fbpx

نيويورك تايمز : قصة مئات ملايين الدولارات القطرية سلمتها الدوحة الى حزب الله لقاء رهائن الأسرة الحاكمة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

إذا كان القطريون قد دفعوا ما يقرب من 400 مليون دولار إلى كتائب حزب الله (جماعة أدرجتها الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية)، فمن شأن ذلك أن يضع الكثير من الدماء على أيديهم، وعلاوة على ذلك، إذا تم دفع المال عن طريق بيروت، فمن المنطقي جداً افتراض أن حزب الله (الذي تم إدراجه أيضاً كمجموعةٍ إرهابيةٍ) قد حصل على نصيبه منها.إن مبلغ 50 مليون دولار المدفوع إلى جبهة النصرة (مجموعة أخرى على قائمة الإرهاب) وأحرار الشام، أمرٌ مزعجٌ أيضاً، على الرغم من أن تلك الجماعات تشكل الآن تهديداًً في الغالب لنظام الأسد وحلفائه وليس للغرب .

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تمتاز قاعة كبار الزوار في مطار بغداد الدولي بنظافتها وهدوئها، قاعة يبلغ طولها حوالي ربع ميل بعيداً عن الضوضاء والضجيج في صالة الوصول والمغادرة الرئيسية. فإذا كانت لديك العلاقات الصحيحة وتمتلك مبلغ قدره 150 دولاراً أميركياً فقط – يُمكنك انتظار رحلتك في رفاهية وراحة على أحد الأرائك الجلدية البيضاء الناعمة، واحتساء كوب من قهوة الإسبريسو وإلقاء نظرة عن قرب على بعض الأشخاص الاستثنائيين الذين يديرون الشرق الأوسط اليوم.
وفي فترة ما بعد الظهيرة المعتادة، قد تجد من بين المسافرين معك، رجال حرب العصابات المدربين من قِبل إيران ومحاربين قُدامى في فرق الموت، الذين أصبحوا أغنياء بسبب الاختلاس. وإذا بقيت لمدة طويلة بما فيه الكفاية، سيبدأ أباطرة النفط من دول الخليج في الوصول مع وفودٌهم المرافقة ذات الملابس البيضاء، وربما يمرون برجال الحرس الثوري الإيراني في زيهم الرسمي، أو دبلوماسيين من تركيا أو روسيا، جميعهم يأملون إما في ترهيب أو رشوة دولة العراق الضعيفة، لتحقيق منافعهم الخاصة.
الـجميع مرحبٌ به طالما يتحدث لغة المال.
يوجد أعلى الجدار أجهزة تلفاز ذات شاشات عريضة ولوحة جدارية نمطية للعراق القديم، لكي يُمكنك مقارنة كوارث اليوم مع تلك التي حدثت في الماضي. وقبل أن تغادر، سيأخذ مسؤول الجمارك الذي يرتدي حلة داكنة تذكرتك، وجواز سفرك ثم يعود بعد 10 دقائق، مبتسماً في خنوع ويقدم لك الوثائق المختومة بكلتا يديه.
لكن حتى هنا، المعاملة الخاصة لها حدودها. ففي 15 من شهر أبريل/ نيسان من العام الماضي، وصل رجل قطري إلى قاعة كبار الزوار في رحلة مسائية من العاصمة القطرية، الدوحة. وبعد أن عرف نفسه بصفته مبعوث حكومي رفيع المستوى، أعلن أنه هو وزملاءه الأربعة عشر، الذين ارتدوا جميعهم سترات بيضاء خفيفة بطول الكاحل، يطلق عليها الثوب، لا يريدون أن تُفتش أمتعتهم. وقد أحضر القطريون 23 حقيبة سفر مُتماثلة، سوداء اللون، وكأنها قطعة كبيرة من النايلون الأسود مثل شبه جزيرة صغيرة، غطت جزءاً كبيراً من الأرضية الخشبية للصالة. وقد كانت الحقائب ثقيلة للغاية، وصل وزن الواحدة منها إلى أكثر من 100 رطل، مما جعل الحمالين يواجهون المشقة لنقلها إلى الغرفة.
