fbpx

كامران قره داغي شاهد على ثورة الكرد(4):إيران التي آوتنا والطيار العراقي الذي اختفى

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يواصل كامران قره داغي رواية تاريخ أكراد العراق كما عايشه وفي هذه الحلقة يروي وقائع من بدايات التدخل الإيراني في الملف الكردي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كما ذكرت في حلقات سابقة، التحق بالثورة عدد كبير جداً من أساتذة الجامعات وطلبتها، خصوصاً من جامعة السليمانية الحكومية، الأمر الذي حمل فريقاً من الأساتذة على إطلاق مبادرة لتأسيس جامعة موازية لها في المناطق المحررة، لاستيعاب ولو قسم من الطلبة الذين تركوا دراساتهم في الجامعة الأم. وقع الاختيار على بلدة قلعة درة التابعة لمحافظة السليمانية وتقع شمالها. قلعة دزة بلدة جميلة تعتبر مركزاً لمنطقة بشدر وتبعد من الحدود الإيرانية 35 كيلومتراً. يحيطها من جنوبها جبل آسوس ومن شرقها جبلا بلفت ومامندة ومن شمالها قنديل ومن غربها جبل زيرين كيو. الإدارة الكردية هناك خصصت بناية جاهزة للجامعة تستوعب عدداً محدوداً من الكليات للدراسات الإنسانية فقط كمرحلة أولى، كما خطط لها، إضافة إلى أماكن لسكن الطلبة ومدرسيهم. وأُنجز ذلك بسرعة وأعلن عبر اذاعة “صوت كردستان” موعد الافتتاح في 24 نيسان/ أبريل. وفي الإذاعة كنا نستعد لنقل تفاصيل الافتتاح.

لكن الرابع والعشرين من نيسان 1974 شهد مأساة كبرى حلت بقلعة دزة وجامعتها. ففي العاشرة صباحاً، حين كان الطلبة واساتذتهم يتجمعون في مراسم افتتاح الجامعة، ظهرت في سماء المدينة فجأة أربع مقاتلات من نوع “سوخوي” وقاصفتان من نوع “توبوليف -16” وتعرف باسم “باجر” لتقصف الجامعة ومحيطها بالقنابل والصواريخ، فيما استخدمت المقاتلات من ارتفاع منخفض مدافعها الرشاسة مستهدفة المدنيين. كانت مجزرة أسفرت عن سقوط نحو 350 قتيلاً و750 جريحاً. هكذا أسدل الستار على مشروع الجامعة، ربما لأن المعطيات والأدلة كلها كانت تشير إلى تصعيد متنامٍ للقتال والغارات الجوية التي تستهدف السكان المدنيين.

مأساة قلعة دزة تزامنت مع تفاقم أزمة اللاجئين من بلدات وقرى في المناطق المحررة كانوا يتوجهون إلى مناطق متاخمة للحدود الإيرانية على جانبي طريق هاملتون. كانت العائلات نساء وأطفالاً وشيوخاً، تتجمع في العراء عند الحدود من دون سقف يقي الناس المطر، ويحميهم من البرد الذي كان يشتد في الليالي. القيادة الكردية كثفت اتصالاتها مع الجهات الإيرانية المعنية لفتح الطريق أمام النازحين وإقامة مخيمات لهم داخل أراضيها. استغرق الأمر فترة قاسية، قبل أن تقرر طهران قبول اللاجئين، فباشرت جمعية الهلال الأحمر الإيرانية، التي كانت تسمى آنذاك “جمعية الأسد والشمس الأحمر”. (بالفارسية: “جمعيت شير خورشيد سرخ إيران” وغيرت إيران الإسلامية اسمها إلى “جمعيت هلال أحمر جمهوري إسلامي إيران”) في إقامة مخيمات لهم بداية مخيم وقتي في منطقة حاجي عمران، داخل حدود كردستان العراق، قبل أن تبدأ نقلهم إلى مخيمات داخل إيران.

