fbpx

ما معنى ألا تعتاد المشهد؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مشهدٌ جديد لا نريد تصديق أنه حصل على مرأى العالم، ولا نريد اعتياده، لكننا سنفعل، غداً أو بعد غد، وستظل المشاهد التي لا نريد اعتيادها تُبث إلينا عبر الشاشات، وسنظل عاجزين أمامها، وهذه هي الحقيقة الوحيدة في هذا العالم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قرأت هذه العبارة للمرة الأولى بعد أسبوع تقريباً من الحرب الإسرائيلية على غزة، تداولها كثيرون وشددوا عليها، لوحدها أو معلقةً على صور موتٍ مفجع، وجه طفل مدمى أو رجل يبكي ركام منزله وعائلته التي ظلت هناك، من دون أن تسعفه يداه على استخراج ما تبقى من أجساد أفرادها. حينها، كان الموت واحداً، كثيفاً، مئات يموتون تحت وطأة القصف اليومي، وحصيلة الضحايا تزداد خانةً بين الساعة والأخرى، وكل الأماكن هناك أهداف مشروعة، والمشاهد التي تبثّها الشاشات أثقل من أن يستوعبها العقل البشري، والجميع في الشوارع غاضبون، ولم تكن هناك احتمالية لأن نعتاد المشهد.

حتى تلك اللحظة، كان لدي هذا الاعتقاد الساذج بأن الحرب لا يمكن أن تستمرّ لأكثر من أسابيع قليلة، كغيرها من حروب غزة التي شاهدناها أو قرأنا عنها. صدّقت لفترةٍ وجيزة أن العالم لن يترك غزة لهذا الموت كله، وأن ثمة من هو قادرٌ على وضع حد لهذه الوحشية، وأن هذا الغضب العربي والعالمي كله سيثمر في النهاية، ستنتهي الحرب، سنحصي خسائرها المدوّية، وسنبكي الراحلين، ونمضي، كما اعتدنا أن نفعل في كل الفواجع التي شهدناه، والتي لم نكن فيها أكثر من متفرّجين، لا نمتلك سوى الغضب والحزن والشعور بالآخرين، الآخرين الذين يدفعون هم ثمن هذه الفواجع، بينما نجلس نحن في منازلنا، نتابع أخبارهم ونكتب عنهم ونفكر بهم، ونصرخ لأجلهم، فقط لا غير.

هذا الاعتقاد الساذج تبخّر صبيحة اليوم التالي لاستهداف مستشفى المعمداني، يومها غضب العالم كما لم يسبق له: إسرائيل قصفت مستشفى مكتظاً بالنازحين والجرحى والطواقم الطبية، وقتلت المئات منهم. لم يكن ثمة أفظع من هذه العبارة، ولم يكن هناك أفجع من هذا الموت.

في تلك الليلة تجمهرنا، كجماهير، في الشوارع، أمام السفارات، أمام القنصليات، أمام مراكز المعنيين، مَن ننتظر مِنهم أن يكونوا أكثر من متفرّجين، وأن يترجموا غضبنا إلى أفعال حقيقية، ما دمنا نحن لا نستطيع ذلك. لكن شيئاً لم يتغير، عاد الجميع إلى منازلهم، استمرت الحرب، هكذا، كأن شيئاً لم يكن، وعلى مرأى من عيون العالم أسره، كذبت إسرائيل واستمرت في قتلها الفلسطينيين من دون هوادة، واعتدنا المشهد، من دون أن نعتَدْه حقاً، واستبدلنا العبارة بأخرى: “هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟”.

تلك كانت ذروة الحرب عندي، وكل ما حدث بعد تلك الليلة وتلك الجريمة لم يعد غريباً. إسرائيل فعلت هذا والعالم لم يحرك ساكناً، ولن يحرك، وهذا الغضب والصراخ كله تحوّل إلى رمادٍ ابتلعته سحب السماء. ومع إيماني الشديد والواضح بأنه لا ينبغي على العالم أن يتوقف عن فعل ما يفعله، إلا أنني أخذت حينها قراري بالتوقف عن المشاركة في أي احتجاج، لأنني أردت الاحتفاظ بهذا الغضب، أردته أن يصير جزءاً مني، كاملاً مكملاً، لا يبدده صراخ في الشوارع ولا منشور على مواقع التواصل الاجتماعي.

