fbpx

أنطولوجيا “أنا هنا” الشعريّة… جنود إسرائيليون شعراءٌ على جبهة الإبادة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

السؤال حول أنطولوجيا “أنا هنا” التي تحوي قصائد لجنود إسرائيليين على الجبهة، سياسيّ بحت، لا علاقة له بالشعر أو المخيلة الشعرية، بل بصورة الجنديّ الإسرائيلي، وطبيعة الحرب ضد “حماس”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقالاً عن الأنطولوجيا الشعرية “أنا هنا”، التي ينشرها الجناح التعليمي في الجيش الإسرائيلي، وتشمل قصائد لجنود وآخرين من الاحتياط يقاتلون في غزة. 

جُمعت الأنطولوجيا تحت إشراف الشاعر إلياز كوهين، الذي يُوصف بـ”فنان-مستوطن”، ويدعو منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر إلى إقامة مخيم للاجئين جنوب غزّة، بينما ينهي الجيش “العملية العسكريّة”.

اقتراح كوهين ينطلق حسب قوله من تحلّيه بأخلاق إبراهيم، الذي دعا إلى الحفاظ على حياة الأبرياء، وناقش الرب حين أراد الأخير تدمير “سدوم”، لكن كلمة الربّ أقوى كما تقول الحكاية التوراتيّة، إذ نقرأ في سفر التكوين: “وَمَضَى إِبْرَاهِيمُ مُبَكِّراً فِي الصَّبَاحِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ أَمَامَ الرَّبِّ. وَتَطَلَّعَ نَحْوَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَلِسَائِرِ أَرْضِ السَّهْلِ، فَأَبْصَرَ الدُّخَانَ يَتَصَاعَدُ مِنْهَا كَالأَتُونِ”.

بعد إطلاق الدعوة لتلقّي القصائد بالتعاون مع جمعية” استعادة الروح”، وصلت مئات المشاركات. وبسبب الكم الكبير، صدرت أجزاء عدة من الأنطولوجيا، أولها بعد عشرة أيام من صدور دعوة المشاركة في 9 تشرين الأول. 

أثار الجزء الثامن من الأنطولوجيا لغطاً، وسُحبت نسخه وأعيدت طباعتها مع حذف بعض القصائد، كونها “لا تمثل أخلاق الجيش الإسرائيلي”، لما تحويه من “دعوة إلى الانتقام”.

أزمة “أنفاق القدر” 

سُيّس شأن الأنطولوجيا الشعرية بصورة كبيرة في إسرائيل، كونها صادرة رسمياً عن الجيش الذي “تعامل مع الأمر”، وربما يرتبط سحب النسخ بـ”الحد من التحريض على الإبادة” الذي من المفترض أن السلطة الإسرائيلية تلتزم به بعد قرار محكمة العدل الدوليّة، أو خوف من تطبيع “ثقافة الانتقام”، التي اكتشفنا أن الجيش الإسرائيلي لا يُمانع في انتشارها بل يحبّذها بعد تأكيد أن قنوات التلغرام التي تبث صور الغزيين عُراة مذلولين كانت بإشرافه.

القصيدة التي أثارت المشكلة في الجزء الثامن تحمل عنوان “أنفاق القدر”، كتبها الرقيب الأول في الاحتياط، ماشير شاز، والتي لم تقتبس هآرتس منها المقاطع المحذوفة، واكتفت بأخرى أقل “انتقاماً”.

 وجدنا ترجمة للقصيدة قبل أن تُحذف منها الأبيات “المسيئة” منشورة على حساب @ireallyhateyou بالإنكليزيّة، لا بد من الإشارة إلى أن المُترجم نوّه إلى اللعب على التشابه بين لفظتي “الله أكبر” و “الله فأر” باللغة العبرية، وهنا ترجمة مرتجلة إلى العربيّة:

كما تقولون

هذا الله الذي باسمه تذبحون هو فأر

فأر كبير، فأر عظيم،

فأر يركض نحو حفرة في الطين

رمحٌ،

رمحٌ، يدقّ في الطرق تحت الأرض،

الأرض التي تعبرها الشاحنات 

وتُحيي اسم الفأر الذي يُهربون باسمه السلاح

رمحٌ، لطعنِ القتلة

“قوات النخبة” في الحفر، 

في معبد الفأر الكبير ذي الذهب والبواسير

الذي اختار أن يكون اسمه في قبر من جحيم.

