fbpx

بقوة السلاح ونفوذ الأحزاب… عشائر عراقيّة تُغلّب أعرافها على القانون

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في الكثير من القضايا، بخاصة تلك التي ترتبط بدية الدم، وإن كان السبب حوادث غير مقصودة، تفرض العشائر استناداً إلى تقاليدها، مبالغ مالية، تكون في بعض الأحيان كبيرة، في مخالفة للشريعة الإسلامية التي تؤمن بها العشائر في العراق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في أواخر تموز/ يوليو2022، ومع خروجه من حي الأمير في مركز محافظة الديوانية جنوب العراق، ودخول الطريق الرئيس متوجهاً نحو العاصمة بغداد، فقد تحسين (47 سنة) سيطرته على سيارته، التي انقلبت فجأة على الأسفلت مرات عدة، قبل استقرارها على ظهرها وهو بداخلها مصاباً بجروح وينزف بشدة. 

تجمع عدد من أبناء الحي القريب، لكنهم اكتفوا بالمراقبة، وهذا تحديداً ما فعله سائقو المركبات المارة بالشارع، يبطئون السرعة، يلقون نظرة توجّس، ثم يواصلون القيادة مبتعدين، فيما تحسين يلفظ أنفاسه الأخيرة تاركاً زوجة وثلاثة أطفال، أكبرهم بعمر الثانية عشرة. 

شقيقه الأكبر عبد الباقي، وهو ضابط شرطة برتبة مقدم، روى هذه التفاصيل، وأكد أن خوف الناس من المساءلة العشائرية واتهامهم بالتسبب بالحادث، منعهم من تقديم يد المساعدة لشقيقه وإيصاله إلى أقرب مستشفى لإنقاذه. وردد وهو يضرب كفّيه ببعضهما: “الممارسات العشائرية قتلت تحسين ويتّمت أطفاله”.

يضيف بنبرة احتجاج: “لا يمكن تصور ما يحدث، إنهم يتسببون بمنع مد يد العون، ويُبطلون حضور قوانين الدولة، بل حتى فطرة الخير والإحسان والمروءة في المجتمعات الأصيلة”.

يشير عبدالباقي بذلك إلى ظاهرة آخذة بالازدياد في العراق، الذي تشكل العشائر معظم قوامه الاجتماعي، إذ يحدث وبشكل يومي أن يجد من يمد يد المساعدة لإنقاذ مصاب في حادث ما، نفسه متهماً بالحادث، وتترتب على ذلك جلسات عشائرية تُسمى (الفصل العشائري) ومبالغ مالية كبيرة يدفعها، وقد يفقد حياته إذا رفض الانصياع للفصل، وذلك كله من دون تدخل من الدولة ومؤسساتها الأمنية والقضائية.

يقول المحامي أحمد علي وتعلو وجهه ملامح الغضب: “ما هو أكبر يحدث حين يتورط شخص ما في حادث سير غير مقصود أو أن يكون الضحية المفترض هو السبب كان يرمي بجسده أمام السيارة، أو حتى لو كان شخصاً فاقداً الأهلية العقلية”.

ويضيف:”فصليات العشائر تمتد كالسرطان، تجد مجالسها تُعقد حتى حين يتدخل أحدهم لفك نزاع بالأيدي، فيصيب شخصاً من دون قصد بأذى، أو حين يتورط طفل في مشاجرة مدرسية تنتهي بإصابة أو لأنك أصبت شخصاً على سطح منزلك بينما كان يهم بسرقتك، حينها تجد نفسك وعائلتك ملاحقين من عشيرة الضحية”.

ويصف طريقة إعلان العشيرة للخصومة قائلاً: “يخرج عشرات المسلحين وهم بكامل أسلحتهم الخفيفة وأحياناً المتوسطة، ويطوقون منزل الخصم، ثم يفرضون شروطهم ويحددون زمناً للتنفيذ، وفي حال لم ينفّذ يستخدمون السلاح ضده… بينما رجال الأمن قد يكونون في المكان ويراقبون، لكن من دون أن يتدخلوا”. 