بعد يومين من استهداف “المعمداني” ماتت مريم مع عائلتها، الفتاة الوحيدة التي أعرفها في غزة، الاسم الوحيد الذي أميّزه، والذي يربطني به أكثر من التعاطف الإنساني البديهي. ماتت مريم فتحوّل غضبي إلى حزنٍ، راكمه موت الغرباء الذين لا أعرفهم، وجراح من لا يمتلكون ضمادةً، والبكاء الخافت للأطفال المعذبين، وعجز الأمهات عن إطعامهم. منذ تلك اللحظة وكل أشكال الموت التي صارت كثيرةً ومتعددةً أصبحت متشابهة عندي، لكنها تبعث لدي الشعور نفسه، الشعور بالحزن العميق والعجز أمامه، الشعور الذي بلغ أوجه عند مقتل زميلتي فرح في جنوب لبنان أثناء تغطيتها الاشتباكات، الوجه الآخر الذي أعرفه وأميزه، وأحبه، وشعرت في تلك اللحظة أننا أصبحنا جزءاً من المشهد، لا المشهد الكامل، إنما مشهد العجز أمام الموت المجحف، وإن اختلفت أشكاله، وإن كان بوتيرةٍ أقل، وأن علينا أن نعيش كل يومٍ بيومه، تارةً نكون المتفرجين، وطوراً نكون نحن ومن نحب ضحايا محتملين.

هل اعتاد الغزيون المشهد؟

لم تعد صور ومشاهد الموت وحدها ما نراه من غزة، فهناك، على المقلب الآخر، بدأ الناس يتمسكون بما تبقى لديهم من حياة، عُلقت الفوانيس على الخيم البلاستيكية في شهر رمضان، وأقيمت حفلات زفاف خجولة، وحوّل الأطفال أسلاك الكهرباء إلى مراجيح مكشوفة لرصاص الاحتلال، وامتهن البعض السخرية اللاذعة من كل المآسي التي يعيشها، وصُنع شيءٌ من لا شيء، ولا شيء من هذا كله تشوبه شائبة، كل المشاهد حقيقية ومفهومة، هذا ما تركتموه لنا من حياةٍ وهكذا سنجابه ما فرضتموه علينا من موت.

كثيرةٌ كانت هذه الصور، ولكنها كانت أقل بكثير من صور الموت، ولعل أكثر مشهدٍ باستطاعته تلخيص هذه الصورة المتناقضة والعنيفة والحقيقية في آن، هو مشهد الشبان الأربعة العزّل الذين قتلتهم مسيرة إسرائيلية الواحد تلو الآخر، بينما كانوا يسيرون ليتفقدوا ما خلفته الحرب من خسائر. مات اثنان، فتابع الثالث طريقه، بخطوات متسارعة، لم يركض، لم يرفع يديه، مشى واثقاً وعارفاً ما ينتظره، وكذلك فعل الرابع، بخطوات متثاقلة، لكنها تحفظ الطريق عن ظهر قلب.

ما فائدة القيام بغير ذلك، ما دام قاتلك يعرف أنك أعزل، بريء، ومظلوم، ولكنه مصر على قتلك، وباستطاعته ذلك، فقد فعل ما هو أكثر من ذلك، ولم يهتز العالم، ولم يثنه أحدٌ عن فعل ما يفعله بك منذ أشهر وسنوات طويلة. وما دمت صرت ضحية محتملةً ولا مهرب من ذلك، وحدك من يحق لك اليوم أن تقرر كيف تعيش وكيف تموت، وبأي عين ستواجه هذه الحياة وهذا الموت.

ما دمت الضحية فليس لأحد عليكَ شيء، وبالطبع، ليس لهذا العالم الذي تركك وحيداً أن يقول كلمةً واحدةً في حق حياتك ومماتك، ولا يحق لنا، نحن الذين اعتدنا المشهد، أن نقول لمن هم في قلب المشهد، كيف يعتادونه وكيف يقاومونه وكيف يموتون فيه.

ما هو المشهد اليوم؟

بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من محيط مجمع الشفاء، ظهرت للعالم حقيقة ما حصل، دمارٌ هائل، حريقٌ في المساكن، جثث متحللة جرفتها الدبابات، أيادٍ ممتدة من تحت الركام، عيون ميتةٌ مفتوحة نحو سماء شهدت كل ما حصل ولم تسقط، أطباء وممرضون ومدنيون وأطفال، قتلتهم إسرائيل بوحشية.