يُعلق مترجم القصيدة أن “الفأر الكبير ذا الذهب” إشارة إلى الإله المزيف المشابه للبقرة الذهبية، ولسنا هنا للتعليق على قيمة القصيدة الشعريّة، كوننا أمام ترجمات متسرعة (العربية والإنكليزيّة)، وقصيدة نتاج ورشة عمل واحدة، لجندي أعمته الأيديولوجيا الوطنيّة والدينيّة.

 الأمر ذاته مع قصيدة “غزة تنتظرنا” للجنديّ بيري حايم شوارتزمان، الذي كتب: “رسول نار آخر/ على جدرانك غزّة/ سيقال الكثير/ عن كل آثارك/ لكن رأس كل طفل سيكسر على حجر”.

أشارت هآرتس إلى حذف الأبيات التي تحمل إحالات دينيّة يهوديّة، وأخرى تهين الدين الإسلاميّ، خصوصاً الأبيات التي تشير إلى عملية “السيوف الحديديّة” (الاسم الذي أطلقه الجيش الإسرائيلي على الحرب التي تشنها على حماس) بوصفها حرباً دينيّة، علماً أن مقدمة الكتيب الأول أشارت إلى أن الهدف من الأنطولوجيا هو “تجديد التزامنا (الجيش الإسرائيليّ) بقيم الإيمان وعدالة طريقنا”.

هل من براءة للمخيّلة؟

نصوص الجنود ليست بالنوع الأدبي الجديد، فقد نُشر عام 2022 للودفيج فيتغنشتاين (1889-1951)، كتاب يحوي نصوصاً ألّفها حين كان على خط الجبهة في الحرب العالميّة الأولى بين عامي 1914- 1916، نصوص ذاتية تتحرك بين الشعر والسخرية والتأملات والنصائح، التي يقول في أحدها إن سبيل النجاة أثناء الجيش هو قراءة ليو تولستوي والاستمناء.

مثال الفيلسوف الألماني فيتغنشتاين ربما مبالغ فيه، لكن الجندي مسموح له بحمل السلاح، وهذا ما يميّزه عن المدنيين. لكن، لننسى صاحب “تحقيقات فلسفيّة”، هناك قصائد لجنود سوريين على الجبهة، لا نعلم بدقة مصدرها، جاء في إحداها: “ولو زادت القسوة نعاهد الأسد بشار… نكون الألغام والقنابل البشرية”، وهناك أيضاً شعر الجهاديين، كأن نقرأ قصيدة في رثاء أبو محمد العدناني، أحد الناطقين باسم داعش، جاء فيها: “لكننا سنبيدهم يا فارسا/ نعلي لُبن صرحنا الإيماني”.

قيمة الشعر هنا عاطفيّة أكثر منها جماليّة، الأيديولوجيا فيه واضحة جداً، ومن الصعب تجاهلها لأن يشار إليها في القصيدة نفسها، لكن (نظرياً) كلمة “شعر” تحمي النص كوننا أمام “مُخيلّة”، مهما كانت أيديولوجيّة، والمخيّلة لا قيد عليها.