آلاف من النزاعات تدخلت فيها العشائر بدلاً من القضاء، ديون، معاملات تجارية، خلافات اجتماعية، يقول المحامي ويتابع: “بل وأحياناً يتدخلون في الخلافات بين الشخصيات السياسية أو بين صحافي أو مدوّن ومسؤول بسبب مادة منشورة في منصة تواصل اجتماعي، فتنتهي الى دواوين العشائر للفصل فيها بعيداً من القانون، وفق أعراف حروب العشائر التي تتعامل مع الأفراد الضعفاء كغنائم”.

ممارسات عشائريّة

“الاتهامات العشوائية، القتل العمد، التهجير، الديات العالية، الجلوة” جميعها تقاليد عشائرية، يحضر فيها السلاح بقوة، لتفرض العشائر من خلالها وجودها وتبرز قوتها وهي تستعرض رجالها وما يملكونه من أسلحة، بعضها من النوع المتوسط يحمل على سيارات الدفع الرباعي، وفي ظلها لا يكاد يمضي يوم من دون أن يُسجل مشهد عنف مسلح في بغداد ومناطق الجنوب، حيث القول الفصل لقوة العشيرة وسلاحها.

وسط مظاهر السلاح، وفي بلد يضم ملايين الأسلحة خارج أيدي منتسبي الشرطة والجيش العراقيين، تجد القوات الأمنية نفسها عاجزة غالباً عن التصدي للمسلحين وفرض القانون، على الرغم من تأكيداتها على تشديد الملاحقات القضائية، بخاصة مع ما تملكه العشائر من نفوذ في السلطتين التنفيذية والتشريعية، فضلاً عن انخراط أبنائها في صنوف القوات الأمنية المتعددة وأيضاً في ميليشيات الحشد الشعبي المنتشرة في كل مكان.  

يعلق على ذلك، رئيس محكمة جنايات الرصافة القاضي ضياء الكناني، قائلا إن ما تعرف بـ(الدكة العشائرية) أخذت منحنى خطيراً من خلال استعمال وسائل وأسلحة متنوعة تثير الخوف والرعب والرهبة في نفوس المواطنين، وأصبحت ظاهرة ووسيلة لابتزاز المواطنين وإرهابهم، بل وصل الأمر إلى تهديد موظفي الدولة ومنتسبي الأجهزة الأمنية.

والدكَة، عرف عشائري يُفعّل عند وجود خلاف بين عشيرتين أو عائلتين، ويتم خلالها إرسال تحذير شديد الى الخصم عن طريق إطلاق الأعيرة النارية بالقرب من منزله لدفعه أو  إكراهه على الجلوس والتفاوض لتسوية الخلاف.

ويتهم القاضي الأجهزة الأمنية بالتهاون في إلقاء القبض على “مرتكبي هذه الجرائم”، ويعني بذلك الممارسات العشائرية المخالفة للقانون. ويتابع: “يحدث ذلك بسبب الغطاء العشائري لهذه الأفعال كالدكَة وسواها، وهذا ما ساعد على استمرارها على الرغم من تقاطعها مع القوانين المرعية التي يفترض الاحتكام إليها في مثل هذه الخلافات”.

“الدكَة العشائرية، تحوّلت الى ابتزاز ووسيلة لفرض سياسة الأمر الواقع، وأصبحت تتحدى القانون”، هذا ما يقوله شيخ قبيلة بني مالك وعضو مجلس النواب ضرغام المالكي، الذي يرد سبب استفحال الظاهرة الى من يسميهم بـ “الدخلاء على العشائر، الذين أساؤوا الى تاريخها وجهدها في إصلاح ذات البين ودعم مؤسسات الدولة”.

وحسب المالكي، فإن مختلف العشائر العراقية التي يصفها بالأصيلة “ترفض بنحو قاطع الدكَة العشائرية والاعتداء على الأطباء والموظفين وتوظيف الخلافات العشائرية لابتزاز الآخرين، لكن هناك من يعتاش على مثل هذه الممارسات” وفقاً لقوله. 

