fbpx

جاك شيراك : رحيل آخر الديغوليين الذي أحبه العرب والفرنسيون…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في صعوده وهبوطه ورحيله، يشبه جاك شيراك كثيراً حال عائلته الحزبية، وربما يكون العنوان الذي اختارته يومية “ليبراسيون” اليسارية الأكثر تعبيراً عن شخصية الرجل ومساره السياسي ومعاركه التي خاضها: الحرباء المتلوّنة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
شيراك كما بدا في سنواته الأخيرة

في الشقة التي أهداه إياها صديقه رئيس الحكومة اللبناني الراحل رفيق الحريري، في الدائرة السابعة في العاصمة الفرنسية باريس، أسلم جاك شيراك الروح. قرّر أن يمضي أيامه الأخيرة في تلك الشقة بعد أن تركها عام 2015، لأسباب تتعلّق بمضاعفات صحيّة كبيرة ألزمته التنقّل على كرسيّ متحرّك. رحل شيراك، تاركاً بيته، “بيتنا الكبير يحترق” – خطابه الشهير في قمة جوهانسبورغ عن التلوّث والتغيّر المناخي -ومخلفّاً وراءه عائلةً سياسية مشتّتة، التحق ركبها الجمهوري الاجتماعي (إرث آلان جوبيه وبيار رافاران) بالرئيس الحالي إيمانويل ماكرون وقرّر جناحها الأكثر تشدّداً مصارعة الرياح أو الرضوخ لأجندة أكثر يمينية.

في صعوده وهبوطه ورحيله، يشبه جاك شيراك كثيراً حال عائلته الحزبية، وربما يكون العنوان الذي اختارته يومية “ليبراسيون” اليسارية الأكثر تعبيراً عن شخصية الرجل ومساره السياسي ومعاركه التي خاضها: الحرباء المتلوّنة. فالرجل الذي طبع المشهد السياسي الفرنسي على مدى 40 سنة كان يوازن بين الشارع الشعبي والقصر الفخم، بين الطالب الذي يوزّع المناشير والمسؤل الحزبي الذي يقود سيارة الـCitroën SM، بين الرئيس الذي أسرته باريس والمواطن العادي الذي يعود في كل الفرصة إلى جذوره في إقليم الكوريز حيث طفولته والعائلة الكبيرة.

ولد جاك شيراك عام 1932 في باريس، لكنّ عائلته كانت تفضّل الاستقرار في الريف، ما أجبره على إتمام صفوفه الدراسية الأولى في قرية سانت-فيريول في الكوريز في محافظة الليموزان. أنهى الشاب اليافع، الذي بدأ يهتمّ بالشأن العام مبكّراً وانجذب إلى حلقات شيوعية كانت تعقد في قريته، البكالوريا العلمية بتقدير “لا بأس”، وقرّر على رغم علاماته “العادية” أن يدرس العلوم السياسية في باريس. إنما سرعان ما وجد نفسه يبيع صحيفة L’humanité الشيوعية، برفقة صديقه الناشر كريستيان بورغوا في شارع فوجيرار في باريس. بعد سنة في المدرسة الصيفية لجامعة هارفارد العريقة، عاد شيراك إلى باريس ودخل إلى المدرسة الوطنية للإدارة وحلّ ثالثاً على دفعته، ما مكّنه من تحصيل وظيفة سريعة في بلدية باريس، التي أصبح رئيسها بين عامي 1977 و1995.

خلال عمله في بلدية باريس، تعرّف شيراك إلى فريق رئيس الوزراء آنذاك جورج بومبيدو وأصبح مقرّباً جداً من الخط الديغولي في السياسة العامة، وفي تلك المرحلة بدأت تتوضّح أكثر فأكثر حنكة الشاب الآتي بطموحات وأحلام كبيرة لبناء حزب سيصبح سريعاً لاعباً رئيسياً في فرنسا وأوروبا.