 نقرأ في سلسلة محاضرات “صنعة الشعر” لبورخيس، أن الشعر “عاطفة ومتعة”، وأيضاً يجب على القارئ أن يتمتع بمهارة “إدراك الاستعارة”، لكن كيف يمكن تطبيق ذلك ونحن أمام نصوص نعرف بدقة أسلوب ولادتها وما تشير إليه؟

تعليق “إدراك الاستعارة” والتعامل مع المكتوب كـ”حقيقة”، يهدد قراءة “كلّ” الشعر ويجعله “خطاباً”. لا ندافع هنا عمّن يحمل السلاح ويقتل، بل عن لفظة شعر “كعلامة تجنيس، صحيح قد تكون أيديولوجيّة وجزءاً من خطاب، لكن، وهذا الأهم، هل يصحّ التسليم بـ”حقيقتها”، أي التصديق بأن يتطابق لفظ “القتل” في القصيدة (مهما كانت سيئة) مع القتل على أرض الواقع؟

مخيّلة الجندي الإشكاليّة

السؤال حول الأنطولوجيا سياسيّ بحت، لا علاقة له بالشعر أو المخيلة الشعرية، بل بصورة الجنديّ الإسرائيلي، لكن أمام من؟ الأنطولوجيا نُشرت بالعبرية، ووُزعت داخل إسرائيل، أي جمهورها محدّد ومعروف، وأيضاً من سيقرأ شعراً مبتذلاً ذا قيمة متدنية كتبه لجنود متشددين يحتفون بالقتل؟ 

الواضح أن المشكلة إذاً تكمن في “عقيدة الجيش” و”صورة الجندي”، تلك التي تشير هآرتس إلى كونها تحولت إلى شأن فيتيشي على تطبيقات المواعدة.

الإشكالية ليست في النص الشعري و”الاستعارات” بل بشخص الجندي نفسه، بوصفه التجلي المادي لسلطة الدولة العسكرية، ويمتلك على الجبهة وإصبعه على الزناد، قرار الموت والحياة. نتيجة هذه الوضعية، يُفترض أن “مخيلة الجندي الشعريّة” تمتلك قيمة أدائيّة، أي أنه يمتلك “سلطة” تطبيق ما يقوله على أرض الواقع.

الجندي أيضاً ليس فقط فرداً ومواطناً ومُطيعاً للأوامر، يتحمل نتائج أعماله وحده، حمل السلاح (خياراً أو إجباراً)  يرتبط بسلطة الدولة نفسها، وربما حين نكون أمام فعل القتل، يتحول الكلام من “شعر” إلى “تنويه لفعل ما”، بالتالي، لا تعود الاستعارة استعارة، بل تصبح وعداً مستقبلياً.

لا نعلم بدقة متى يُتخذ قرار قراءة الشعر كاستعارة أو كوصف للواقع، سواء كنا نتحدث عن قتل فردي أو إبادة جماعيّة، بصورة أخرى، متى تفقد علامة التجنيس “شعر” و مفهوم “الاستعارة” سلطتهما التخيليّة لتتحولا إلى “واقع”؟، وهنا السؤال الدقيق، أن تكون مقاتلاً، وتصف القتل الذي ارتكبته، هل يعتبر “نصّك” دليل إدانة؟ 

يفسر أحد الضباط الذين التقت بهم هآرتس سبب حذف القصائد، برفض رسم “صورة الحرب على غزة كحرب دينيّة”، لكن، في الوقت ذاته، قال نتانياهو نفسه إن الجنود الذين يقاتلون في غزة من سلالة الجندي يوشع بن نون، الذي حسب الأسطورة، أوقف الشمس عن المغيب يوم الجمعة، للوصول إلى القدس.

“الشعر كشاهد على المجزرة”

يضرب في حالة الشعر وعلاقته مع الجريمة والإدانة مثال الصربي “والشاعر” والمدان بجرائم ضد الإنسانيّة، رادوفان كاراديتش، الذي وقف إلى جانب الشاعر الروسي إدوارد ليمونوف على تلّة “تيربيفيك” المطلة على سراييفو وألقى الشعر.

 تحدث كاراديتش حينها وأصوات الرصاص من خلفه عن قصيدة كتبها عام 1971، يقول في أحد مقاطعها، “أسمعُ المصيبة تمشي/ المدينة تحترق/ وفي الدخان فوقها يحضر ضميرنا”.