وهذا ما يتكرر بنحو شبه يومي، “فهنالك أطباء تمت ملاحقتهم عشائرياً عندما توفي مرضى كانوا يعالجونهم أو يجرون لهم عمليات جراحية، وتم الاعتداء على أولئك الأطباء وأجبروا على دخول مفاوضات عشائرية، وفق مفهوم الفصل، ودفعوا مبالغ ديات كبيرة”.

“بسبب التهديدات العشائرية، وخذلان المسؤولين”، عبارة علقها الدكتور ياسر مجيد، اختصاصي جراحة الصدر والقلب والأوعية الدموية في منطقة المجر بمحافظة ميسان جنوب العراق في 25 آب/ أغسطس 2023، على باب عيادته، معلناً بها إقفال عيادته، بعد تلقّيه تهديدات عشائرية بالقتل عقب وفاة أحد مرضاه المصابين بالسرطان نتيجة مضاعفات ما بعد عملية جراحية أُجريت في مستشفى الصدر التعليمي في ميسان. 

يقول الدكتور ياسر وهو في حيرة من أمره: “القوات الأمنية أخبرتني بضرورة حل الموضوع عشائرياً، مع أنني لست مذنباً في شيء. في المقابل، ترى عشيرتي أنني مذنب ويجب أن أدفع الفصل العشائري الذي حددته عشيرة الشخص المتوفى، وبلغ 300 مليون دينار، تم تخفيضها لاحقاً الى 80 مليوناً، وأخبروني بأنهم لن يتحملوا معي التكاليف”. 

“لا يمكن تصور ما يحدث، إنهم يتسببون بمنع مد يد العون، ويُبطلون حضور قوانين الدولة، بل حتى فطرة الخير والإحسان والمروءة في المجتمعات الأصيلة”.

تحركات قضائيّة

تصاعد الممارسات العشائرية، بخاصة ما يتعلق بالثأر، دفعت مجلس القضاء الأعلى في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2018، الى “اعتبار الدكات العشائرية من الجرائم الإرهابية، وضرورة التعامل مع مرتكبيها بحزم”.

وجاء في بيان صدر عن المجلس، أن الدكة العشائرية تمثل صورة من صور التهديد الإرهابي المنصوص عليه في قانون مكافحة الإرهاب، وتم توجيه محاكم التحقيق بعدم التهاون مع مرتكبي هذه الجرائم “حتى في حالة حصول الصلح بين الطرفين”.

إلا أن ذلك لم يُنه ظاهرة الدكَة بنحو كامل، بسبب ضعف دور الأجهزة الأمنية في تطبيق القانون وخشية بعض ضباط الشرطة من اعتقال المتورطين والدخول في دوامة الضغوط بل ومخاطر التورط بحلقات الانتقام العشائري، بحسب مصدر أمني في وزارة الداخلية فضّل عدم الكشف عن هويته.

القاضي ضياء الكناني يعود ليؤكد استمرار ظاهرة الدكّات العشائرية، وأن حوادث القتل الناجمة عنها ماز الت تقع وبنحو كبير في العراق، خصوصاً في المناطق الشعبية، مبيناً أن “أكثر حوادث القتل آنية وتحصل بسبب الخلافات العشائرية والمشاجرات التي تحدث لأسباب بسيطة وبعضها يمكن حلّها بالتفاهم”. 

ويلفت إلى أن السلاح المتفلّت، أي غير المرخص، يزيد من حوادث القتل، فضلاً عن الأعراف التي غالباً ما تحرض على ارتكاب هذه الجرائم، “كالقتل بدافع الثأر” وجريمة “الدكة العشائرية”، وجميعها يحتاج إلى وقفة من رجال العشائر والدين والقانون لإعادة النظر فيها وفقاً للشرع والقانون.

فوضى ما بعد التحرير

مع انتشار السلاح خارج الدولة بنحو كبير، عقب سقوط نظام صدام حسين في نيسان/ أبريل 2003، ونهب مخازن الأسلحة، تصاعدت دوامة العنف، بخاصة مع قرارات حل الأجهزة الأمنية السابقة وعدم وجود البديل الجاهز، ما أضعف القدرة على فرض القانون، لتجد العشائر في نفسها القوة الحاكمة.