في طريقه إلى توحيد اليمين الجمهوري حول شخصه ومشروعه، قضى شيراك على كل خصومه (وأصدقائه) في الحزب الذي أسسه “التجمع من أجل الجمهورية” (RPR) وهو ما أطلق عليه بعض الصحافيين الفرنسيين آنذاك سياسة “تنظيف البيت الداخلي” (تمكن مراجعة باتريك جيرار وفرانز-أوليفيه جيسبير في كتاب “تراجيديا الرئيس/ مشاهد سياسية، 1986- 2006). كثر هم ضحايا شيراك الذين تخلّص منهم بحنكة كبيرة، وعلى رأس القائمة رئيس وزراء بومبيدو نفسه، جاك شابان-دلماس، عندما قرّر عام 1974 دعم فاليري جيسكار ديستان ثم انقلب عليه عام 1981 وأعطى أوامره لمحازبيه بدعم ميتيران سرّاً في الدور الثاني. وأعرب ديستان في وقت لاحق في حوار مع صحيفة “ليبراسيون” عن خيبته جرّاء “خيانة” شيراك وقال، “شيراك قتلني” (حوار منشور في عدد 29 أيلول/ سبتمبر 2006 من ليبراسيون).

ولاية شيراك الأولى (1995- 2002)

في نهاية الثمانينات كسر شيراك “بلوك” الحركة التجديدية في حزب “التجمع من أجل الجمهورية” ومنع إمكان وصول شارل باسكوا (وزير الداخلية الأسبق) وفيليب سيغان إلى قيادة الحزب ليطيح برئيس الحكومة الأسبق ادوارد بالادور في “صراع الإخوة الأعداء” في الدور الأول من رئاسيات عام 1995. في تلك الفترة، برز صراع خفي بين تيارين يمينيين داخل الحزب، تأسّس على دعم شيراك أو بالادور في الانتخابات المقبلة، وارتكز بشكل رئيسي على الموقف من معاهدة ماستريخت وقيام الاتحاد الأوروبي. من بين الأسماء التي اصطفت مع بالادور آنذاك في وجه شيراك برز اسما فرانسوا فييون ونيكولا ساركوزي الذي كان لسنوات طويلة مسؤولاً عن المكتب الشبابي الشيراكي. على الجهة الأخرى، أعلن آلان جوبيه دعم شيراك في وصوله إلى الإليزيه وهو الذي يعمل معه في بلدية باريس منذ عشر سنوات مستشاراً إدارياً، ويشاركه نزعة اجتماعية- ديموقراطية بومبيدوية (نسبة إلى جورج بومبيدو).

يعتبر بعض المتابعين والنقاد أنّ شيراك لم يكن يوماً يمينياً – اريك زيمور في كتابه “الرجل الذي يحب نفسه” يرى أنّ شيراك أصبح يمينيا بالمصادفة! – ولم يحبّذ هذا الاصطفاف بين اليمين واليسار، على رغم اعتزازه بعائلته السياسية. وتورد صحيفة “لو باريزيان” في عددها الصادر في 10 حزيران/ يونيو 2009، مقالاً عنونته “شيراك يعود إلى أرضه”، وفيه مقتطف لزوجته بيرناديت، وهي من سلالة شودرون دو كورسيل الأرستقراطية، تقول فيه لفرانسوا هولاند وهو من الإقليم ذاته الذي ولد فيه شيراك (كوريز): زوجي كان دوماً يسارياً!

في الوقت الذي احتدم فيه الصراع على اختيار مرشح موحّد لليمين الجمهوري، وفي ظل صعود تيار اليمين المتطرف وسطوع نجم جان- ماري لوبان وتراجع “الحزب الشيوعي الفرنسي”، كان “الحزب الاشتراكي” أعلن للمرة الأولى عن انتخابات داخلية نجح فيها ليونيل جوسبان في نيل 65 في المئة‏ من أصوات المحازبين أمام هنري ايمانويلي الذي حظي بمنصب الأمين العام قبل أشهر، نتيجة دعم تيار لوران فابيوس في وجه دومينيك ستراوس – كان.

تخلى فابيوس عن دعم ايمانويلي في الانتخابات الداخلية، وأعلن الحزب عن ذهابه بمرشح موحّد هو ليونيل جوسبان.

تصدّر ليونيل جوسبان الدور الأول وحلّ شيراك ثانياً، فيما خرج بالادور مهزوماً، على رغم أنّ التوقعات كانت تشير إلى فوزه في الانتخابات حتى أسابيع قليلة سبقت الدور الأول. لكنّ الحقيقة أنّ بالادور نفسه لم يكن يرى نفسه سوى الرجل الثاني في البلاد أي رئيس للحكومة. في 7 أيار/ مايو 1995، نجح جاك شيراك في الحصول على 53 في المئة‏ من أصوات الفرنسيين وأصبح الرئيس الخامس للجمهورية الخامسة.

 فشلت حكومة آلان جوبيه في التعاطي مع الضغط الشعبي والتظاهرات الكبيرة التي اندلعت بعد إقرار سلسلة من القوانين، كان أبرزها قانون التقاعد وخصخصة الكثير من الشركات وتسريح آلاف الموظفين.

وتغطية على الفشل الاقتصادي، حاول شيراك امتصاص الغضب الشعبي وأعاد إطلاق مشاريع التجارب النووية في المحيط الهادئ وعمد إلى الاعتراف بمسؤولية فرنسا المشتركة عن جرائم النازية في الذكرى السنوية لمجزرة المضمار الشتوي (Vélodrome d’hiver)، التي ارتكبها النازيون بحق يهود باريس وذهب ضحيتها 13 ألف يهودي خلال الحرب العالمية الثانية.

شيراك مرحبا بالزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في قصر الاليزيه

خارجياً، توجّه شيراك إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة وأثناء الزيارة، عندما كان يهمّ لزيارة المسجد الأقصى خارجاً من كنيسة القيامة، تعرّض لمضايقات من الشرطة الإسرائيلية، ما جعله يغضب على الهواء مباشرة فتوجّه للشرطة بالقول: “هل تريدونني أن أغادر حالاً إلى باريس؟”. اللقطات التي نقلتها الكاميرا تصدّرت نشرات الأخبار الفرنسية والعالمية وشكّلت رصيداً كبيراً لشيراك في البلاد العربية (تمكن مراجعة وثائقي كريستوف ويدمان عن تلك الزيارة إلى القدس “يوم غضب الرئيس”).

اتفاقيات السلام

كان لشيراك اليد الطولى في التوصل إلى السلام في البوسنة والمساهمة في توقيع اتفاقية دايتون لإنهاء الحرب (تم توقيع الإتفاقية في الإليزيه في باريس) وشهدت تلك المفاوضات أولى شرارات التوتر بين الإدارة الأمريكية وشيراك على خلفية تأخر كلينتون في الموافقة على إصدار قرار أممي واضح يدعم مسلمي البوسنة ويحميهم ويضع حداً للقائدين الصربيين ميلوسوفيتش وكارازايتش. لكنّ حنكة شيراك وثقافته الواسعة وديبلوماسيته (multilatéralisme) فرضت على كلينتون الموافقة على القرار في قمة الدول السبع الكبرى (راجع مذكرات مادلين أولبرايت الصادرة عام 2003).

بناء على نصيحة وجّهها له السكرتير العام للإليزيه ومخضرم الديبلوماسية الفرنسية دومينيك دو فيلبان وأمام الصعوبات التي تواجهها الأكثرية النيابية، أعلن شيراك حلّ الجمعية الوطنية، ودعا إلى انتخابات تشريعية مبكّرة، كانت نتيجتها متوقعة. وذلك بعد التوجّه الذي قامت به المعارضة اليسارية لإنشاء تحالف انتخابي تتوّجه بتحالف حكومي تحت مسمّى “اليسار المتعدد” (gauche plurielle) الذي ضم الاشتراكيين والشيوعيين والخضر ومجموعات يسارية راديكالية.

