fbpx

ثنائية الإسلام الراديكالي والديكتاتورية العسكرية (8):الإرهاب على ضفتي الثورة..

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

استُهلَّ العقد الحالي باحتجاجات مفاجئة لما سُمّي اصطلاحاً «الربيع العربي»، فلم تكن تشتعل شرارتها في تونس حتى انتقلت إلى مصر… بدت تلك الأحداث كما لو أنها انتفاضة عفوية، لكن في الواقع لعِب الإنترنت دوراً محورياً في تنظيم جموعها… لولاه، ربما بقيت تلك الشعوب معزولة تتخبط بثوراتها، فيما العالم مغمض العينين. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

استُهلَّ العقد الحالي باحتجاجات مفاجئة لما سُمّي اصطلاحاً «الربيع العربي»، فلم تكن تشتعل شرارتها في تونس حتى انتقلت إلى مصر. احتشد الآلاف من أبناء تلك البلاد التي كانت لها حظوتها في عمليات تغيير شكل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا… احتشدوا في 25 كانون الثاني/ يناير، خرجوا في جموع حاشدة في القاهرة باتجاه «ميدان التحرير» ضد نظام «حسني مبارك»، بدت تلك الأحداث كما لو أنها انتفاضة عفوية، لكن في الواقع لعِب الإنترنت دوراً محورياً في تنظيم جموعها… لولاه، ربما بقيت تلك الشعوب معزولة تتخبط بثوراتها، فيما العالم مغمض العينين. 

كان أحد أهم الناشطين في ثورة 25 يناير مهندس الكمبيوتر المصري وائل غنيم، وهو يعمل في شركة “غوغل” في مصر، وقد أنشأ صفحة “فيسبوك” لعبت دوراً محورياً في تنظيم طلائع المتظاهرين.

صورة من ميدان التحرير

في الوقت الذي كان مئات الآلاف يحتشدون في ميدان التحرير، كان غنيم يجري حواراً على التلفزيون المصري: «إنتو مش مصدقين يعني إيه (شوية شباب على الفيسبوك – عيال الفيسبوك) مش مصدقين إن الشباب دول نزلوا بعشرات الآلاف على الشارع؟… أرجوكم يا جماعة، مافيش أبطال. الأبطال هم الناس اللي في الشارع، الأبطال هم كل واحد فينا. مافيش واحد راكب ع الحصان يدير الناس. أوعى حد يضحك عليكو ويقوللكو كدة، دي ثورة شباب الإنترنت اللي بقت بعد كده ثورة شباب مصر».

كثيرون من الليبراليين الغربيين كان ذلك بالنسبة إليهم بمثابة برهان على القوة الثورية للإنترنت، وبدا وكأنه بالإمكان القيام بثورة بلا قادة في الزمن الحديث، ثورة تبلغ من القوة ما يمكّنها من الإطاحة بطاغية كان تسلّم مقاليد الحكم في أم الدنيا لثلاثين عاماً، حسني مبارك.

لم يكن الثوريون الراديكاليون أمثال حركة “احتلوا وول ستريت” وحدهم من رأى الأحلام «تتحقق» عبر ثورات الإنترنت، إنما السياسيون الغربيون أيضاً إذ دعموا الثورات العربية بحماسة، حين بدا أنها تتوافق مع رؤيتهم الساذجة لتغيير العالم هكذا ببساطة عبر التخلص من القادة الديكتاتوريين فقط… حين اندلعت انتفاضة ليبيا دعمتها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، إلا أنه وبدلاً من أن تتحول ليبيا إلى الديموقراطية بعد التخلّص من «القذافي»، بدأت سقوطها المدوّي في الفوضى.

اعتَقدَ الثوريّون الراديكاليون أنه بإيجاد وسيلة جديدة لتنظيم الأفراد فإن أحلام الثورة تحقّقت، وأنه سيتمخّض عن ذلك مجتمع جديد، لكنهم افتقدوا تماماً أيّ تصورٍ عن الطبيعة المحتملة لهذا المجتمع الجديد، افتقدوا التصوّر الواضح للمستقبل… الحقيقة أن ثورتهم لم تكن في سبيل تنفيذ رؤية متكاملة، إنما هي عبارة عن إحدى وسائل حشد الجموع وإدارتها، لا أكثر.

الحقيقة المرّة

أولئك الذين أشعلوا الثورة في مصر، آل بهم المصير إلى مواجهة الحقيقة المرّة ذاتها التي ظلّت جاثمة طيلة 60 عاماً (إما الديكتاتور العسكري أو الديني)… صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي نجحت في حشد المتظاهرين، لكن بمجرد أن احتشدوا تَرَكَهُم الإنترنت تائهين بلا أي دليل على شكل ذاك المجتمع الذي يمكنهم بناؤه. لذا انقضّت جماعة «الإخوان المسلمين» لتملأ الفراغ برؤيتها التاريخيّة لدولة متكاملة، كما تتصوّرها.

حاز الإخوان المسلمون السلطة في الانتخابات، وصار محمد مرسي رئيساً، ما أصاب الليبراليين واليساريين بصدمة، فما كان منهم إلا أن اتجهوا شيئاً فشيئاً إلى أحضان الجيش، مطالبين إياه بالتدخل لحماية الثورة من الإسلاميين، كحالِ المستجير من الرّمضاءِ بالنارِ! وعام 2013 تدخّل الجيش مثلما حدث في الجزائر إبان التسعينات، اعتَقَل الرئيس، قَتَل مئات المحتجّين من أنصاره، واستولى على الحكم.

الجيش مُرَحَّباً به هذه المرة

آلاف النشطاء الليبراليين الذين احتشدوا قبلها بعامين عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليشعلوا الثورة، احتشدوا هذه المرة بتأثير “فيسبوك” أيضاً، ليرحّبوا بعودة الجيش من ميدان التحرير نفسه، ملوّحين بأقلام الليزر الخضراء لطائرات الهيلكوبتر المحلّقة فوقهم، قبل أن يهيمن على كرسيّ الحكم في النهاية عبد الفتاح السيسي.

لم يستخدم ديكتاتور مصر الإسلاميين بإرادته ليستولي على السلطة مثل حافظ الأسد، إنما عوّل هذه المرة على الشعب نفسه، الشعب الذي نالت جماعة الإخوان استحسانَ غالبيته، والشعب الذي لجأ إلى الجيش بإرادته ليمهّد الطريق أمام السيسي كي يجد مبرّراته المعتادة لإقصاء الجميع (بالبعبع الإسلامي)، والشعب الذي يبدو مُعجباً بهذا القائد حتى أجل غير معلوم، والذي يبدو أنه أحسنَ حِفْظ دروس الديكتاتوريين السابقين ممن كانوا يشدّدون ليل نهار على أن حكم منظومتهم العسكرية بكل قبحها، أجمل وأعدل وأرحم وأكرم وألطف وأعْطَف من حُكم رديفتها الدينيّة.

لم يُعطَ رئيس مصر المخلوع مُرسي فرصةً حتى انتهاء ولايته، لربّما كان بالإمكان كأحد أدنى أن يحافظ الشعب المصري على الحالة الديموقراطية كأرضيّة يمكن البناء عليها مستقبلاً. في أي حال، فشلت المحاولة المصرية لإحقاق قوانين العدالة والمساواة وتشارُك السلطة فشلاً مدويّاً وذريعاً. انتحرت المحاولة المصريّة، وتم تكريس الديكتاتورية إلى أجل غير مسمّى… أكثر من 98 مليون إنسان يحكمهم رجل واحد، بدعم ورضا شعبي أولاً، وبأموال اللاعبين الدوليين ثانياً: السعودية والإمارات دعمتا الجيش، في مقابل دعم قطري تاريخي لجماعة الإخوان المسلمين… 

بأين المفرّ من هذه الثنائية الفانتازية الوضيعة وداعميها ومؤيّدِيها والقائمين على تطبيقها في الرخاء والشدّة؟

سوريا الحرب الأهليّة

في سوريا، تلك الجغرافيا التي كان لها مع مصر الأثر الأكبر في تكريس القطبين، الديكتاتور/ أمير المؤمنين، في تلك الجغرافيا التي كنتُ شاهداً على ما حصل فيها بحكم الانتماء الميلادي التاريخي. هنا حكايةٌ أخرى، درسٌ قاسٍ، حربٌ أهليّة، ودعوة عنيفة لاختبار معايير الصح والخطأ، كالعادة.

اندلعت احتجاجاتها السلميّة في مارس/ آذار 2011، قيل إن (الشعب) بمختلف أطيافه خرج يحمل الورود طالباً الحرية والكرامة التي سَلبتها منه عائلة الأسد منذ عقود، وكأن شيئاً ما كان يُوحي بأن سوريا تَرفض حتى أشكال الحكم الملكي في قريناتها من الدول، وأنها تبتغي الأشكال الحديثة للحكم وقوانين إحقاق العدالة… لكن ذاك الشعب، أبناء جلدتي، اختلفت أطيافه منذ البداية على معنى الحرية، والدولة، وتعريفات أخرى تشمل الشعب نفسه. وبان ذلك في الشعارات المبكرة من قبيل: “قائدنا للأبد سيدنا محمد”، “اللي ما بيشارك بالتظاهرات أمّو علويّة”. كانت كذبة واحديّة الشعب السوري الضحيّة المثيرة للشفقة، واضحة وجليّة.

لم يُعطَ رئيس مصر المخلوع مُرسي فرصةً حتى انتهاء ولايته، لربّما كان بالإمكان كأحد أدنى أن يحافظ الشعب المصري على الحالة الديموقراطية كأرضيّة يمكن البناء عليها مستقبلاً.

مع أول اختبار جدّي، حين استخدم الأسد السلاح ضد مناوئيه، واتهمَ ما سماها إعلامه الرسمي وأبواقه على الشاشات، «جماعات إرهابية مسلّحة ضد النظام تقتل معارضيه». اندفعَ مناوِئُوه نحو التسلّح، وما لبثت تلك الاحتجاجات أن تحوّلت إلى صراعٍ دمويّ مميت بين بشار الأسد وخصومه، وتأججت في قلب ذاك الصراع القوى التي كان والده حافظ صدّرها إلى الغرب بادئ ذي بدء (التفجيرات الانتحارية).

منذ البداية، كرّر ديكتاتور سوريا أكثر من مرة: «إن ثمن المقاومة أكثر بكثير من ثمن الاستسلام»، لذا، وعند تلك المرحلة من التاريخ الذي عايشناه، أطلق الأسد سراح آلاف الإرهابيين الإسلاميين الذين كان يعتني بهم في سجونه، إبان عودتهم من العراق، خرَجوا مع جملة من اليساريين وغيرهم. ويُروى أن بعض المعارضين السياسيين وأولئك الإسلاميين كانوا يتشاركون الزنزانة نفسها. خرجوا وتغلغلوا داخل المعارضة، وتصدّروا المشهد المُبهَم فيها، بولاءات على مستوى الانتماء والتبعيّة في كل ما هو عدا سوريا الدولة.

كان الأسد عام 2011 على وشك أن يدفع ثمن هَوَسِه بالحاسوب والإنترنت غالياً حين احتشد الناس ضده، ورأوا عبر الإنترنت العالمَ الكبير الذي يتخطى حدود بلادهم القصيّة البعيدة من عصري النهضة والتنوير. تماماً كما دفع والده ثَمَن هَوسه بِطرد الأميركيين من العالم العربي غالياً أيضاً حين تجاهل الجميع، وحوصر اقتصادياً ليدمّر البلاد معه ويُفقرها ويَجعل من السوريين وحوشاً يصارعون لأجل البقاء.

إلا أن الاثنين أجادا الاستفادة من حماقتهما كديكتاتوريين. استخدم الأب حصارَ العالم له دليلاً على صحة ما يصبو إليه، والثاني صدع الرؤوس بأن الإرهاب يضرب بلاده، وظلَّ يعمل من تحت الطاولة على إخراج كل من هو قادر على تصدّر شيء من المشهد القاتم المقبل، ومنهم قادة المعارضة، دعاة السلاح، دعاة الأسلمة، المثقفون العاطفيّون. جميعهم أخرجهم الأسد الابن من السجن بعد سنوات من الهندسة السيكولوجية القائمة على قهر النفوس وإذلالها.

قيل إن ردَّ الفعل المتوحش للثورة كان لا بد منه تجاه الوحوش أمثال الأسد وغيره، والحقيقة أن رد الفعل المتوحش ذاك غاية في الهمجية، وموغل حتى حَلْقه في الغوغائية، وينمّ عن إحباط أزلي، عدمي، لا يهدف إلى شيء، سوى مجرّد التعبير بطريقة ما عن الألم، جراء اجتراع الذل والجهل والقمع والقهر والاستبداد والاضطهاد. لم يكن السوريون يعرفون حتى المطالبة بحقوقهم، ولا وسائل نيلها، كان شعارهم كوصيّة والدتي (اللي يضربك… اضربه). هذا منطق التجار الخاسرين أمام الجميع، والفائزين أمام زوجاتهم وأمّهاتهم فقط. العاطفة المشوبة، والأحاسيس المتّقدة التي كنا نرى نموذجها على وجوه معارضي الأسد المسلّحين وغيرهم، ظهرت جليّاً أنها لم تكن شيئاً في سبيل تحقيق الانتصار.

تبلور الإرهاب بصورته التي رأيناها وبرّر وجودَه السوريون أولاً، شعبيّاً في التظاهرات المنقسمة بين رايات سوريا ما قبل البعث، والرايات الدينية السود، وسياسياً على مستويي الإخوان بُملحقاتها السلفيّة الجهاديّة، والرديف المثقف العاطفي المسكين… في الوقت الذي كانت فيه الجماعات الإسلامية بأطيافها تمتلك ما تعتقد أنه أدلة قرآنية وليست ألغازاً على مشروعيّة عملها وصحّته المُطلقة، خَلص المثقفون روّاد وحُكماء الثورة بنتيجة يُعتقد بأن لها صلة بعلم الاجتماع تقول: شعب مسلم، كيف له أن يحمل السلاح من دون أن يفكّر بالحوريات والجنة؟. هذا كله بمباركة ودعم قطريين. 

راح سياسيو المعارضة ممن كانوا في السجن يبرّرون خارجه التعاون مع الإسلاميين شركائهم المنبوذين من قبل السلطة، والتعاون حتى مع “القرود الزرق” لإسقاط النظام كمطلب جوهري لا حِياد عنه، إلا أن الجميع في نهاية المطاف سقط في الفوضى.

في ظل وجود مجتمع مدني يعاني من الهشاشة، لم يكن غريباً أن يحدث ما حدث، وأن يدخل مواطنو الأنظمة الفاسدة وتلك التي سقطت أو كانت آيلة إلى السقوط، لم يكن غريباً أن تدخل في فترات طويلة من الاختلاج والتضخّم والانقباض الفوضوي. للأسف لم تكن تدور تلك الحالة الفوضوية في فلك بناء دولة جديدة، إنما تكوين ثقافات ومفاهيم وتعاريف سياسية واجتماعية جديدة.

حُيِّد الأكراد، حُيّدت الأقليّات الدينية، ما الخيارات التي كانت متاحة أمام معارض للنظام ينتمي لدين غير الإسلام؟ ألم يكن ظاهراً أن أي حلّ مسلّح هو بالنسبة إليه خطوة انتحارية؟ هل كان فيديو بُث من سوريا لاشتباك مسلّح يخلو من تقديم الأولويّة الدينية؟ دفعت الأقليات باتجاه الأسد خوفاً من التعريف الهويّاتي الضيّق، مفاضِلَةً بين شكلين من أشكال الخوف. كان الأول طمأنة الأكثرية قبل أن تفقد صوابها وتبطش بنفسها وبمن حولها. في أي حال تم احتكار الحراك ضد النظام السوري لمصلحة المكوّن العربي السنّي خصوصاً، واستفادت الجماعات الإسلامية من ذلك حتى الرمق الأخير. كان بشار الأسد وغيره من الديكتاتوريين يمثلون بالنسبة إلى الإسلاميين فشل القوانين الوضعية برمّتها، لذلك كان الحل الإسلامي، ولطالما سمعْت: “جرّبنا العلمانية (يقصدون بشار الأسد) نريد خلافة على منهاج النبوة”!

كانت الوطنيّة بالنسبة إلى الإسلاميين تعني ضرب الحدود الجغرافية إلى ما قبل سايكس بيكو نظرياً، إلى ما بعد سايكس بيكو عملياً، كالثورة الإسلامية في إيران

من انضمّوا إلى بشار الأسد قالوا إنهم لا يريدون ديناً (متشدداً) كما في السعودية، واعتبروا أن بلادهم علمانية تفصل الدين عن الدولة. ومن عارضوه بالسلاح أرادوا ما هو أسوأ من النظامين الإيراني والسعودي.

ألغت الجماعات الإسلامية الطابع العفويّ لثورة المسلمين الفقراء الذين أرادوا دولة تحميهم وتحترمهم وتعطيهم حقوقهم، وجيّرتهم لمصلحة حكم إسلامي مُختَرع بدائي قَبَلي تقتصر قوانينه الاقتصادية على الجباية والغزو.

هبطوا إلى الشعارات الطائفية، فبرّروا للجميع مشروعيّة العودة بالزمان إلى الوراء، أعمق فأعمق، والانغلاق داخل الدائرة الضيقة. صار الجميع طائفياً يحاول الدفاع عن نفسه ضد ابن الطائفة الأخرى، ثم يلوم وسائل الإعلام التابعة لأنها لم تُجِدْ تقديم صورة الإسلام الصحيح، أي إسلام صحيح هذا؟

تسأل هذه الأسئلة فتأتي الإجابة بحديث محمّدي: من آذى ذمّياً (صاحب ديانة أخرى) فقد آذاني، و«من آذى ذمياً فقد آذنته بالحرب»، يقولون إننا لا نؤذي المخالفين لنا دينياً لأننا بذلك نؤذي النبي… لا وقائع ملموسة على الأرض السورية اليوم إلا البؤس، وغياب صورة الإسلام “الصحيح”، الذي لا يعرفُ أحدٌ ما في العالم شكله.