ازداد الوضع تعقيداً مع ظهور الجماعات الدينية المتشددة المسلحة (القاعدة، النقشبندية، داعش) وعلى أثرها وكرد فعل تشكلت مجموعات عشائرية مسلّحة عُرفت بـ”الصحوات”، وفي 2014 تشكلت مجموعات أخرى عُرفت بالحشد الشعبي، فانتشر السلاح في الشارع العراقي وكثيرٌ منه أصبح منفلتاً. 

شخصيات عشائرية، أرجعت مسؤولية التجاوزات العشائرية الحاصلة في أنحاء البلاد، الى الظروف الأمنية المتدهورة بين 2005 و2017، من بين هؤلاء الشيخ أحمد الجحيشي عن محافظة نينوى، الذي يضيف على ذلك أسباباً اجتماعية أيضاً بل ودوراً لجهات خارجية. 

يقول الجحيشي :”هنالك دور مشبوه لدول من مصلحتها انتشار فوضى السلاح في العراق  منذ 2003″. كما اتهم أحزاباً سياسية بدعم أشخاص في نينوى على سبيل المثال “وتسويقهم كشيوخ جدد ليتماشوا مع مصالحها”.

على الرغم من ذلك، يعتقد الجحيشي أن هنالك عشائر عربية يصفها بـ الأصيلة “لا تزال ملتزمة بالأعراف وقيمة الفصول ومسؤولية الدولة في حفظ النظام وسيادة القانون في معالجة بعض الظواهر السلبية”.

ويعبّر الجحيشي عن أسفه لازدياد حالات “حرق البيوت والجلوة والمسعف” في بعض المناطق، وبعضها كالجلوة يرجع الى تداعيات سلوك تنظيم داعش وما خلفه من جرائم، فقد أجبرت عشائر في محافظتي نينوى وديالى، عوائل مرتبكي الجرائم على ترك مناطقها أو مواجهة القصاص.

وتتمثل “الجلوة” في طرد الخصم وعائلته من المنطقة، والمسعف هو (الشخص الذي يتدخل إنسانياً لإنقاذ ضحايا حوادث السير ونقلهم الى المستشفى)، فتوجه إليه اتهامات عشائرية في بعض الأحيان. 

ويقترح الجحيشي لمعالجة ما يحدث، تشكيل فوج طوارئ خاص بمديرية شؤون العشائر وتعيين قاضٍ متخصص لـ”ردع المخالفين ومحاربة كل ما من شأنه تعكير صفو التعايش”، مذكراً بأن مديرية شؤون العشائر في وزارة الداخلية مسؤولة عن مكافحة الظواهر الدخيلة على المجتمع.

ويحذر مسؤولون  أمنيون من نتائج الفشل المستمر في وضع حدّ للنزاعات العشائرية، ويرى أحدهم طالباً عدم الإفصاح عن اسمه، أن “الدولة ستبقى ضعيفة ورهينة لقوة حاملي السلاح، وستتعاظم القوى الخارجة عن القانون بما يمكّنها من فرض إرادتها على كل شيء”.

وينبه إلى وجود أسباب تتخطى الخلاف العشائري البحت لتدخلات العشائر،”فالصراع بين شبكات التهريب، وحتى النفوذ المسلح داخل الفصائل، يتطور أحياناً الى تدخل العشيرة على الخط مع استقواء كل طرف بنفوذ عشيرته”.

التكسّب من الابتزاز

بينما كان حيدر جاسم(32 سنة-ضابط شرطة)يهم بإيقاف سيارته في محاذاة الرصيف بمنطقة الكرادة وسط بغداد، ارتمى شاب في العشرينات من عمره أمامها ، وبدأ بالصراخ وهو يمسك بقدمه مدعياً إصابته، ليظهر خلال لحظات شخصان آخران، أخذا يتهمان حيدر بدهس الشاب، وقبل أن يستوعب ما يجري، كانت أصوات الثلاثة تتعالى مطالبة بفصل عشائري.