مشهدٌ جديد لا نريد تصديق أنه حصل على مرأى العالم، ولا نريد اعتياده، لكننا سنفعل، غداً أو بعد غد، وستظل المشاهد التي لا نريد اعتيادها تُبث إلينا عبر الشاشات، وسنظل عاجزين أمامها، وهذه هي الحقيقة الوحيدة في هذا العالم.

العالم اليوم في أوضح صورة له، العالم الوحشي كما هو، أكثر من مليون ونصف مليون إنسان يتعرضون يومياُ لكل أشكال الموت والتعذيب والإساءة والتجويع، وملايين آخرون صادقون، غاضبون وحزينون، يناشدون ويطالبون ويكتبون ويتجمهرون في الشوارع ويعودون إلى منازلهم كل ليلةٍ بينما تستمر الحرب، جمعيات ومنظمات وجماعات وحكومات ورؤساء دول لا يمتلكون أكثر من الخطابات والشعارات والتصريحات وإلقاء المساعدات عبر مظلات جوية، وقرار شكلي عن مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، لم تلتزم فيه إسرائيل ولم يلزمها فيه أحد، وعالم بكامله واقفٌ يتفرج على إبادة شعب بكامله، على كارثة سيبقى أثرها على من عايشها لعقود من الزمن.

ما هو المشهد؟ لا أعرف حقاً، لكن ما أعرفه اليوم، أن المشهد فعلياً أكبر بكثير من أن نعتاده أو نفهمه أو نفعل شيئاً إزاءه، وأن كل ما نفعله اليوم، كأفراد متفرجين، هو وسيلتنا الأخيرة لكي لا تقتلنا الحرب، وكل أشكال الموت الأخرى أيضاً، وبالأحرى، لكي لا تقتل الحرب الإنسان الذي فينا، والذي هو بالطبع، لديه طريقته الفريدة في الحياة، واستقبال الموت، وطريقته في مقاومته، ورؤيته الخاصة للمشهد ومعنى اعتياده.

08.04.2024
زمن القراءة: 5 minutes

مشهدٌ جديد لا نريد تصديق أنه حصل على مرأى العالم، ولا نريد اعتياده، لكننا سنفعل، غداً أو بعد غد، وستظل المشاهد التي لا نريد اعتيادها تُبث إلينا عبر الشاشات، وسنظل عاجزين أمامها، وهذه هي الحقيقة الوحيدة في هذا العالم.

قرأت هذه العبارة للمرة الأولى بعد أسبوع تقريباً من الحرب الإسرائيلية على غزة، تداولها كثيرون وشددوا عليها، لوحدها أو معلقةً على صور موتٍ مفجع، وجه طفل مدمى أو رجل يبكي ركام منزله وعائلته التي ظلت هناك، من دون أن تسعفه يداه على استخراج ما تبقى من أجساد أفرادها. حينها، كان الموت واحداً، كثيفاً، مئات يموتون تحت وطأة القصف اليومي، وحصيلة الضحايا تزداد خانةً بين الساعة والأخرى، وكل الأماكن هناك أهداف مشروعة، والمشاهد التي تبثّها الشاشات أثقل من أن يستوعبها العقل البشري، والجميع في الشوارع غاضبون، ولم تكن هناك احتمالية لأن نعتاد المشهد.

حتى تلك اللحظة، كان لدي هذا الاعتقاد الساذج بأن الحرب لا يمكن أن تستمرّ لأكثر من أسابيع قليلة، كغيرها من حروب غزة التي شاهدناها أو قرأنا عنها. صدّقت لفترةٍ وجيزة أن العالم لن يترك غزة لهذا الموت كله، وأن ثمة من هو قادرٌ على وضع حد لهذه الوحشية، وأن هذا الغضب العربي والعالمي كله سيثمر في النهاية، ستنتهي الحرب، سنحصي خسائرها المدوّية، وسنبكي الراحلين، ونمضي، كما اعتدنا أن نفعل في كل الفواجع التي شهدناه، والتي لم نكن فيها أكثر من متفرّجين، لا نمتلك سوى الغضب والحزن والشعور بالآخرين، الآخرين الذين يدفعون هم ثمن هذه الفواجع، بينما نجلس نحن في منازلنا، نتابع أخبارهم ونكتب عنهم ونفكر بهم، ونصرخ لأجلهم، فقط لا غير.