خطة انتقامية من نساء وأطفال

زاد الطين بلة أن السلطات العراقية أقدمت على تنفيذ خطة انتقامية تمثلت في ترحيل عائلات الملتحقين بالثورة إلى المناطق التي تسيطر عليها. كانت السلطات الأمنية تداهم البيوت في بغداد ومدن أخرى كردية تحت سيطرتها، وتجمع النساء والأطفال من دون السماح لهم حتى بتغيير ملابسهم المنزلية، ناهيك بحمل ما يحتاجونه وتنقلهم في شاحنات إلى مواقع القوات العراقية المواجهة لمواقع البيشمركة وتجبرهم على السير، حفاة أحياناً وبلا طعام، في اتجاه المناطق المحررة. أمام هذا الوضع، نشرت قيادة قوات البيشمركة مفارز ترصد المناطق التي كان متوقعاً أن تتيه فيها العائلات المهجرة لمساعدتها في الوصول إلى نقاط آمنة ومنها إلى مواقع أخرى، بغية تأمين نقلها إلى مخيمات اللاجئين في إيران في إطار إجراءات اتفقت عليها الإدارة الكردية مع السلطات الإيرانية. بعض الأسر كانت قادرة مادياً على استئجار منازل في بلدتي بيرانشهر ونغدة أو نقده ومدينة رضائية (أورميه حالياً) بموافقة السلطات الإيرانية المحلية وكلها تقع في محافظة آذربيجان الغربية التي يشكل الكرد غالبية السكان في الجزء الجنوبي منها، وأبرز مدنهم هناك بيرانشهر وسردشت ومهاباد وأشنويه وتكاب وبوكان، لكن رضائية/ أورميه مركز المحافظة الرئيسي. إلى ذلك، تطلق تسمية أورميه على البحيرة الواقعة بين محافظتي آذربيجان الغربية وآذربيجان الشرقية، وإلى جنوب بحر قزوين، وكانت في وقت ما أكبر بحيرة في الشرق الاوسط وسادس أكبر بحيرة مالحة في العالم، غير أن عوامل كثيرة، طبيعية وغيرها، أدت تدريجياً إلى جفافها منذ ثمانينات القرن الماضي. يشار إلى أن مدينة أورميه هي مسقط رأس الزعيم الكردي الإيراني البارز عبد الرحمن قاسملو الذي اغتاله عملاء الاستخبارات الإيرانية في العاصمة النمساوية فيينا في 13 تموز/ يوليو 1989 بعدما استدرج إلى شقة كان يفترض أن يلتقي فيها مسؤولين إيرانيين بذريعة استعدادهم للتفاوض معه.

مخيمات لاجئين اكراد في إيران – 1974

إيران… الحاكمة بأمرها

في غضون ذلك، وفيما كانت المعارك في جبهات القتال تزداد سخونة، وبالتالي وقوع المزيد من الخسائر المادية والبشرية، كان الاعتماد على إيران في تلك المرحلة أصبح تحصيلاً حاصلاً. هذا الاعتماد المتنامي على إيران كان مكشوفاً، ولم يعد في تلك الفترة “أسرار الدولة”. فإيران كانت تطعمنا وتمولنا وتزودنا خياماً لاستخدامها مكاتب وأماكن للنوم، وتمكن تدفئتها بسخانات الكيروسين، التي كانت تأتينا من إيران أيضاً، وتأوي لاجئينا وتعالج جرحانا وتسمح لنا بدخول أراضيها ولمن كانت لديهم عائلات هناك بزيارتها أو تحت ذرائع أخرى. العاملون في الأمانات العامة والدوائر الأخرى، كانت الادارة الكردية في المناطق المحررة تدفع لهم رواتب شهرية بالعملة العراقية (بنسبة نصف الرواتب التي كانوا يتسلمونها في المناطق الحكومية قبل التحاقهم بالثورة، ووفقاً لترتيبات أخرى لمن لم تكن لديه وظيفة حكومية سابقاً). طبعاً قيادة الثورة كانت دائماً توفر للبيشمركة سبل معيشتهم وعائلاتهم. بالنسبة إلى الأمانات العامة، كانت لديها لجان مشتريات توفر من المال العام احتياجاتها من المواد الغذائية. في كل أمانة عامة كان هناك مطبخ يوفر الطعام مجاناً (بسيط يتألف من فطور متواضع وأرز ومرق للغداء والعشاء) ومستلزمات أخرى تسافر إلى إيران لشرائها من الاسواق هناك. لكن لم يكن هناك حظر على أن تلبي اللجان طلبات خاصة ضرورية من قبل العاملين من مالهم الخاص.