لم تمض سوى لحظات حتى أدرك جاسم بأنه محاط بمجموعة من المبتزين، فأخرج سريعاً بطاقة تعريفه الأمنية التي تشير الى كونه ضابطاً، وكشف عن انتمائه الى عشيرة نافذة، لتخفّ عندها اتهامات المجموعة، “وتحوّل التهديد والوعيد إلى مجرد عتاب أخوي”.

يقول الضابط حيدر: “العصابات المماثلة، تفرض قوانينها على الأشخاص الذين لا يمتلكون السلطة أو السند، ويضطرون إلى دفع مبالغ كبيرة تفرض عليهم بعد إخضاعهم لجلسة عشائرية”. 

الشيخ شهيد الغالبي، يعد “الابتزاز العشائري ظاهرة دخيلة”، ويرى أن معالجته تكمن في “تدخل العقلاء من مشايخ البلاد والخروج ببيان موحد ينبذ تلك العادات السيئة التي باتت تغزو بعض دواوين العشائر”. 

ويذكر أن شيوخ عشائر يتقاسمون الأموال التي يتحصلون عليها من الفصول العشائرية أو حالات الابتزاز، وتختلف حصة الشيخ حسب قيمة الفصل: “إذا كان الفصل بـ 30 مليوناً، تكون حصة الشيخ ما بين 7-10 ملايين دينار، وإذا كان الفصل 10 ملايين تكون حصة الشيخ مليونين ونصف المليون.. المبلغ يحدد حسب قيمة الفصل”. 

ممارسات عشائريّة مخالفة للشريعة

في الكثير من القضايا، بخاصة تلك التي ترتبط بدية الدم، وإن كان السبب حوادث غير مقصودة، تفرض العشائر استناداً إلى تقاليدها، مبالغ مالية، تكون في بعض الأحيان كبيرة، في مخالفة للشريعة الإسلامية التي تؤمن بها العشائر في العراق.

محروس العتابي، طالب في الحوزة العلمية بالنجف، يربط بين ما يسميه “صلاح المجتمع مما هو فيه” والالتزام بــ”بنود الدين الحنيف”، مبيناً أن “ممارسات بعض العشائر لا تتماشى مع الدين الحنيف وتتقاطع مع مبادئه”.  

وتحسم المنازعات العشائرية ومبالغ الديات وفقاً لقوانين عرفية تضم مجموعة من الأحكام والتقاليد والقرارات المتوارثة والمتفق بشأنها بين العشائر، إلا أن الملاحظ هو قيام بعض العشائر، خصوصاً في محافظات وسط العراقي وجنوبه، مثل ميسان والبصرة وبغداد، بفرض مبالغ مرتفعة في الديات العشائرية من دون الالتزام ببنود السنينة العشائرية، الأمر الذي يدفع الى مزيد من الخلافات ويتطلب تفاوضاً بين العشائر المتصارعة حول تقليل قيمة تلك المبالغ. 

ويعبر العتابي عن أسفه لما أفضت إليه الممارسات العشائرية من خوف في نفوس المواطنين في مد العون لبعضهم، “فبرزت ظاهرة ترك إسعاف الطريح على الطريق لتجنب المشاكل العشائرية، وبالتالي قطع سبيل المعروف”. ويؤكد اطلاعه على تجارب أشخاص آخرين قال إنهم “تكبدوا ديات عشائرية بسبب حالات كهذه”.

ويدعو رجل الدين المجتمع الى وضع حد لهذه الحالات، “ليس من حق أحد المطالبة بأكثر من الدية الشرعية التي حددها الإسلام في حالات القتل العمد، بـ 5250 مثقالاً من الفضة وتدفع حسب قيمتها في السوق لذوي المجنى عليه”.

وثيقة شرف

وزارة الداخلية العراقية وقعت مع شيوخ العشائر في شهر أيار/مايو 2023، خلال ورشة عمل مكثفة في قيادة الشرطة الاتحادية ببغداد، وثيقة شرف ضامنة لما وصفته بحقوق الجميع، وتمثل دستوراً لدور العشائر، وثيقة يراها ياسر الحسيني، عضو لجنة العشائر النيابية، “كفيلة بدعم السلم المجتمعي وسحب يد المتطفّلين عن سنن العشائر”. 

