين العاملين في الخارج وإيرادات قناة السويس. ومن ناحية أخرى، فإن أهم الواردات التي تشتريها مصر أصبحت أسعارها متغيرة وغير متوقعة في ظل الوضع الجيوسياسي المتوتر. وعلى الرغم من ذلك، يرى رمضان أن هذه التدفقات المالية ستساعد مصر على تطبيق مرونة في سعر الصرف لمدة عامين على الأقل. 

فيما يتوقع د. ولاء بكري أن تساهم هذه التدفقات في انخفاض مستويات التضخم، مع تدبير طلبات الاستيراد، ولكن ذلك قد يحتاج إلى دورة اقتصادية وقد يستغرق وقتاً، نظراً الى أن تضخم أسعار بعض السلع يعود إلى تقلص حجم بعض القطاعات الإنتاجية بفعل انخفاض الاستهلاك وارتفاع التكاليف، ما يستدعي تشجيع هؤلاء المنتجين على العودة الى الأسواق مع جذب منتجين جدد، حتى تكون هناك وفرة في المعروض مع ارتفاع الطلب المتوقع حدوثه خلال الفترة المقبلة.

 السيسي أعلن أيضاً، خلال مؤتمر “قادرون باختلاف”، عن تلقّي مصر الدفعة الأولى من الاستثمارات الإماراتية. بعدها، أكد رئيس مجلس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي استلام 5 مليارات دولار ، ومن المقرر تسلم 5 مليارات دولار أخرى. وبعد انتعاش الخزينة المصرية بهذه التدفقات الضخمة، ينتظر من الحكومة تلبية الالتزامات والطلبات المتراكمة بالعملة الأجنبية. 

ولا توجد بيانات حكومية توضح لنا حجم هذه الالتزامات. وبحسب الخبير الاقتصادي محمد فؤاد، فإن هناك متأخرات بضائع بنحو 14 مليار دولار، ومستحقات شركات البترول بقيمة 7 مليارات دولار، مع أرباح محتجزة لمستثمرين بقيمة 6 مليارات دولار. بالإضافة إلى الالتزامات المستمرة على المدى المتوسط والطويل، والمتعلقة بخدمة الدين الخارجي وسداد فاتورة الاستيراد. 

ومن المنتظر أن تدعم هذه الخطوة اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي. ووفقاً لتقرير غولدمان ساكس الأخير، من المتوقع أن تصل قيمة القرض الى ما بين 15 – 20 مليار دولار، ليشمل حزمة من الشركاء الدوليين في الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي. ما يمنح الحكومة المصرية القوة المالية التي تحتاجها للوفاء بالتزامات سابقة، والمضي قدماً في تخفيض قيمة العملة للمرة الرابعة خلال عامين.

ليست صفقة استثمار مجانيّة 

على رغم التأثير الإيجابي المحتمل لاستثمارات “رأس الحكمة” على الاقتصاد المصري، وشكر الرئيس المصري الإمارات بحجة ألا أحد يدفع 35 مليار دولار في شهرين، لكن يبدو أن هذه التدفقات المالية غير المسبوقة كانت لها تكلفة باهظة تكبدّتها مصر خلال السنوات الماضية، من خلال الإنفاق على البنية التحتية ومد المنطقة بالطاقة وشق طرق النقل وإنشاء خطوط القطارات. ونجد أن تكلفة القطاع السريع الذي يمتدّ من السخنة إلى منطقة رأس الحكمة، تقدّر بنحو 12 مليار دولار. الى جانب تكلفة تطوير الطرق المؤدية إلى رأس الحكمة، والتي وصلت الى ملياري دولار في مشروع طريق الفوكا. 

تضاف الى ذلك كله، تكلفة إنشاء محطات تحلية مياه في المنطقة، ولا يُمكن إغفال التكلفة المالية الضخمة لإمداد المنطقة بالطاقة الكهربائية، من خلال إنشاء محطة الضبعة، والتي تصل تكلفتها إلى 28 مليار دولار، منها 25 مليار دولار قرض روسي.

يعلق رمضان على ذلك قائلاً: من الضروري طرح أسئلة حول تكاليف هذه المرافق التي استنزفت الموازنة المصرية، لمعرفة ما إذا كانت ضمن تكاليف الاستثمار، وإذا لم تكن كذلك، فيجب على الحكومة المصرية الاتفاق مع الجانب الإماراتي لتحمّل جزء من هذه التكاليف. كما يتساءل رمضان حول الطرف الذي سيتكفّل ببقية تكاليف البنية التحتية التي سيتم إنشاؤها في المستقبل، مثل مد خطوط المياه والكهرباء وبقية المرافق التي تخدم المشروع، وهل ستستمر الحكومة في تمويل هذه المشاريع من خلال الموازنة العامة للدولة، أم أن الجانب الإماراتي هو من سيتحملها؟! 

تنفيذ الإصلاحات أم تأخيرها؟

منذ توقيع مصر اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي في منتصف كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بقيمة 3 مليارات دولار، لعبت دول الخليج دوراً رئيسياً في هذا الاتفاق، الذي نصّ على إتاحة تمويل إضافي لصالح مصر بقيمة 14 مليار دولار من شركائها من دول الخليج. وضغطت هذه الدول حينها على الصندوق حتى يكون أكثر حزماً في مطالبه وشروطه مع مصر.

تعطّل الاتفاق وتباطأت وتيرة التدفقات الخليجية خلال العام الماضي، بسبب تأخر مصر عن تنفيذ الشروط المتعلقة بتحرير سعر الصرف، وإجراء إصلاحات هيكلية وسريعة، وتخارج الدولة من الاقتصاد لصالح القطاع الخاص. ولكن مع اشتعال الحرب في غزة، أصبح لدى الداعمين الدوليين، من دول الخليج وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، أسباب لإنقاذ مصر نظراً الى أهميتها الاستراتيجية.

 لذلك، جاءت صفقة الإنقاذ الإماراتية التي منحت الحكومة المصرية قبلة الحياة، بعدما كان الوضع على شفا الانهيار. وهو ما يدعو إلى التساؤل عما إذا كان الداعمون ما زالوا يتمسكون كالسابق بضرورة تنفيذ الإصلاحات، إضافة إلى الدوافع التي ستجعل الإدارة المصرية تغيّر من سياساتها الاقتصادية، وتُرشد في الإنفاق على المشاريع الكبرى، وتسرع نحو إجراء إصلاحيات هيكلية، بعدما أصبحت تملك تدفقات مالية ضخمة، مع تيقنها بأن الداعمين لن يتركوا مصر تسقط، وسيتدخلون في كل مرة لضخّ تدفقات تنقذ الوضع. 

عن هذه المعضلة، يجيب د. ولاء بكري، أستاذ إدارة وتمويل المشروعات الدولية، قائلاً، هذه المرة، الحكومة واقعة تحت ضغط لاستغلال المساحة الزمنية التي ستمنحها لها هذه الصفقة، لإعادة ترتيب أولوياتها وتغيير سياستها الاقتصادية، حتى لا تتكرر هذه الازمة مرة أخرى، وحتى لا تظل تعتمد على استثمارات الصناديق الخليجية، ويكون لديها اقتصاد مرن وقادر على امتصاص الصدمات الخارجية.

 وعن إمكان تقاعس الحكومة المصرية عن إجراء الإصلاحات المطلوبة، يُعلق الباحث محمد رمضان، بأنه إذا حدث ذلك، فإن تأثير الصفقة سينحصر في كونها مجرد شراء للوقت وترحيل الأزمة زمنياً. ويضيف: الأمر سيكون بمثابة انتحار اقتصادي.

 يخشى د. ولاء البكري من أن التأخر أو التقاعس عن تنفيذ الإصلاحات ستكون تكلفته باهظة، وسيصعّب من العملية في المستقبل حتى إذا توافرت الرغبة والإرادة، إذ قد يحدث أن تتفاقم الأزمة وتتجه نحو وضع يصبح عنده من المستحيل الإصلاح أو تنفيذ الحلول العاقلة. لذلك ينصح البكري صانع السياسات المصرية بأن يضع نصب عينيه التأثير السلبي للأزمة الاقتصادية على الطبقات الفقيرة في مصر، والإنصات والاستماع إلى أصحاب الرأي والتوجهات المختلفة، واستشارتهم وتوسيع دائرة المشاركة في اتخاذ القرار.

الباحثة الاقتصادية سمر عادل تقول في حديث لـ “درج”: عند الحديث عن الإصلاحات، يجب ألا نحصرها في مطالب الصندوق التي تركز على السياسة النقدية، لأن هذا ليس إصلاحاً بالمعنى الحقيقي، وقد جربناه مراراً وأثبت فشله. في المقابل، يجب أن تتجه الحكومة المصرية بخطوات سريعة نحو إجراء إصلاحات جادة، تتعلق بدعم القطاع الخاص وعدم منافسته، وتوحيد الموازنة، وأن تكون السياستان المالية والنقدية متناغمتين تماماً. وقبل ذلك كله، يجب أن يكون السعي نحو تنفيذ هذه الإصلاحات نابعاً من أهميتها والحاجة المُلحة إليها ومن كونها مصيرية، وليس انطلاقاً من رغبة الصندوق والجهات الدولية في تنفيذها.