طائرات مضادة… إيران تدير الحرب!

هذا على الصعيد الاقتصادي. أما على الصعيد العسكري فاعتباراً من أيار/ مايو بدأت إيران إرسال اسلحة لم تكن البيشمركة تملكها خصوصاً مدافع ثقيلة كنا نشاهد قوافلها وهي تصل عبر الحدود القريبة من مقراتنا. بداية نصب الإيرانيون بطارية مدفعية مضادة للطائرات في منطقة حاجي عمران. في السياق أستبق التطورات، لأوضح أن إيران أرسلت في أشهر لاحقة مزيداً من المدافع المقاومة للطائرات التي كان الإيرانيون أنفسهم يشغلونها وكنا نشاهد القوافل وهي تمر عبر الحدود في طريق هاملتون، إلى منطقة بالك، حيث جبهة زوزك التي كانت أقرب جبهة من المنطقة التي كنا فيها والممتدة بين ناوبردان وحاجي عمران. هذه الأسلحة المضادة للطائرات استطاعت تخفيف القصف الجوي بل نجحت في إسقاط ثلاث مقاتلات بينها واحدة من نوع “ميغ 19″، قرب رواندوز وتم أسر قائدها الملازم الطيار صفاء شلال الذي أجريت معه لاحقاً لقاء بثته “صوت كردستان”. ولهذا اللقاء قصة.

إلى ذلك أسقطت قاصفة قنابل من نوع “توبوليف 16” في منطقة جومان بصاروخ أميركي من “نوع هوك”، كان الإيرانيون نصبوا قاعدة إطلاقه في موقع يطل على مقرنا في”قصر السلام” الذي انتقلنا إليه بحلول الشتاء. سقوط الطائرة أدى إلى قتل طاقمها المؤلف من أربعة اشخاص. عندما ظهرت القاصفة في سماء جومان وليس للمرة الأولى طبعاً، وكنا اعتدنا أن نخرج من مكاتبنا لرصد القاصفات والمقاتلات المغيرة أو للتوجه إلى ملجأ قريب، شاهدنا صاروخاً ينطلق من قاعدته القريبة في اتجاه القاصفة، لكنه انحرف عن الهدف ليسقط في مكان بعيد منها. ثم انطلق صاروخ ثان ليواجه المصير ذاته. لكن الصاروخ الثالث لم ينحرف وأصاب القاصفة في وسطها تماماً، فانطلق منها دخان ثم لهب، وأخذت تترنح وتتجه نحو الأرض وبعد لحظات اختفت خلف الجبل وسرعان ما ارتفع من مكان سقوطها لهب كثيف ارتفع أعلى من الجبل. استغرقت عملية إطلاق الصواريخ الثلاث وسقوط الطائرة بضع دقائق، وكنت خلال ذلك أحمل مسجلاً وأصف المشهد وأسجله. في اليوم التالي بثت “صوت كردستان” تقريراً أعددته مضيفاً إلى التسجيل، وصف الطائرة المنكوبة من مكان سقوطها الذي توجهت اليه مع أخرين. ولهذا التسجيل قصة أخرى. أدناه تفاصيل القصتين.

