fbpx

المصنع”: انتحاري طرابلس بين “كبتاغون الفقراء” ونساء باب الرمل” 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على ضفة أخرى من هضبة باب الرمل، يقع منزل والد الانتحاري عبد الرحمن مبسوط. يستقبلك والده عارضاً شريط فيديو على هاتفه يظهر فيه يوسف وهو يرقص. ويسأل الوالد، كيف لشخص كان يرقص قبل أشهرٍ من تنفيذ العملية، أن يُقدم على ما أقدم عليه؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ضمن سلسلة “المصنع” التي بدأها موقع “درج” من العراق حول البيئة التي ولد فيها تنظيم “داعش” واحتمالات انبعاثه من جديد، يبدو أن المصنع لا يزال منتجاً وهنا تحقيق من لبنان.

في منزل أهل زوجته الأولى في منطقة باب الرمل في مدينة طرابلس شمال لبنان، يظهر أثر قبضات يد عبد الرحمن مبسوط، الانتحاري الذي نفذ عملية ضد مواقع للجيش اللبناني في المدينة عشية عيد الفطر. فعبد الرحمن كان يبلغ به الغضب حتى ضرب الأبواب الخشبية بقبضته. يقول يوسف (19 سنة)، شقيق سجى، الزوجة التي خلعته قبل نحو سنتين، إن غضب عبد الرحمن كانت تتسبب به حبات الـ”كبتاغون” التي كان يتناولها. وأوضح يوسف أنه هو أيضاً عرضة لهذا النوع من النوبات الهستيرية، وأن بعض ثقوب الأبواب خلفتها قبضاته هو، لا قبضات عبد الرحمن. ويضيف: “أنا ضحية عبد الرحمن، لكنني أيضاً تربيت على يديه”. فهو حين تزوج سجى قبل نحو 5 سنوات انتقل للعيش في منزل أهلها، الذي لا يبعد من منزل والده أكثر من 200 متر، ومن منزل والدته التي طلقها والده نحو 500 متر. وحين كان يأتيه الغضب ويشرع بضرب زوجته أمام أعين أهلها، كان ينال يوسف نصيبه من هذا الضرب. كان يوسف في حينها في عمر الفتوة، وسجى أيضاً كانت زوجة طفلة، ذاك أنه خطبها وهي في الثالثة عشرة، وتزوجها في الرابعة عشرة، أما هو فكان في الثالثة والعشرين.

القصة تبدأ من هنا، أي مما يولده زواج المعدمين، ممن راكموا، وقبلهم أهلهم، طبقات من الفقر والاضطراب وأنماطاً من العنف، وجاءت الحروب لتشحن الفقر بالعنف، ولتعطي للمنتهكة حياتهم قدرة على الانتقام.

تقول ليلى، أم سجى ويوسف، أنها تبحث لحفيديها عبيدة (5 سنوات) وحمزة (سنتان)، أولاد عبد الرحمن، عن مدرسة داخلية أو ميتم لتضعهما فيه. وتضيف أنها لا تريد أن ينشآ في منزلها المضطرب، فهما سيكونان فيه عرضة لعنف خالهما وجدهما، وهو عنف تقول إنه جزء من طبيعة الأشياء هنا في منازل فقراء طرابلس. فما أن يهرم الرجل ويصبح عاجزاً عن ممارسته حتى يكون ابنه قد نضج وكبر ليستأنفه. ويوسف يتولى هنا شرح ما تعنيه أمه، فهو يعترف بنوبات الغضب الهستيري التي تصيبه، ويشير إلى أنه يمضي في هذا المنزل الضيق والمكتظ وشديد الرطوبة، معظم أوقات نهاره، وفي الليل ينزل إلى الشارع ليلتقي بأشباهه من الفتية المتسربين من المدارس والعاطلين من العمل. يصف يوسف حال الاختناق الذي يصيبه، والذي غالباً ما كان يعالجه بحبة “كبتاغون”. تحول الاختناق إلى نوع من الغضب والشعور بالقدرة على تحطيم أي شيء في متناول يده. يقول إن الغضب المحقون بالكبتاغون أشبه بموجة تتدفق من الصدر إلى الرأس، هي نفسها ما يرجح الشاب أنها تدفقت من صدر عبد الرحمن إلى رأسه حين ارتدى الحزام الناسف وحمل رشاشه وتوجه إلى أهدافه يوم نفذ العملية عشية عيد الفطر.

السلفية القتالية والمسلمون

في طرابلس، يقول سياسيو المدينة أن السلفية القتالية ليست امتداداً لثقافة المسلمين في مدينتهم. هذا القول يبدو صحيحاً جزئياً، لكنه ينطوي على اعتقادٍ بأن العنف الذي يمارسه هؤلاء الفتية صادر عن “سلفيتهم” المستجدة، في وقت سيجد فيه الباحث عن “داعش طرابلس”، أن التنظيم فيها يقترب من السلفية بقدر اقترابه من مخدرات الفقراء، أي الـ”كبتاغون”، وهو إذ لا يشبه سوسيولوجيا أهل المدينة، إلا أن البسيكولوجيا في اهتمامها بأحوال الأفراد ستجد طريقها لتفسير هذا العنف الممتد والمتواصل من الآباء إلى الأبناء. هو عنف أفراد، إلا أنه تفشى على نحو ما تتفشى الظاهرة الجماعية. ففي الأحياء الشرقية من طرابلس تسير حياة السكان على نحوٍ لا تشهده أي منطقة لبنانية أخرى. وليس بعيداً من هذه الأحياء يعيش أغنياء المدينة وأهل أحياء الطبقات المتوسطة والمتوسطة العليا حياة مختلفة تماماً، ويولِد تجاور الفقر والغنى، الذي تخترقه من ضفتيه روابط قرابية وعلاقات عمل واستخدام، رغبات انتقامية لطالما تجسدت بتنفيذ “الجهاديين” الآتين من أحياء الفقراء عملياتهم في أحياء الأغنياء، أو على أطرافها.

ليس بعيداً من منزل أم يوسف، وعلى ضفة أخرى من هضبة باب الرمل، حيث أنشأ سكان البيوت سلالم اسمنتية تفضي بهم إلى منازلهم، يقع منزل والد عبد الرحمن. يستقبلك والده عارضاً شريط فيديو على هاتفه يظهر فيه يوسف وهو يرقص. ويسأل الوالد، كيف لشخص كان يرقص قبل أشهرٍ من تنفيذ العملية، أن يُقدم على ما أقدم عليه. الاحتقان الذي عايناه في منزل أم يوسف يتحول في منزل والد الانتحاري إلى تكتم ممزوج بارتخاء ونظرات ريبة.

إقرأ أيضاً: هل بدأ لغز إحراق معاذ الكساسبة يتكشف؟

الوالد الستيني الذي يشير إلى أن المخابرات السورية اعتقلته وعذبته في ثمانينات القرن الفائت بسبب انتمائه في حينها إلى حزب البعث العراقي، يقول إنه لا يثق بالصحافة بسبب الحملة التي استهدفت رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي بسبب مساعدته في الإفراج عن عبد الرحمن. ويلفت إلى أن ابنه وقتذاك لم يقترف أي مخالفة للقانون في لبنان، إنما فعل ذلك في تركيا عندما عبر الحدود إلى سوريا.

عبد الرحمن ابن الزوجة الثانية لوالده، والأخير تزوج بعدها اثنتين، وله من زوجاته الأربع أولاداً، إلا أنه لم يبقِ اليوم على ذمته إلا واحدة، هي التي استقبلتنا أمام المنزل الممتد أفقياً، والذي حوله الوالد إلى ثلاثة منازل، أقام عبد الرحمن في واحد منها هو وزوجته الجديدة، وتوجه منه لتنفيذ العملية. ومنزل عبد الرحمن عبارة عن غرفة سفلية واحدة، كان شقيقه حين قصدنا المنزل يعيد طلاءها تمهيداً للانتقال إليها هو وعائلته، بعدما مات شقيقه وطلق زوجته الجديدة قبل ساعة من تنفيذه العملية.