نجح اليسار في اكتساح الانتخابات وحصل على ثلاثة أضعاف عدد مقاعد اليمين وأصبح جوسبان أكثر من أي وقت مضى المرشح الأقوى للوصول إلى الإليزيه في الانتخابات المقبلة، بخاصة مع تسريب فضائح مالية متعلّقة بوظائف وهمية في الفترة التي كان شيراك يشغل فيها عمدة باريس، إضافة إلى دعوات علانية لاستنطاق شيراك (تبناها عدد من نواب اليسار على رأسهم أرنو مونتبورغ)، تم رفضها من المجلس الدستوري الذي منح شيراك حصانة رئاسية.

 

في كتاب “شيراك العرب، سرابات سياسية فرنسية”، للكاتبين إريك ايشيمان وكريستوف بولتانسكي، يحضر “ضابط الإليزيه” (كما تسميّه برناديت) الذي شارك في حرب الجزائر بشكل تطوعي، كأكثر زعيم غربي أحبّه العرب.

 

ولاية شيراك الثانية (2002- 2007)

في الورشة الداخلية لحزبه الذي اتخذ اسماً جديداً “الاتحاد من أجل حركة شعبية” (UMP)، بدأت أسهم شيراك تتراجع، وبدأ نجم نيكولا ساركوزي يسطع، لكنّ شيراك حافظ على قوته في الحزب بين سنتي 2002 و2004، عندما تولّى آلان جوبيه رئاسة الحزب فيما كان ساركوزي يجهّز لانقضاض كامل على مفاصل الحزب في السنوات المقبلة مدعوماً بزخم الالتفاف اليميني حول شخصه، بعد أحداث الضواحي ومسؤوليته المباشرة عن إخمادها عند استلامه حقبة وزارة الداخلية. 

كانت العلاقة في السنتين الأخيرتين من حكم شيراك بدأت تتوتر مع جوسبان، وسط خلافات داخلية حول حل أزمة “جنون البقر” ومنع استعمال “الجيلاتين الحيواني”، وخارجية نشبت بعد أحداث أيلول 2001. لكنّ تلك السنوات الطويلة من حكومة التعايش الثالثة، شهدت إنجازات غير مسبوقة على الصعيد الرياضي، إذ استطاعت فرنسا أن تفوز بكأس العالم للمرة الأولى والوحيدة في تاريخها وعلى أرضها عام 1998، تبعها الفوز ببطولة كأس الأمم الأوروبية عام 2000. وشهدت حكومة جوسبان تحسناً ملحوظاً في انخفاض نسبة حوادث السير، فانخفضت نسبة ضحايا الطرقات نحو 40 في المئة‏ (8500 مواطن نجوا من الموت نتيجة الاهتمام بتحسين الطرقات والتشدد في قوانين السير). 

شهدت انتخابات 2002 مقاطعة شعبية هي الأكبر منذ عام 1962 (بدء الاقتراع العام المباشر)، قدّرت بحوالي 28 في المئة، مع مشاركة 16 مرشحاً في السباق نحو الإليزيه، لكنّ أحداً لم يتوقّع أن يصبح نهار “21 نيسان/ أبريل 2002″، يوماً تاريخياً أسّس لفكرة “التصويت التكتيكي” (Vote utile) لاحقاً، وجعل اليسار الفرنسي يعيد طرح الأسئلة مجدداً حول غياب المشروع والبرنامج السياسي الذي جعل مرشح اليمين المتطرف جان-ماري لوبان يتفوّق على مرشح الإشتراكيين ليونيل جوسبان الذي فشل في توحيد اليسار حول ترشحه.