يوم ذهبنا إلى الأسرى

اقترحت هيئة تحرير “صوت كردستان” إجراء لقاءات مع أسرى من الجيش والشرطة كانوا محتجزين في سجن عام قرب منطقة تقع على طريق هاملتون. كان ذلك السجن عبارة عن بناية متواضعة مشيدة من الطين والحجر غرفها مظلمة ومزرية. كانت الفكرة التي اقترحناها أن تأكيد أن قوات البيشمركة لم تقتل الأسرى كما كانت تروج وسائل الإعلام الحكومية. رأينا أن اللقاء يجب أن يقتصر على أن يذكر الأسير اسمه الكامل ووحدته وأين اعتقل وكيف، ويوجه رسالة إلى ذويه لطمأنتهم إلى أنه على قيد الحياة. كالعادة واجهتنا مشكلة أثارها مسؤولون أمنيون متشددون أرادوا أن نوجه إلى الأسير أسئلة يظهر فيها، مشيداً بالسلطات الكردية، شاكراً إياها على رعايته. بعبارة أخرى، كان المطلوب أن نجبر عملياً الأسير المسلوب الارادة على أن يقول ذلك ويتهجم على النظام العراقي. لكنني وفلك الدين كاكائي رفضنا ذلك الأسلوب واعتبرناه دعاية مفضوحة لن يصدقها أحد. وكالعادة أيضاً، دعمنا كاك دارا توفيق الذي استطاع أن يقنع السلطات الأمنية بالتخلي عن فكرتهم وترك الأمر لنا فوافقت على مضض.

لاحقاً خصصت السلطات الأمنية الكردية بناية حكومية سابقة في بلدة جومان للعسكريين العراقيين الأسرى، مع توفير مستلزمات معيشتهم وتوفير المواد الغذائية لهم على أن يقوم فريق منهم بإعداد الطعام بأنفسهم في مطبخ البناية. الطيار الأسير صفاء شلال كان الضابط الوحيد في هذه البناية فخصصت له غرفة بمفرده وكان يخدمه جنود أسرى. في تلك الغرفة، أجريت لقاءً مع الطيار، ووجهت إليه أسئلة عدة حرصت على أن أخبره بانه حر في أن يجيب عنها أو يرفض الإجابة. في اللقاء، كلما كنت أوجه له سؤالاً يرفض الإجابة عليه، كنت أذكر أنه يفضل عدم الإجابة عن السؤال. لكنه كان يجيب صراحة عن اسئلة أخرى مثل هل سيعاود قصف أهداف مدنية في المناطق المحررة في حال أطلق من الأسر وعاد إلى وحدته. أجاب أنه لن يتردد في تنفيذ أي أمر يأتيه بما في ذلك قصف الأهداف التي تحدد له لأنه عسكري ملتزم وواجبه تنفيذ الأوامر. تم بث اللقاء من دون حذف أي شيء منه، الأمر الذي أزعج مسؤولين أمنيين متشددين.

جلال طالباني في الوسط والى يمينة فؤاد معصوم

إتماماً لقصة اللقاء مع الطيار الأسير حدث الآتي. بعد انهيار الحركة المسلحة في آذار/ مارس 1975 ومكوثي في طهران حتى نهاية نيسان/ أبريل من العام نفسه، كنت أحد أعضاء مجموعة من رفاق الجبل اتخذنا قراراً بالعودة إلى العراق، مفضلين عدم البقاء في إيران. كان بيننا سياسيون وأكاديميون وإعلاميون، أذكر منهم فؤاد عارف ودارا توفيق (غادر وعائلته بداية إلى بيروت ومنها عاد إلى العراق)، وشقيقه الأكبر خسرو توفيق وعائلته المؤلفة من زوجته وابنتيه وكمال مظهر أحمد وكمال خياط ودارا رشيد جودت وكمال محي الدين وجلال سام آغا، إضافة إلى آخرين. بعد نحو شهر على عودتي، تلقيت ذات يوم اتصالاً من ضابط في مديرية الأمن العام، قال إنه مدير شعبة ما وطلب مني بتأدب أن أراجعه في مكتبه. طبعاً كنت أضرب أخماساً في أسداس، وأنا في طريقي إلى بناية الأمن العامة المرعبة. دخلت إلى مكتب الضابط الذي استقبلني باحترام، وكانت عنده سيدتان متشحتان بالسواد. وبعد السلام وتقديم الشاي قال لي: استاذ كامران هل تعرف ماذا حدث للطيار صفاء شلال الذي كان أسيراً عندكم وأنت أجريت معه لقاء بثته إذاعتكم؟ أضاف وهو يشير إلى السيدتين أن إحداهما، كانت والدة الطيار والأخرى زوجته ولا تعرف عائلته ولا وحدته شيئاً عن مصيره، لأنه لم يعد حتى ذلك الوقت، مع أن الأسرى الآخرين أطلقوا وعادوا إلى عائلاتهم ووحداتهم. الحق أنني فوجئت بأنه كان يعرف أنني تحديداً، أجريت ذلك اللقاء، لأننا لم نكن نذكر أسماء العاملين في الاذاعة. وأوضح أن شهود عيان عادوا إلى مناطقهم بعد انتهاء القتال قالوا إنهم رأوا الطيار برفقة آخرين وعدد من البيشمركة في منطقة خانقين. أجبته بأن مهمتي انتهت بإجراء اللقاء مع الطيار ولا أعرف شيئاً عن مصيره بعد ذلك، لكنني سمعت من مسؤولين وبعض رفاق الجبل أن الأسرى أطلقوا خلال فترة وقف النار بمدة أسبوعين بعد أيام من اتفاق الجزائر “بناء على طلب من الحكومة الإيرانية”، وفقاً للبيان العراقي للسماح للبيشمركة وغيرهم التوجه إلى إيران او إلى المناطق الحكومية مستفيدين من عفو عام أصدرته الحكومة العراقية. شكرني ضابط الأمن وقبل أن أغادر مكتبه أعربت للسيدتين اللتين كان الحزن بادياً عليهما عن أسفي لعدم عودة الطيار وبقاء مصيره مجهولاً.