يحصي والد عبد الرحمن الـ”مداخيل” التي كان ابنه يجنيها قبل أن يغادر إلى تركيا ومنها إلى سوريا. فإضافة إلى راتبه من البلدية التي كان يعمل فيها، وهو نحو 600 دولار، كان عبد الرحمن بحسب والده يتقاضى مبلغاً من شخص رفض الوالد الكشف عن هويته قيمته 150 ألف ليرة لبنانية، ومبلغاً مثله من شخص آخر. لكن الوالد عاد وقال إن هذه المبالغ كانت إتاوات يدفعها أصحاب متاجرٍ في المنطقة ليحمي يوسف لهم متاجرهم. هذا قبل أن يغادر إلى “الجهاد”، ويبدو أنه بعدما عاد، لم يكف عن فرض “الخوات”. فالجميع يؤكد أن عبد الرحمن لا يعاني من عوز على نحو ما يعاني أخوته وغيرهم من شبان المنطقة التي يعيش فيها.

حكاية أم العبد

إلى الشمال من الزقاق الذي يفضي إلى منزل والد عبد الرحمن، على بعد أقل من 500 متر، يقع محل أم عبد الرحمن، الخياطة الأمهر في باب الرمل. المرأة التي تزوجت بعد طلاقها الأول أكثر من مرة، رفضت أن نلتقيها. أوضحت أن زوجها “حلف عليها يمين الطلاق إذا التقت صحافياً”. لكن حكاية أم العبد مع زيجاتها ومع أولادها، تُشعرك بأنك أمام قصص من خارج القصة العامة للمدينة. أم العبد وأم يوسف وزوجة والد عبد الرحمن، هن نماذج عن نساء باب الرمل، وهن جزء فاعل ومقرر في حاضر عائلاتهن، وهن غير مستسلمات لأزواجهن الذين غالباً ما يكونون قليلي الكلام وكثيري العنف. أم عبد الرحمن هي معيل عائلتها، وكذلك أم يوسف، أما زوجة أب عبد الرحمن، فهي التي تجمع العائلة في سهرات لعب الورق، والذي يخسر تجبره على الرقص وسط تصفيق الحاضرين.

نساء باب الرمل، أمهات “الجهاديين” وأمهات فتية الـ”كبتاغون” إيجابيات ومتكلمات ومنتجات، فيما الرجال الآباء صامتون وعنيفون وعاطلون من العمل.

لا تنسجم الروايات عن شخصية عبد الرحمن. شقيقه شكا من تزمته في الآونة الأخيرة ومن تقريعه بسبب التدخين “الحرام”، فيما زوجة والده راحت تعرض لنا شريط فيديو صورته فيه أثناء رقصه في إحدى سهرات العائلة. هو فارض إتاوات ويمضي سهرات عائلية في لعب الورق ومزواج، ومعنِفٌ تروي زوجته الأولى فصولاً عن ضربه إياها وأولادها، وهو أيضاً معَنفٌ، إذ تقول والدة زوجته، إن والده كان يعلقه من يديه في سقف المنزل. وهو أيضاً أمضى مرحلة سجنية في سجن القبة، غير تلك التي أمضاها بعد عودته من سوريا في سجن رومية، بسبب تهديده أحد أصحاب المحال التجارية في المنطقة. هذا كله مضافاً إليه تأكيد جميع من حوله ومن بينهم شقيقه أنه كـ”سائر شبان المنطقة كان يعالج غضبه بالكبتاغون”.