 واثق من نفسه، يوزّع الإبتسامات منذ الصباح، وعارف بتواجده الحتمي في الدور الثاني، أمضى ليونيل جوسبان وقت ما بعد الظهر في منزله بعيداً من صخب الإعلام والمحازبين. عند السابعة مساء وبحسب الصحافية في “الإكسبرس” آن فيدالي، دخل جوسبان إلى المركز الانتخابي للحزب الاشتراكي قرب ساحة الجمهورية، وسط صمت رهيب، حضر فرانسوا هولاند، مارتين أوبري، بيار موسكوفيسي، لوران فابيوس، دومينيك ستراوس-كان وآخرون من دون أن يجرأ أحد على القول أنّ كارثة وشيكة ستحلّ بعد قليل. وبحسب فيدالي دائماً، “دفع جيرار لو غال، الخبير في الاستفتاءات والإحصاءات، الباب وقال: ليونيل، أنت لست في الدور الثاني. شيراك الأول ولوبان ثانياً. يترك جوسبان الغرفة بوجه شاحب وعلامات الصدمة لا تفارقه ليصيغ خطاب الخسارة ويعلن بجرأة لم تشهدها الحياة السياسية الفرنسية سوى مرة واحدة مع شارل ديغول، تحمّله الخسارة الكاملة وانسحابه من الحياة السياسي بشكل نهائي”.

أصبحت عبارة “21 نيسان”، تعني زلزالاً سياسياً في فرنسا، وكثر لاحقاً استعمالها للتدليل على “صفعة سياسية” تاريخية تعرّض لها اليسار الفرنسي. غداة الخسارة وانسحاب جوسبان النهائي، خرجت تظاهرات في مختلف المدن الفرنسية ترفض وصول جان- ماري لوبان إلى الدور الثاني، ووصل عدد المتظاهرين إلى مليون ونصف المليون ليل 22- 23 نيسان في ظل دعوات من مختلف الأحزاب إلى المشاركة بكثافة في الدور الثاني، لمصلحة جاك شيراك. وفي ظل رفض الأخير المشاركة في مناظرة تلفزيونية وجهاً لوجه مع لوبان، شكّلت تلك الفترة مرحلة جديدة في الوعي السياسي الفرنسي، شبّهها كثيرون بأيار 1981 عندما نجح الاشتراكيون في الوصول إلى الحكم للمرة الأولى. 

حصل جاك شيراك على أعلى نسبة أصوات قي تاريخ الجمهورية الخامسة (82 في المئة‏)، وانتخب رئيساً لولاية ثانية كان حدّد سنواتها بخمس بدل سبع بعد التصويت على القانون في الجمعية الوطنية عام 2001.

طبعت الأحداث الخارجية الولاية الثانية من حكم شيراك، من التدخل في أفغانستان، فحرب العراق التي عارضها، مروراً باغتيال صديقه رفيق الحريري وانقلاب موقفه من نظام الأسد، وإصراره على التوصّل إلى سلام فلسطيني – إسرائيلي. وعلى رغم ذلك، شهدت ولايته مشكلات داخلية كثيرة، فقد عرفت حكومة بيار رافاران أزمة أمنية كبيرة “أزمة الضواحي”، عندما اشتعلت باريس غضباً، وأحرق سكان الضواحي آلاف السيارات والمباني احتجاجاً على مقتل طفلين في مبنى شركة الكهرباء بعد ملاحقتهما من الشرطة الفرنسية. كما شهدت حكومة دومينيك دو فيلبان أزمة اقتصادية-اجتماعية تمثّلت باحتجاجات شعبية كبيرة رفضاً لعقد الوظيفة الأول (CPE ou contrat de première embauche). وإذا كان برنامج شيراك الإنتخابي قام على محاربة التفاوت الطبقي وإيجاد حلول جذرية لـ”الشرخ الاجتماعي” (fracture sociale)، الذي نظّر له المفكّر ايمانويل تود مطولاً، فإنه فشل في في خفض الدين العام والقضاء على البطالة كما وعد على رغم نجاحه في تحقيق نمو اقتصادي قارب 2.1 في المئة عام 2006.

شيراك في لقاء مع الرئيس العراقي صدام حسين عام 1976

يبقى موقف شيراك الرافض حرب العراق هو الأبرز من ضمن جملة مواقفه الخارجية، وهو ما جعله عرضة لانتقادات يومية في الصحافة الأنغلوسكسونية. ويبقى خطاب ممثل الديبلوماسية الفرنسية دومينيك دوفيلبان في مجلس الأمن وتصويته بـ”لا” مستخدماً حق النقض الفيتو، عشية اجتياح العراق، الأقوى والأكثر تأثيراً في ذاكرة الملايين من العرب الذين ثمّنوا هذا الموقف التاريخي لفرنسا. ويتذكّر كثيرون كيف رفض شيراك استقبال كولن باول وديك تشيني في الإليزيه، عشية التاسع من نيسان 2003.

في كتاب “شيراك العرب، سرابات سياسية فرنسية”، للكاتبين إريك ايشيمان وكريستوف بولتانسكي، يحضر “ضابط الإليزيه” (كما تسميّه برناديت) الذي شارك في حرب الجزائر بشكل تطوعي، كأكثر زعيم غربي أحبّه العرب. ويحضر بشكل خاص مدافعاً عن عملية السلام في الشرق الأوسط، وإن كان حضوره غنياً ومحبّباً في الدول المغاربية وفي أفريقيا السوداء، فإنّ للبنان مكانة خاصة عند شيراك إذ عمد إلى زيارة العاصمة بيروت فور انتخابه، عام 1996 ورافقه صديقه رفيق الحريري في تلك الزيارة وأطلعه على ورشة إعادة الإعمار ومعه بدأت مؤتمرات باريس الاقتصادية لدعم لبنان. وكرّر شيراك تلك الزيارة 5 مرات، من بينها زيارة تاريخية افتتح فيها قصر الصنوبر بحلّته الجديدة في العاصمة اللبنانية.

ولا ينسى مئات آلاف اللبنانيين دعم شيراك لهم في انتفاضة 14 آذار/ مارس 2005، التي جاءت لتسرّع تطبيق القرار الأممي 1559 القاضي بسحب القوات السورية من بيروت إثر اغتيال الحريري، وتبقى صورته خارجاً من ساحة الشهداء على وقع هتافات “Vive Chirac, Vive la France” من أكثر الصور تجسيداً للعلاقة التي ربطته بلبنان ومآسيه.

خرج جاك شيراك من الإليزيه عام 2007 وغاب بعدها عن المشهد السياسي لسنوات طويلة، مع اكتفائه بإطلالة دورية من حين إلى آخر كتصويته لفرانسوا هولاند عام 2012 ودعمه آلان جوبيه عام 2017 (صديقه ومرشحه الحزبي المفضّل وآخر ورثة الخط الاجتماعي الديغولي). وتفرّغ لعمله في مؤسسته الاجتماعية “مؤسسة جاك شيراك” وأصبح يمضي معظم أيام السنة في الريف بعيداً من صخب العاصمة. 

انتكست صحّته بشكل كبير عام 2017، وتدهورت حالته بعد وفاة ابنته لورانس. ووسط كلام كبير عن مراسم وداع وطنية وسط غموض حول مكان دفن شيراك، لا يخفى على أحد اليوم رغبته الدفينة في أن يجاور ضريح ابنته في مقبرة مومبرناس، الأمر الذي رجّحت حصوله وسائل إعلامية فرنسية.

فرنسا: لماذا لن ينجح ماكرون في تجريم معاداة الصهيونية ومساواتها بالعداء للسامية؟

 

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.