أصرّ العراقيون بأدب، على ضرورة فحص جميع الحقائب، حتى في قاعة كبار الزوار. صُدم قائد الفريق القطري بصورة واضحة لسماع ذلك. وطلب بعض الوقت. وتجمع القطريون لإجراء مناقشة هادئة ثم أجروا عدداً من المكالمات الهاتفية. في النهاية، رضخوا وسمحوا بفحص الحقائب. احتوت كل واحدة منها على أكوام من القوالب المربعة التي تُشبه الطوب، ملفوفة بشريط أسود لا يستطيع الماسح الضوئي اختراقه. وعندما سأل مسؤولو الجمارك عما كان تحت الشريط، رفض القطريون الإجابة. واستمرت المواجهة طوال الليل، وأخيراً، ومع اقتراب الفجر، استسلم القطريون الغاضبون، وتوجهوا إلى بغداد بدون أمتعتهم. في وقت لاحق، فتح العراقيون الحقائب الثلاثة والعشرين واكتشفوا خليطاً من الدولارات واليورو، بلغ قدرها نحو 360 مليون دولار. وبلغ وزن الأوراق المالية أكثر من 2,500 رطل.
بعد مرور أسبوع، ظلت الأموال مُحتجزة، وغادر الفريق القطري بغداد في نفس الطائرة التي أحضرته. وقد رافقهم الآن أكثر من عشرين قطري، بما في ذلك أفراد من عائلة آل ثاني الحاكمة، الذين اختطفوا خلال رحلة صيد في جنوب العراق قبل 16 شهراً. ولم ترد تقارير تروي ما حدث في تلك الرحلة حتى الآن. وانطوت الحادثة على فدية ذات حجم وتعقيد مُذهلين، دفع فيها القطريون مبالغ طائلة للإرهابيين على جانبي الانقسام الطائفي في الشرق الأوسط، مما أجج الحروب الأهلية المتصاعدة في المنطقة.
تجاوزت التكلفة التي تكبدتها قطر ما يزيد على 360 مليون دولار، لكن في نهاية المطاف كانت الأموال النقدية أقل أهمية من البُعد السياسي للصفقة. ولكي تسترد قطر رهائنها، أجبرت على التفاوض بشأن تبادل سكاني مُحكم في سوريا، وذلك باستخدام الميليشيات المتمردة التي تمولها لنقل جميع المُقيمين في أربع مدن تقع في مواقع استراتيجية. وقد عززت عمليات النقل هدف طهران الأكبر المُتمثل في تحويل سوريا – إلى جانب العراق ولبنان واليمن- إلى دول تابعة وموالية من شأنها أن تضمن دوراً إيرانياً مهيمناً في جميع أنحاء المنطقة.
وقد كانت تلك الصفقة بمثابة ضربة لهدف إدارة ترامب المُتمثل في دحر العدوان الإيراني، أما بالنسبة لآلاف السوريين الذين يتضورون جوعاً، كان ذلك يعني طردهم إلى المنفى في ظل اتفاق غامض، في حين لم يكن للحكومة السورية نفسها دور يُذكر. وما بدا وكأنه عملية اختطاف وقحة، أصبح في نهاية المطاف بمثابة مقياس للقوى الجيوسياسية التي تمزّق أوصال الشرق الأوسط، وللتكلفة البشرية، الناجمة عن الفساد والكراهية الطائفية والإرهاب. وقد كان لكل من تورط في هذه الصفقة شيئاً يخفيه – ربما باستثناء الصيادين التعساء الذين تسببوا في الأمر كله.