أما قصة التسجيل بصوتي عن سقوط الـ”توبوليف 16″، فبعد سنوات تحديداً في مطلع التسعينات عندما كنت أعمل في جريدة “الحياة” اللندنية زرت يوماً الدكتور فؤاد معصوم في بيته في لندن حيث كانت تقيم عائلته. وفيما كنا نتبادل الحديث، قال إن لديه هدية لي وأعطاني شريط كاسيت فأخذته وقرأت العبارة المكتوبة على غلافه: ريبورتاج عن سقوط طائرة توبوليف بث من إذاعة صوت كردستان في 1974. كانت مفاجأة جميلة حقاً، فسألت الدكتور فؤاد كيف حصل على الشريط فأجاب أنه كان يسمع “صوت كردستان” دائماً، وغالباً ما يسجل تقارير كانت تبثها ومنها هذا التقرير.

مقاومة إعلامية؟

أعود إلى عملنا الإعلامي وأحداث شهدتها وعاصرتها في تلك الفترة والتطورات التي أدت بالتدريج إلى تضييق الخناق على الكرد في المناطق المحررة ودور إيران والجزائر ومصر في الاجهاز على الحركة المسلحة إثر توقيع اتفاق الجزائر في السادس من آذار 1975. لكن تصاعد القتال والقصف الجوي وأخبار المعارك على رغم ما كانت تحمله من مآسٍ ناهيك بالمعاناة النفسية للافتراق عن عائلاتنا وتعذر الاتصال بها، لم تمنعنا من مواصلة نشاطاتنا الإعلامية والثقافية بحماسة متزايدة. مع اقتراب فصل الصيف وتحسن الجو تقرر في أيار/ مايو نقل مقر الإعلام إلى منطقة آزادي القريبة من حاجي عمران. وقع الاختيار على منحدر في الجانب الجنوبي من طريق هاملتون، يؤدي إلى وادٍ ويخترق نهايته جدول ماء فنصبنا خيامنا هناك.

 

الدعم الإيراني كان هدفه الوحيد حمل بغداد على التنازل لإيران عن نصف شط العرب

 

عمل الامانة العامة لم يقتصر طبعاً على البث الاذاعي. أقسام الأمانة العامة نشطت في مجالاتها. استمر إصدار نشرة الإنصات اليومية وتشكلت فرق موسيقية وغنائية ومسرحية، فيما تولى الفنان السينمائي المعروف آنذاك أنور توفي إخراج فيلم وثائقي عن الحياة في المناطق المحررة. بل إن المديرية العامة للثقافة استطاعت إقامة معرض للفنون التشكيلية في قاعة فندق دربند في تلك المنطقة، وكان فندقاً سياحياً في فترة السلم. إلى ذلك تبنى نائب الأمين العام الاكاديمي المؤرخ كمال مظهر مشروعاً لإصدار دورية فكرية جمع لها مقالات عدة، لكن المشروع لم ير النور قبل أن تنهار الحركة المسلحة. هذه ونشاطات أخرى كثيرة في المناطق المحررة وفي مخيمات اللاجئين في إيران سجلها بتفاصيل دقيقة رفيق الجبل الصديق فرهاد عوني الذي كان مديراً عاماً للشباب في أمانتنا وكان معتاداً على تدوين يومياته التي نشرها في كتابه “ذاكرة الايام” (أربيل، 2011). بفضل يومياته لم يفت عوني أن يذكر في كتابه أدق التفاصيل وأسماء العاملين، بمن فيهم موظفون وسائقون وحراس وطباخون وكبيرهم حنا مربين، الذي كان يلتزم إلى حد قاس أحياناً، عدم تجاوز الكمية المحددة من الطعام للعاملين في المقر الأمر الذي حمل بعض شعرائنا على المزاح معه شعراً! إلى ذلك، ساعدنا في تدبير شؤوننا ببراعة رفيق الجبل الآخر المدير العام للإدارة الصديق جلال عمر سام آغا الذي كان قبل ذلك مدير إدارة جامعة السليمانية.

في الأثناء وقبل أن ينتقل فريقنا الإعلامي إلى “قصر السلام” مع حلول الخريف كان الخطاب السياسي لقيادة الثورة منعكساً طبعاً على الخطاب الإعلامي، يزداد حدة وتشدداً تجاه بغداد فيما كنا نشهد حراكاً واضحاً لوصول معدات حربية ومدفعية ثقيلة من إيران إلى جبهات البيشمركة فيما كنا نلاحظ أن القدرة الشرائية من إيران تزداد، إضافة إلى دخول مواد غذائية أكثر إلى المناطق المحررة. لاحقاً بعد انهيار الحركة المسلحة ظهرت في الصحافة الأميركية معلومات رسمية وتقرير صدر عن الكونغرس في كانون الثاني/ يناير 1967، لتكشف أن الدعم الإيراني للقيادة الكردية كان بدأ عملياً منذ 1972 كان في إطار اتفاق سري بين الشاه والرئيس الأميركي وقتها ريتشارد نيكسون في زيارة إلى طهران قام بها في ايار من ذلك العام، رافقه فيها مستشاره للأمن القومي آنذاك هنري كيسنجر الذي حرص على عدم إفشاء السر حتى إلى وزارة الخارجية الأميركية. كان الشاه طلب من نيكسون الموافقة على تمويل خطة الدعم تلك. بقية القصة معروفة.

لكن ما يهمني في هذا الصدد هو كيف انعكس الدعم الإيراني، الذي كان هدفه الوحيد هو حمل بغداد على التنازل لإيران عن نصف شط العرب، وتداعياته علينا في المناطق المحررة. سأتطرق إلى محاولات عدة باءت بالفشل لاقناع الصليب الاحمر الدولي والأمم المتحدة بإرسال وفود إلى المناطق المحررة للتحقق من المآسي التي كان يتعرض لها السكان المدنيون، نتيجة لعمليات القصف الجوي والمدفعي التي كانت تستهدفهم تحديداً، إضافة إلى تفقد أوضاع الأسرى العراقيين. وكانت الأمم المتحدة ترفض متذرعة بأن إرسال وفد إلى المناطق العراقية من قبلها، يعتبر انتهاكاً لسيادة العراق. في السياق، سأتطرق إلى أول زيارة قمت بها إلى إيران ضمن وفد برئاسة كاك دارا، لإعداد تقرير مفصل معزز بوثائق ومعطيات عن أوضاع المناطق المحررة لتقديمه إلى ممثلي الأمم المتحدة والصليب الأحمر في إيران. لكن هذا إلى الحلقة المقبلة.

كامران قره داغي شاهد على ثورة الكرد(3): انطلاق “صوت كردستان” تحت قصف الطائرات