هذا الاعتقاد الساذج تبخّر صبيحة اليوم التالي لاستهداف مستشفى المعمداني، يومها غضب العالم كما لم يسبق له: إسرائيل قصفت مستشفى مكتظاً بالنازحين والجرحى والطواقم الطبية، وقتلت المئات منهم. لم يكن ثمة أفظع من هذه العبارة، ولم يكن هناك أفجع من هذا الموت.

في تلك الليلة تجمهرنا، كجماهير، في الشوارع، أمام السفارات، أمام القنصليات، أمام مراكز المعنيين، مَن ننتظر مِنهم أن يكونوا أكثر من متفرّجين، وأن يترجموا غضبنا إلى أفعال حقيقية، ما دمنا نحن لا نستطيع ذلك. لكن شيئاً لم يتغير، عاد الجميع إلى منازلهم، استمرت الحرب، هكذا، كأن شيئاً لم يكن، وعلى مرأى من عيون العالم أسره، كذبت إسرائيل واستمرت في قتلها الفلسطينيين من دون هوادة، واعتدنا المشهد، من دون أن نعتَدْه حقاً، واستبدلنا العبارة بأخرى: “هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟”.

تلك كانت ذروة الحرب عندي، وكل ما حدث بعد تلك الليلة وتلك الجريمة لم يعد غريباً. إسرائيل فعلت هذا والعالم لم يحرك ساكناً، ولن يحرك، وهذا الغضب والصراخ كله تحوّل إلى رمادٍ ابتلعته سحب السماء. ومع إيماني الشديد والواضح بأنه لا ينبغي على العالم أن يتوقف عن فعل ما يفعله، إلا أنني أخذت حينها قراري بالتوقف عن المشاركة في أي احتجاج، لأنني أردت الاحتفاظ بهذا الغضب، أردته أن يصير جزءاً مني، كاملاً مكملاً، لا يبدده صراخ في الشوارع ولا منشور على مواقع التواصل الاجتماعي.

بعد يومين من استهداف “المعمداني” ماتت مريم مع عائلتها، الفتاة الوحيدة التي أعرفها في غزة، الاسم الوحيد الذي أميّزه، والذي يربطني به أكثر من التعاطف الإنساني البديهي. ماتت مريم فتحوّل غضبي إلى حزنٍ، راكمه موت الغرباء الذين لا أعرفهم، وجراح من لا يمتلكون ضمادةً، والبكاء الخافت للأطفال المعذبين، وعجز الأمهات عن إطعامهم. منذ تلك اللحظة وكل أشكال الموت التي صارت كثيرةً ومتعددةً أصبحت متشابهة عندي، لكنها تبعث لدي الشعور نفسه، الشعور بالحزن العميق والعجز أمامه، الشعور الذي بلغ أوجه عند مقتل زميلتي فرح في جنوب لبنان أثناء تغطيتها الاشتباكات، الوجه الآخر الذي أعرفه وأميزه، وأحبه، وشعرت في تلك اللحظة أننا أصبحنا جزءاً من المشهد، لا المشهد الكامل، إنما مشهد العجز أمام الموت المجحف، وإن اختلفت أشكاله، وإن كان بوتيرةٍ أقل، وأن علينا أن نعيش كل يومٍ بيومه، تارةً نكون المتفرجين، وطوراً نكون نحن ومن نحب ضحايا محتملين.

هل اعتاد الغزيون المشهد؟

لم تعد صور ومشاهد الموت وحدها ما نراه من غزة، فهناك، على المقلب الآخر، بدأ الناس يتمسكون بما تبقى لديهم من حياة، عُلقت الفوانيس على الخيم البلاستيكية في شهر رمضان، وأقيمت حفلات زفاف خجولة، وحوّل الأطفال أسلاك الكهرباء إلى مراجيح مكشوفة لرصاص الاحتلال، وامتهن البعض السخرية اللاذعة من كل المآسي التي يعيشها، وصُنع شيءٌ من لا شيء، ولا شيء من هذا كله تشوبه شائبة، كل المشاهد حقيقية ومفهومة، هذا ما تركتموه لنا من حياةٍ وهكذا سنجابه ما فرضتموه علينا من موت.