بالنسبة لصائدي الصقور العرب، فإن طائر الحُبَارَى الأَفْرِيقِيّ – وهو طائر ذو عينين واسعتين، طويل الساقين، في حجم دجاجة كبيرة – هو ملك طيور هواية الصيد. إذ يتمتع بسرعة طيران عالية، مع دفاعات غير عادية: فعندما يُحاصر، يتقيأ مادة زيتية خضراء يمكن أن تُسبب العمى للصقر المهاجم أو تعيق جناحيه بشكل مؤقت. في الأيام التي سبقت اكتشاف النفط في الصحراء العربية، كانت العودة الموسمية لطائر الحُبَارَى في كل خريف تقابلها قصائد شعرية احتفالية ومطاردات طويلة على ظهور الجمال. أما الآن فقد جعلت السيارات الرباعية من نوع لاند روفر الأمور أسهل بكثير، ولكن مطاردة طائر الحُبَارَى، التي يقال إن لحمها القاسي يُثير الشهوة الجنسية، لا تزال واحدةً من المساعي المقدسة – بالإضافة إلى الخيول الأصيلة، واليخوت الضخمة، والقلاع الفرنسية في الريف الأوروبي – التي تشغل عقول ملوك الخليج العربي.
في أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015، غادرت مجموعة كبيرة من صائدي الصقور القطريين، الدوحة في رتل من سيارات الدفع الرباعي، متجهةً إلى الجنوب. وبعد أن عبرت الحدود السعودية، اتجهت القافلة إلى الشمال، واجتازت جزءاً من الكويت واستمرت إلى وجهتها، وهي الصحراء الجنوبية للعراق، التي تقع على بعد 450 ميلاً من الدوحة. تألفت المجموعة من عشرات الأشخاص، بما في ذلك الخدم، وعلى رأسها تسعة أعضاء من الأسرة الحاكمة في قطر، آل ثاني، واحدة من أغنى الأسر الحاكمة على وجه الأرض.
لم تستقبل منطقة الصيد التي اختارها القطريون – والتي تقع في محافظة المثنى العراقية – سوى عدد قليل من الزوار منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003. وتزخر الصحراء في تلك المنطقة بالقنابل العنقودية والألغام التي خلفتها ثلاثة عقود من الحرب المتقطعة. ومع سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على الجزء الأكبر من الشمال وانتشار الميليشيات الشيعية غير المنضبطة في الأماكن أخرى، لم يكن العراق مقصداً سياحياً مرغوباً فيه. إلا أن هذه المساحة الخاصة من الأرض، والتي كانت تخلو من الناس تقريباً، أصبحت ملاذاً موسمياً لطيور الحُبَارَى.
وقد سمع القطريون تقارير مثيرة عن الطيور التي أعادت استيطان المنطقة، وعلى الرغم من التحذيرات المُتعلقة بإمكانية تعرضهم للخطر، لم يستطيعوا مقاومة هذه الفرصة. وخلال الأسابيع الثلاثة القادمة، تجول الصيادون في الصحراء مع حراسهم العراقيين المستأجرين، وكانوا يهبون أحياناً هدايا باهظة للبدو العابرين لضمان سلامتهم.
يتبع صيد طائر الحُبَارَى إيقاعاً يومياً ثابتاً. بدءً من الفجر، يبحث المتعقبون ومجموعة من كلاب الصيد من نوع السلوقي، في الأعشاب الجافة، لإجبار طيور الحُبَارَى على الخروج من أكنانها. ثم يطلق الصيادون صقراً مدرَّباً من حزامه الجلدي الرقيق، وتبدأ عملية المطاردة. عالياً فوق الصحراء، تُشكل ضربات جناح طائر الحُبَارَى القوية، والبطيئة، طباقاً مخيفاً ورشيقاً مع رفرفة الطائر الجارح الصاعدة وهبوطه المفاجئ. وبمجرد أن يهجم الصقر، غالباً ما تُخلف الطيور الملتصقة دوامات متقطعة من الغيوم البيضاء من ريش الضحية. وتنتهي معظم المطاردات بأن يكون الصقر جاثماً فوق فريسته، ويكافأ أحياناً بتناول بعض من الأدمغة الدافئة.
تمكن الصيادون من اصطياد حوالي خمسة طيور حُبَارَى يومياً، وهو عدد لا بأس به، وبحلول الخامس عشر من شهر ديسمبر/كانون الأول، كانوا على وشك العودة إلى ديارهم. في تلك الليلة، بينما تحول الهواء الصحراوي الصافي إلى بردٍ قاصٍ، دفَّأ الرجال أنفسهم حول النيران. ودار الخدم حولهم، حيث قاموا بشواء العشاء الفخم وصبوا أكواب الشاي الساخنة.
في حوالي الساعة الثالثة صباحاً، استيقظ أحد أعضاء مجموعة الصيد، وهو أحد أفراد أسرة آل ثاني، يبلغ من العمر 37 عاماً والذي سأدعوه بلقب أبي محمد، على وقع خادم يركض إلى خيمته. (الذي قد تحدث معي بشرط عدم الكشف عن اسمه). شعر الخادم بالخوف الشديد، وقال إن الجنود قد أحاطوا بالمخيم من جميع الجهات. نهض أبو محمد، وارتدى ملابسه بسرعة، ثم نظر خلسة من خلال الفتحة بين أقمشة الخيمة. ورأى رجالاً يرتدون الزي العسكري وعشرات من سيارات الدفع الرباعي الضخمة والشاحنات المحملة بالرشاشات الثقيلة.
في البداية، اعتقد أنه يجب أن يكون هناك خلطاً، أو ربما زيارة من قبل الجيش العراقي لتحذيرهم من بعض الأخطار. ولكن في غضون دقائق قليلة، دخل رجال يرتدون أقنعة سوداء إلى خيمته. كانوا مسلحين برشاشات من نوع كلاشنكوف – أيه كيه-47. واحد منهم كان يحمل لوح كتابة، وقرأ قائمة بالأسماء. وبدا أنه يبحث عن أكبر عضو في أسرة آل ثاني. قاد المسلحون أبا محمد إلى الخارج في الهواء الصحراوي البارد. وفي وهج المصابيح الأمامية هناك، رأى أقاربه مستلقين على وجوههم على الأرض في ثيابهم البيضاء الطويلة، وأيديهم مُكبلة خلفهم. وكان الرجال يوجهون البنادق إلى ظهورهم. في تلك اللحظة، كان على يقين أن من قاموا بأسرهم أعضاء من تنظيم الدولة الإسلامية وقريباً سيقتلونهم جميعاً.
سمع أبو محمد صوتاً من أجهزة اللاسلكي التي يحملها الخاطفون: اتركوا كل شيء وارحلوا الآن. لم يستطع تحديد اللكنة أو تحديد لصالح مَن يعمل هؤلاء الرجال. فقاموا باقتياد القطريين إلى سيارات الدفع الرباعي، وعصبوا أعينهم. وأداروا المحركات، وتوغلوا في سواد الصحراء القاحلة.
حالما وصلت القافلة إلى طريق مرصوف، اقتيد الأسرى خارج سيارات الدفع الرباعي ودُفعوا إلى الشاحنات. وجدوا أنفسهم ملقون على الأرض، لا يزالون مكبلي الأيدي ومعصوبي العينين، يترنحون بشكلٍ مؤلمٍ ضد أجساد بعضهم البعض المقيدة في كل مرة تلقى فيها السيارة المسرعة عثرة.
وفي لحظة ما، عاد أحد الخاطفين إلى الرهائن وبدأ بقول بعض الأمور السيئة والمهينة عن عائشة، ثالث زوجات النبي محمد. ويُعتبر في العالم العربي، مثل هذا النوع من الإهانة دليلاً قاطعاً. إذ يُجل السُنة عائشة، لكن الشيعة يبغضونها باعتبارها خائنة قاتلت علي، الذي يعتبر بمثابة الشخصية الأساسية في التقاليد الشيعية. أدرك أبو محمد وزملاؤه الرهائن على الفور أنهم كانوا في أيدي ميليشيات شيعية، وليس تنظيم الدولة الإسلامية أو أي جماعة جهادية أخرى.