إلى ذلك، حصروا التمويل، احتَكَروا العمل العسكري، عَقدوا صفقات مع “حزب الله” والنظام وإيران لإجراء تغييرات ديموغرافية في سوريا على أساس طائفي. كان “حزب الله” يريد كفريا والفوعة والزبداني ونبل والزهراء، وكانت تركيا تريد السوريين التركمان الموجودين شمال حمص، والمعارضة سنّة حي الوعر في حمص. حوّلوا المشروع الوطني إلى إمارة، «إمارة في إدلب ثم نذهب لنحرر العالم». حَصروا نفسهم في مكان ليحاربوا العالم، فجاءَ العالمُ إليهم ليحاربهم، ثم قالوا: أعداء الدين لا يحبّون عقيدتنا!

لم يكن هذا المشروع قادراً على خلق حالة سياسية، ولن يكون أبداً. لا حالة سياسية من دون شراكة، لكن، أين الشراكة في معاداة العلوية، الشيعة، الأكراد، العلمانيين، الملحدين؟ خاطَبوا الجميع أن “لا مكان لكم في سوريا، اذهبوا إلى بلاد على شاكلتكم”. هَددوا بالقتل، وقدّموا أنفسهم بطريقة مثالية جداً من منظور النص القرآني المتضارب والمتناقض وغير المجدي.

كانت الوطنيّة بالنسبة إلى الإسلاميين تعني ضرب الحدود الجغرافية إلى ما قبل سايكس بيكو نظرياً، إلى ما بعد سايكس بيكو عملياً، كالثورة الإسلامية في إيران، الثورة العابرة للحدود، كسيد قطب، كبقيّة القوميين الدينيين وغيرهم.

في النهاية، قالوا إن بشار الأسد باعَ البلاد لإيران وروسيا، ولا يملك من الأمر شيئاً، أي أنهم من يملك. ارتهنوا لمشاريع قطر والسعودية وتركيا، انتصرَ الجميع بمن فيه بشار الأسد، وخسروا هم… لدرجة أن أحداً منهم لم يجرؤ على القول: قدّرَ الله وما شاء فعَل! وكأنهم يثقون تماماً بأن «الله» هو شيء أشبه بالحظ، وأن النشرة الجويّة أصدق من وعوده. 

لقد أجاد الديكتاتور السوري استخدام أعدائه وحلفائه في العمق، أشعلَ الحرب الأهليّة، أعانته على شنّها الديكتاتورية الثالثة، بعد العسكرية الشمولية، والدينية الكهنوتيّة، ديكتاتورية الشعب بأعرافه وعقيدته الجمعيّة، وبفزعاته الغوغائية، الشعب الذي يَسْهل شحنه وتعبئته وقت اللزوم بين المساجد ومراكز التجنيد الإجباري. 

أصابت الحرب السورية السياسيين الغربيين بالحيرة، شددوا في البداية على أن الأسد شرير، لكن اتضح لهم في ما بعد أن أعداءه أكثر شراً منه وأكثر فظاظة، وهكذا سمعنا كاميرون وهو يقول: «المسألة المعروضة أمام المجلس اليوم هي كيفية حماية الشعب البريطاني من تهديد جماعة داعش… مسألة محاربة الإرهاب محسومة، لكن القضية هي: ما هي أفضل الطرائق لذلك؟». وهكذا قررت أميركا وبريطانيا وفرنسا استهداف التهديد الإرهابي لأرضها وشعوبها، وتَرْك الأسدِ وشأنَه.

انتصرَ الأسد، على رغم الدموع، والآلام، وصرخات الاستغاثة والنداء، والصلوات، والسجدات، والرمضانات، وليالي القدر، وأدعية آناء الليل وأطراف النهار… لعلّ «الله إذا أحبَّ عبداً ابتلاه» ببشار الأسد، بالسيسي، بسيد قطب، جمال عبد الناصر، بالسادات، بالظواهري، ببن لادن، بـ”حزب البعث”، بحافظ الأسد، بالطليعة المقاتلة، بالإخوان، بحركة “حماس”، بـ”حزب الله”، بالطائفيين، بالإقصائيين، بقطر، بالسعودية، بإيران، بالإمارات، بتركيا، بداعمي الأسلمة وداعمي العسكر، وبالحمقى الذين لم يعتادوا الحياة ولم يألفوها.

ثنائية الإسلام الراديكالي والديكتاتورية العسكرية (7): سوريا الأسد الابن والصناعة العلنيّة للإرهاب

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.