كثيرةٌ كانت هذه الصور، ولكنها كانت أقل بكثير من صور الموت، ولعل أكثر مشهدٍ باستطاعته تلخيص هذه الصورة المتناقضة والعنيفة والحقيقية في آن، هو مشهد الشبان الأربعة العزّل الذين قتلتهم مسيرة إسرائيلية الواحد تلو الآخر، بينما كانوا يسيرون ليتفقدوا ما خلفته الحرب من خسائر. مات اثنان، فتابع الثالث طريقه، بخطوات متسارعة، لم يركض، لم يرفع يديه، مشى واثقاً وعارفاً ما ينتظره، وكذلك فعل الرابع، بخطوات متثاقلة، لكنها تحفظ الطريق عن ظهر قلب.

ما فائدة القيام بغير ذلك، ما دام قاتلك يعرف أنك أعزل، بريء، ومظلوم، ولكنه مصر على قتلك، وباستطاعته ذلك، فقد فعل ما هو أكثر من ذلك، ولم يهتز العالم، ولم يثنه أحدٌ عن فعل ما يفعله بك منذ أشهر وسنوات طويلة. وما دمت صرت ضحية محتملةً ولا مهرب من ذلك، وحدك من يحق لك اليوم أن تقرر كيف تعيش وكيف تموت، وبأي عين ستواجه هذه الحياة وهذا الموت.

ما دمت الضحية فليس لأحد عليكَ شيء، وبالطبع، ليس لهذا العالم الذي تركك وحيداً أن يقول كلمةً واحدةً في حق حياتك ومماتك، ولا يحق لنا، نحن الذين اعتدنا المشهد، أن نقول لمن هم في قلب المشهد، كيف يعتادونه وكيف يقاومونه وكيف يموتون فيه.

ما هو المشهد اليوم؟

بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من محيط مجمع الشفاء، ظهرت للعالم حقيقة ما حصل، دمارٌ هائل، حريقٌ في المساكن، جثث متحللة جرفتها الدبابات، أيادٍ ممتدة من تحت الركام، عيون ميتةٌ مفتوحة نحو سماء شهدت كل ما حصل ولم تسقط، أطباء وممرضون ومدنيون وأطفال، قتلتهم إسرائيل بوحشية.

مشهدٌ جديد لا نريد تصديق أنه حصل على مرأى العالم، ولا نريد اعتياده، لكننا سنفعل، غداً أو بعد غد، وستظل المشاهد التي لا نريد اعتيادها تُبث إلينا عبر الشاشات، وسنظل عاجزين أمامها، وهذه هي الحقيقة الوحيدة في هذا العالم.

العالم اليوم في أوضح صورة له، العالم الوحشي كما هو، أكثر من مليون ونصف مليون إنسان يتعرضون يومياُ لكل أشكال الموت والتعذيب والإساءة والتجويع، وملايين آخرون صادقون، غاضبون وحزينون، يناشدون ويطالبون ويكتبون ويتجمهرون في الشوارع ويعودون إلى منازلهم كل ليلةٍ بينما تستمر الحرب، جمعيات ومنظمات وجماعات وحكومات ورؤساء دول لا يمتلكون أكثر من الخطابات والشعارات والتصريحات وإلقاء المساعدات عبر مظلات جوية، وقرار شكلي عن مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، لم تلتزم فيه إسرائيل ولم يلزمها فيه أحد، وعالم بكامله واقفٌ يتفرج على إبادة شعب بكامله، على كارثة سيبقى أثرها على من عايشها لعقود من الزمن.

ما هو المشهد؟ لا أعرف حقاً، لكن ما أعرفه اليوم، أن المشهد فعلياً أكبر بكثير من أن نعتاده أو نفهمه أو نفعل شيئاً إزاءه، وأن كل ما نفعله اليوم، كأفراد متفرجين، هو وسيلتنا الأخيرة لكي لا تقتلنا الحرب، وكل أشكال الموت الأخرى أيضاً، وبالأحرى، لكي لا تقتل الحرب الإنسان الذي فينا، والذي هو بالطبع، لديه طريقته الفريدة في الحياة، واستقبال الموت، وطريقته في مقاومته، ورؤيته الخاصة للمشهد ومعنى اعتياده.

08.04.2024
زمن القراءة: 5 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية