fbpx

نازحو جنوب لبنان… والـ”تقية” المزدوجة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في غالبية إطلالات أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله على وقائع الحرب، تبدى موضوع نازحي القرى الحدودية عرضياً. وفيما يكثف نصرالله الحديث عن “المقاومة” ومقاتليها و(إنجازاتها) في إطلالات ارتبطت غالباً بسقوط قادة من صفوفها، أو بارتداداتها عليه وعلى إيران داخل سوريا، يدرج موضوع النازحين كهامش من هوامش الحرب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يكابد النزوح إلا من عايشه، ففي حرب تموز/يوليو العام 2006، حمل كاتب هذه السطور صفة “النازح”، كما أتيحت لي، أثناء تشييع مقاتلي “حزب الله”و”حركة أمل”في القرى الحدودية ، معايشة مباشرة لتوق نازحيها إليها.

يُشيَّع المقاتلون في هدنة ظرفية وزمنية محدّدة تسري على الحيّز الجغرافي لهم، وبالتنسيق بين إسرائيل وقوات “اليونيفيل”، وبين الأخيرة والجيش اللبناني والطرف الذي ينتمي إليه المقاتل.

 الأهم من مسألة التشييع هو أحد مآلاتها، وهو المناخ الآمن الذي يتيح لنازحي تلك القرى زيارة منازلهم، أو الوقوف على أطلالها لساعات، ثم العودة إلى النظر إليها من بعيد بانتظار تشييع آخر.

ما أتيح لي لأربع مرات من موقع المراقب، أتاح للنازحين وصلاً مؤقتاً مع مساقط رؤوسهم، وألفة منازلهم، والتي يظل النزوح عنها قاصراً عن تبديدها. وهذه عموماً أقسى مشقات النزوح.

يدخل هؤلاء “النازحون الجدد” شهرهم الثامن، وهم بعيدون عن قراهم وأرزاقهم التي بددت الحرب في غزة الكثير منها. وكل إطالة في أمدها هي تكثيف لمأساتهم، فيما خاتمتها لا تبدو على الأرجح بيد “حزب الله” الذي شارك في الحرب في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر العام 2023.

في غالبية إطلالات أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله على وقائع الحرب، تبدى موضوع نازحي القرى الحدودية عرضياً. وفيما يكثف نصرالله الحديث عن “المقاومة” ومقاتليها و(إنجازاتها) في إطلالات ارتبطت غالباً بسقوط قادة من صفوفها، أو بارتداداتها عليه وعلى إيران داخل سوريا، يدرج موضوع النازحين كهامش من هوامش الحرب، مع تكثيف الضوء على نازحي شمال إسرائيل كمؤشر من مؤشرات هزيمتها! مع يقينه بالتباين الهائل بين  الأوضاع الاجتماعية لنازحي شمال إسرائيل، وبين نازحي بيئته، أي الجنوب اللبنانيّ.

تقية نصر الله المزدوجة

“تقية” أمين عام “حزب الله” في ملامسة جوهر النزوح، واعتبار آثاره ضمناً في الوقائع  المخلّة بسردية النصر، أفضت إلى “تقية” أخرى تتواتر بحذر بين النازحين عن هذه الحرب، واتساع دائرة الشك في جدواها. هذا حال الكثير من  “مجالس الأمانات” التي تناقش انعكاس تلك الحرب على أوضاعهم الراهنة، ومباشرة التذمّر منها.

ومع بدايات النزوح، باشرت لجان مشكّلة من الحزب والبلديات، بإحصاء أعداد العوائل النازحة في القرى التي نزحوا إليها. وتم إيواء عدد لا بأس به  من هذه الأسر، مع تقديم مئة دولار أميركي كهبة من الحزب. 

لكن ما بدا أمراً متاحاً عند “حزب الله” في بدايات “حرب الإشغال”، تحوّل مع تمدد أمد الحرب، وتكثف النزوح، إلى عبء عليه، ودفعه إلى تشكيل لجان أخرى مهمتها جمع تبرعات من متموّلي تلك القرى. وهو أمر يشي بانكشاف قدرته على التعاطي مع آثار هذه الحرب حين تكتب نهايتها.

أول أثمان هذه الحرب هو في البنى السكنية المدمرة، أو المتضررة. وهذه كلفة لا يبدو “حزب الله” قادراً على الأرجح في التصدي لها. فماذا عن السلطة؟

أين الدولة من “إعادة الإعمار”؟  

في  اليوم الذي تلا جلسة الحكومة اللبنانية يوم الأربعاء 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، بدد الرئيس نجيب ميقاتي كلام نائب “حزب الله” حسن فضل الله عن قيمة التعويضات التي أقرت للمباني المهدمة بفعل الحرب، كما لضحاياها من المدنيين والمقاتلين. الجلسة التي انعقدت بعد شهر على  الحرب ، أفصح رئيسها عن محدودية إمكانيات الدولة، فكيف والحال أننا دخلنا الشهر الثامن للحرب وبكلفة تبدو أكبر بكثير عما كانت عليه آثارها حينها؟!

التباين بين “حزب الله”  والحكومة وصل لا شك إلى آذان النازحين كقلق مضاف، ودفع شريحة منهم إلى نقل مصادر أرزاقهم إلى أماكن بعيدة من دائرة الحرب، هذا حال تجار محلات الأثاث والأدوات الكهربائية والمنزلية  الضخمة في القرى الحدودية، لا سيما القرية الأكثر شهرة في هذا المجال،  كميس الجبل، والسبب الخشية من ضياع “جنى العمر”بفعل  الحرب، وبفعل عجز الدولة، كما الحزب، عن تقديم التعويضات.

حال النازحين المزارعين، وهم الشريحة الأوسع، هو الأسوأ مقارنة بالشرائح الأخرى. ففي بيئة تغلب الزراعة فيها كمصدر رزق وحيد، وجد هؤلاء النازحون أنفسهم أمام شظف العيش، والعجز غالباً عن إيجاد بدائل للرزق، وهو ما دفع بعضهم إلى المجازفة في العودة إلى قراهم وزراعة أرضهم كما في قرية عيترون، وفي مشهد  يحتمل إدراجه كرتق لضيق الحال أكثر من إدراجه في “أدبيات” الحرب وتحدّي إسرائيل.

أزمة أخرى قد تلقي بظلالها مع اقتراب فصل الصيف، وهذا أمر سيفضي إلى عودة أصحاب منازل يشغلها هؤلاء النازحون لتمضية العطلة الصيفية، ناهيك بعدد أقل من المغتربين. وهؤلاء، كما النازحون، كانوا “ضحية” فكرة سائدة عن القطع بين إسرائيل وقدرتها على الحرب المديدة.

راهناً ، ينسحب النزوح على غالبية القرى المتاخمة للحدود مع “إسرائيل” في قضاءي بنت جبيل ومرجعيون، والتي تفتقر الى كل سبل الحياة، وتتكبد يومياً المزيد من الدمار. ولئن كان النزوح العام لا ينسحب على القرى المسيحية، فالأمر يرتبط بعدم وجود مقاتلي “حزب الله” فيها. 

وشت حادثة قرية رميش الأخيرة، ومنع مقاتلي الحزب من إطلاق صواريخ منها، برسالة تتقاطع مع مناخ مسيحي عام يعتبر نفسه غير معني بالحرب، وإن كان شديد العناية بآثارها الاجتماعية. وهذا بالذات حال قرية رميش التي ترتبط مع جيرانها من القرى بعلاقات إنسانية تاريخية، كثّفتها حرب العام 2006، كما الحرب الراهنة.

عموماً، تحول مأساة النزوح كمؤطر لرأي عام ضد الحرب، وموازٍ لرأي صناع الأخيرة، لا يزال أسير تلك “التقية” التي يتبدى البوح بها مستعصياً، وبأمرين. الأول،  أنَّ “حزب الله” سلَّف سكان تلك  القرى تحريراً في العام 2000، فيما الآخر لا يبدو عرضياً.  ففي ذروة مأساة النازحين، والتباين مع  الحزب، تتكفل الأصوات الرافضة التعويض عليهم بتكثيف تلك “التقية”.