وفيما يقر النائب حقيقة أن بعض السنن العشائرية شوهت الأعراف الاجتماعية الأصيلة، يطالب بسرعة تشريع قانون ينظم عمل العشائر “سيكون كفيلاً في أن تعيش الأسر العراقية بأمان وسلام”، وفقاً لما يراه.

وسبق لمرجعية النجف انتقادها في العام 2019، بعض السلوكيات العشائرية التي تتضمن أخذ مبالغ وصفتها بالـ “مجحفة” تحت مسمى” الدية”، لقاء مصالحة بين شخصين تشاجرا مع بعض، ونوهت الى أن هذه المبالغ في غالبيتها “مبالغ فيها”.

وأشارت المرجعية إلى تدخلها في نبذ الأعراف الدخيلة على العشائر، خصوصاً تلك التي لا تمت الى القانون والشرع بصلة، “وعليه فلا بد من تأطير هذا الملف بطابع قانوني عبر مشروع قانون السلم المجتمعي، الذي ما زلنا ننتظر إرساله من مجلس الوزراء”، هذا ما ورد عن المرجعية وتناقلته وسائل الإعلام العراقية.

من جهته، يرجع رئيس رابطة العشائر العراقية لحل النزاعات محمد الجابري، استفحال تلك الظواهر التي وصفها بالمرفوضة، إلى ضعف المؤسسات الحكومية في تطبيق القانون وتعطيل الكثير من المواد بشكل متعمد في بعض الأحيان، على حد قوله. ويتابع: “ما يؤخذ على الدولة، هو سكوتها عن انتشار السلاح بنحو لافت، في حين أن هذه الأسلحة تستخدم في المنازعات”.

يحمّل الجابري أحزاباً سياسية (لم يسمها) مسؤولية تصاعد مثل تلك الممارسات واتهمها “بلعب أدوار مشبوهة من خلال دعمها هذا الشيخ أو ذاك”، مشيراً الى أن غالبية شيوخ القبائل هم دعاة سلام وصلح اجتماعي، “وما يدور الآن في المجتمع من أعراف وسنن بعيدة كل البعد عن العشائر الأصيلة”.

وليس بعيداً مما يقوله الجابري، يعتقد الخبير القانوني أمير الدعمي، أن ضعف مؤسسات الدولة في تطبيق القانون هو من تسبب باستفحال الظاهرة، التي يتخذها البعض مهنة له للاستفادة المادية، ويضيف:”هذه الممارسات باتت تشكل خطراً على الدولة ومؤسساتها”. 

ويشير إلى أن المادة 45 من الدستور العراقي “واضحة وصريحة في دعم الدولة لجهود العشائر النبيلة ورفض كل الأعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الإنسان، لكن للأسف ما يحصل اليوم هو إخلال لما جاء في الدستور”.

15 ملياراً لشراء السلاح المتفلت!

مع تفاقم ظاهرة سلاح العشائر والتدخل في نزاعات وخلافات الأفراد لحسمها بعيداً من القانون، تبنت وزارة الداخلية بمشاركة شيوخ العشائر، مشروع قانون السلم المجتمعي، الذي يتضمن مبادئ تقوم على “حصر السلاح بيد الدولة وعدم الاعتداء على الموظفين وعدم إطلاق العيارات النارية ومكافحة المخدرات والعمل على تهذيب الأعراف العشائرية المتوارثة وتصحيح مسار العرف العشائري”.

وفي خطوة للسيطرة على السلاح الذي يوصف دائماً، من كبار المسؤولين بالمنفلت، قرر مجلس الوزراء في 23 كانون الثاني 2024، تخصيص مبلغ 15 مليار دينار لشراء الأسلحة من المواطنين.

وجاء في بيان للمكتب الإعلامي في رئاسة الوزراء، أن “المجلس صوّت على تخصيص وزارة المالية مبلغ مليار دينار لكل محافظة، عدا محافظات إقليم كردستان العراق، أي ما مجموعه 15 مليار دينار، من احتياطي الطوارئ، استناداً إلى أحكام قانون الموازنة العامة، للمباشرة في شراء الأسلحة من المواطنين، تنفيذاً للبرنامج الحكومي، والمرحلة الأولى من السياسة الوطنية لتنظيم الأسلحة وحصرها بيد الدولة- مرحلة تسجيل أسلحة المواطنين”.

الهدف من التشريع كما يقول مدير عام شؤون العشائر في وزارة الداخلية اللواء ناصر النوري، هو “محاربة الأعراف العشائرية الجديدة التي تتقاطع مع أعراف المجتمع، وتهذيبها، والحفاظ على الموروث الاجتماعي والتاريخي”، منوهاً الى إصدار الداخلية “تعليمات مشددة لحماية حصانة الضباط والمنتسبين، والحيلولة دون زجهم بقضايا عشائرية جراء ما يقومون به من خدمة مجتمعية”.

النوري أكد تصاعد “تهجير العائلات بسبب جرائم القتل وتحوّلها الى ظاهرة خطيرة”، وقال إن الوزارة تعمل على محاربتها مع شيوخ العشائر، متهماً بعض العشائر بمحاولة تشويه الأعراف من خلال “ابتزازها الآخرين عبر الفصول العشائرية”.

وكشف النوري عن العمل على توحيد “السنائن التي تختلف من محافظة إلى أخرى”، وأثنى على جهود شيوخ العشائر التي “ساهمت في استقرار البلاد ودعم العملية السياسية واستباب الأمن” على حد قوله.

ويستدرك: “في الوقت نفسه، نراقب دخلاء المشيخة الذين يحاولون زعزعة الوضع الأمني وتفكيك النسيج الاجتماعي، ولدينا معلومات عن تورط غالبيتهم في تجارة المخدرات والسلاح”، مشدداً على أن أي شيخ يتجاوز القانون سيحاسب وفق القانون.

وأردف: “نحن في مديرية شؤون العشائر، لدينا تواصل مع 280 شيخاً عاماً في العراق مسجلين رسمياً حسب الموروث التاريخي والاجتماعي وحسب عمود النسب، وخلاف ذلك هم دخلاء وشيوخ وهميون لا قيمة لهم”.

بكثير من الحزن، يورد علي الفريجي (60 سنة)، وهو موظف زراعي من غرب العاصمة بغداد، قصة الخلاف المالي الذي دخل أولاد عمومته فيه مع أشخاص آخرين، وتطور إلى مشاجرة أفضت إلى مقتل أحد خصومهم، وتحول الأمر الى نزاع عشائري، فتدخلت عشيرة الضحية وأصدرت حكماً بالجلوة، أجبر وفقاً له أبناء عمومة علي وكل أقاربه، على الانتقال إلى منطقة أخرى وبدء حياة جديدة هناك.

يقول علي، الذي أمضى عمره محاولاً تجنب الدخول في ممارسات العشائر: “لا علاقة لي، لا من قريب أو بعيد بما حدث بينهم، لكن كان علي تنفيذ الحكم العشائري والانتقال مع أبناء عمومتي، وتقبل تغيير كامل في حياتي، حتى أنني ساهمت في مبلغ الدية”.

ويرى أن تلك الممارسات فوضوية وتنتمي الى ما قبل تشكيل الدولة، وغير ضرورية في ظل وجود القانون: “لا يمكن أن تمضي سفينة بربانين، لذلك الأوضاع تتدهور… هنالك قانون للدولة وآخر للعشائر، ونحن لا نعرف لأيهما يجب أن نخضع؟”.

أنجز التقرير بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية. 

جلبير الأشقر - كاتب وأكاديمي لبناني | 06.05.2024

بحجة “اللاساميّة” تترافق إبادة شعب فلسطين مع محاولة إبادة قضيّته 

ظهور حركة جماهيرية متعاطفة مع القضية الفلسطينية في الغرب، لا سيما في عقر دار القوة العظمى التي لولاها لما كانت الدولة الصهيونية قادرة على خوض حرب الإبادة الراهنة، يشكّل تطوراً مقلقاً للغاية في نظر اللوبي المؤيد لإسرائيل.