عبد الرحمن مبسوط وأسرته

المرحلة التي أمضاها عبد الرحمن في سوريا لم تتجاوز الستة الأشهر، وهو دخل إلى مناطق إدلب، وهناك على ما يبدو لم يخضع لما يخضع له عادة الملتحقون بـ”داعش”، ذاك أن التنظيم لا يسيطر في إدلب على مساحات تتيح له إقامة معسكرات تدريب ودورات “شرعية”. وخلافاً لغيره من الملتحقين بـ”الجهاد” لا وقائع واضحة عن تلك الأشهر التي أمضاها في سوريا. ثم ما لبث أن غادرها، عابراً الحدود إلى تركيا، وهناك ألقت الشرطة التركية القبض عليه، وبقي في السجن التركي بحسب والده نحو ثلاثة أشهر سُلم بعدها إلى السلطات اللبنانية. وهنا ترتسم علامات استفهامٍ أخرى، ذاك أن قطعه الإقامة في سوريا وتوقيفه من قبل الأمن التركي يوحيان بأنه لم ينل ثقة الجماعة التي توجه للالتحاق بها في ادلب، وهو حين قرر العودة لم يساعده أحد على عبور آمن للحدود. حصل ذلك عام 2016، وفي ذلك الوقت كانت أنقرة ترعى العبور من سوريا وإلها، وكان للجماعات “الجهادية” طرق عبور آمنة ومضافات تستقبل “الجهاديين” تحت أنظار الأمن التركي. هذا ما لم يحظ به عبد الرحمن الذي يبدو أنه سرعان ما “تخلف عن الجهاد” وأقفل عائداً منه.

لم يكن عبد الرحمن من “نجوم” المبنى (ب) في سجن رومية، ذلك الجناح المخصص للمساجين الإسلاميين، والذي تحصل فيه وقائع إعادة انتاج “الجهاد” بفعل وجود شخصياته في زنزاناته. أمضى الشاب أقل من عشرة أشهر في هذا المبنى، وهذه مدة لم تكن كافية لتمتين “سلفيته”، والدليل أنه خرج من السجن واستأنف شقاء ما قبل “الجهاد”. وفي هذا الوقت، كانت زوجته الأولى سجى نجحت بخلعه، بعد مساعدة قانونية من جمعية “كفى”، استعانت خلالها المحامية بقرائن على ممارسته عنفاً يشكل خطراً على حياة الزوجة وابنيها.

هذا السياق قد لا يفضي إلى قرارٍ بتنفيذ هجومٍ انتحاري، إلا أن التدقيق بالوقائع التي سبقت الهجوم الذي نفذه، والتي رافقت العملية، يفضي إلى مزيد من علامات الاستفهام التي لا يجيب عنها إلا “الكبتاغون”، إذ إن الشاب لم يكن منغمساً بهذيانات السلفيين حول الجنة وحور العين، ولم تربطه على ما يبدو علاقات بشبكات “جهادية” محلية، ولم تعرف عنه علاقة بمسجد أو بداعية، والسلاح الذي كان بحوزته يمكن الحصول عليه في طرابلس لمن يرغب. ثم إن وقائع عمليته لا تثبت أنه كان بصدد تفجير نفسه، فهو قتل عناصر من الشرطة والجيش، ثم لجأ إلى أحد المنازل، وهناك قُتل من مسافة ليست قريبة.

إقرأ أيضاً: المصنع: داعشي سابق يروي… هأنذا أصوّر شقيقي “ينفّذ”

العودة إلى سيناريو الـ”كبتاغون” قد تجلي بعض الغموض. ما وصفه يوسف شقيق الزوجة الأولى لجهة ما تحدثه حبة الـ”كبتاغون” من تحويل لذلك الضيق إلى شعور بالقوة والفعالية والقدرة، ومن تصريف عنفي للغضب، قد يساعد على تخيل ما حصل لعبد الرحمن عشية عيد الفطر. والعودة إلى هذا السناريو لا تنفي احتمال تلقي عبد الرحمن أمراً بالتنفيذ، ذاك أن “داعش” لطالما أجاد توظيف “ذئاب” من خارج منظومته “الشرعية”.

التحقيق تم بدعم من مؤسسة National Endowment for Democracy NED

المصنع: سيرة صدام الجمل من تهريب التبغ الى قيادي في داعش كما يرويها من سجنه ل”درج”

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.