 القصيدة اسمها “سراييفو”، ويقول كارديتش إنه كان يتنبأ بالحرب حين كتبها، وإن شعره في تلك الفترة كان ينضح بالعنف والقتل ومفردات الحرب، بعد الانتهاء من القصيدة، يطلق هو وليمونوف النار من أعلى التلّة على بيوت المدنيين في سراييفو.

نقرأ لكارديتش أيضاً: “هي فرصة عظيمة/ أن أتخلى لمرة واحدة عن كل ما عرفته في حياتي/ وأرمي قنبلة يدويّة/ محشوة بضحكات رجل وحيد ذي سحنة داكنة”. 

إشكالية كارديتش والجنود الإسرائيليين “الشعراء”، تندرج تحت ما يصفه الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، بـ”متلازمة الشاعر-المحارب”، التي أشار إليها عام 2005 المحامي والباحث جاي سوردوكوفسكي في مجلة “ميتشيغان” للقانون الدوليّ ضمن بحث بعنوان “هل الشعر جريمة حرب!”.

 يناقش سوردوكوفسكي حالة كارديتش كـ” شاعر محارب”، ومدى إمكانيّة استخدام شعره كدليل قانونيّ في محكمة الجنايات، لإثبات جرائم “ارتكاب المجازر” و”النية بارتكاب المجازر” و”الضلوع في ارتكاب مجزرة”. 

يقترح سوردوكوفسكي أن الشعر يصلح كدليل أو قرينة، فشروط قبول الدليل في محكمة الجنايات الدوليّة مفتوحة على الكثير من الاحتمالات، منها: “أي شكلٍ من الكلمات أو الأفعال التي يمكن أن تعبّر عن نمط من الأفعال ذات هدف محدد”، لكن لم نجد حالة استخدم فيها “الشعر” كدليل في المحاكم الدولية أو المحليّة.

هل “الشعر” علامة على التشدّد الديني؟

ما يتم تفاديه في الحديث عن الجنود هو مفهوم التشدد الديني، سواء كانوا إسرائيليين أو غيرهم، على الرغم من أن الصور والاقتباسات (وهذه المرة القصائد) تفضح ذلك، فأن يكون الجنود متشددين دينياً يعني أن الحرب مقدسة، على الأقل من وجهة نظرهم، ما يتنافى مع مفهوم الدولة العلمانية! 

 يمكن أيضاً ربط “الرقابة” على الأنطولوجيا بمحاولة تجنيد اليهود المتشددين المعفيين من الخدمة العسكرية الإلزامية، لتكون الأنطولوجيا نوعاً من التنبيه: تجنيد المتشددين يعني أن الجيش الإسرائيليّ قد يتحول إلى جيش عقائديّ يحقق نبوءات دينيّة لا “جيش دفاع”!

تفادي وصف المؤسسة العسكريّة بـ”التشدد الديني”، محاولة تبرئة الجنود من السير على درب النبوءات التوراتيّة، وسعي أيضاً الى جعل الجيش الإسرائيليّ مختلفاً عن “أعدائه” الجماعات المتشددة والأنظمة القمعية التي تستعين بالميليشيات الدينيّة، وهذا بالضبط ما قاله أحد القائمين على وحدة تعليم الجيش الإسرائيلي، الذي يرى أن إشكالية الأنطولوجيا هي أنها ظهرت فيما تخوض إسرائيل حرباً ضد  “جماعة إسلامية متشددة”.

تحويل الحرب إلى “مقدّسة” يُهدد الداخل الإسرائيلي نفسه والصراع بين التيارين “العلماني” و”المتشدد”، فأن يكون الجيش “عقائدياً”، يعني أن مهمة الجيش هي حماية المتشددين ونمط حياتهم، لا المواطنين الخاضعين للخدمة الإلزامية، والأهم، يعني أن “الحرب” لن تنتهي بالقضاء على حماس، بل تحقيق نبوءة لا نعلم بدقة حدودها.