توقفت الشاحنات بعد ثلاث أو أربع ساعات من القيادة. وكان يمكنهم سماع أصوات الطائرات تقلع وتهبط وأصوات الجنود الموحدة. ولكن بالإضافة إلى الأوامر العسكرية والتحية، فقد سمعوا أصواتاً يرددون “يا حسين!” – وهو شعار شيعي. لم يتمكن الأسرى من تحديد موقعهم، لكنهم كانوا على الأرجح على حافة قاعدة طليل الجوية بالقرب من الناصرية، وهي واحدة من أكبر المنشآت العسكرية في جنوب العراق. في وضع الحرب الغريب الذي يَسِم العراق الحالية، يعمل جيش البلاد – المدرَّب والمدعوم من قبل الولايات المتحدة – حرفياً جنباً إلى جنب مع المليشيات الشيعية المدعومة من إيران. احتجز الأسرى في القاعدة لعدة أيام، ثم عصبت أعينهم مرة أخرى وتم اقتيادهم إلى منزل، حيث اُحتجزوا في زنزانات في القبو.
في وقت من الأوقات، سحب أبو محمد – على أمل أن يحل هذه المشكلة بالأسلوب القطري – محفظته. (فقد أخذ الخاطفون بالفعل جميع هواتفهم المحمولة وقذفوا بها خارج النوافذ أثناء القيادة). كان يحمل حوالي 120,000 ريال قطري، أي ما يعادل 33,000 دولار تقريباً. وقال “يُمكننا الدفع”. كان الرهائن الآخرون يحملون المزيد من المال معهم. وأضاف أن المجموع قد يصل على الأرجح إلى مئات الآلاف من الدولارات، إن لم يكن أكثر. ولكن لم يبد الخاطف الرئيسي منبهراً. وقال “هل تعتقد أننا نريد أموالك؟”.
أخبار الاختطاف وصلت قطر أول مرة في الساعة السادسة صباحاً وأثارت سلسلة من المحادثات الهاتفية الفزعة بين الحكومة والعائلة المالكة. كشفت الأنباء نقاط الضعف التي برزت مع صعود قطر المفاجئ إلى الصدارة. قفزت قطر وهي عبارة عن شبه جزيرة صغيرة على شكل إبهام في الخليج العربي، من الفقر إلى الغنى الفاحش خلال الثلاثة عقود الماضية فقط، بفضل احتياطيها من الغاز الطبيعي الذي يقع تحت صحرائها وسواحلها. إنها بلد يبلغ حجم ناتجها القومي 181 مليار دولار، وليس بها سوى ما يقرب من 300 ألف مواطن، أي ما يقارب عدد سكان بيتسبرغ. وتقبع بين القوة الشيعية الكبرى في المنطقة وهي إيران، التي يفصلها عنها البحر فقط، وأكثر الدول السنية نفوذاً وهي المملكة العربية السعودية. ابتداء من عقد التسعينات، حاولت قطر حماية نفسها بالتودد لجميع الأطراف وازعاجها في الوقت نفسه. بدأت بالتقارب مع سوريا وإيران وحزب الله، “المحور الشيعي” الصاعد في المنطقة وهو ما أغضب كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة. في نفس الوقت بنت علاقات مع دول سنية أخرى مستخدمة أموالها اللانهائية للتوصل لصفقات وساطة دبلوماسية في لبنان واليمن. ثم أطلقت قناتها الفضائية المزعجة التي أرضت الجماهير ببثها المعادي للأمريكيين حتى مع استمرار قطر في استضافة أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط.
لكن في السنوات الأخيرة، أدت سياسة قطر المتزنة إلى نتائج عكسية سيئة. حين اندلعت موجة الربيع العربي في 2011، موّلت قطر جماعة الإخوان المسلمين في جميع أنحاء المنطقة، معتبرة إياها قوة متعاطفة مع الشعبوية السنية في فترة تسود فيها الديمقراطية بازدياد. وهو ما أغضب السعودية والإمارات اللتان -رغم أنهما سنيتان كما الإخوان المسلمين- يعتبران الإخوان تهديداً لأنظمة حكمهما الاستبدادية. راهنت قطر رهاناً خطراً آخر، وذلك بتمويلها للفصائل السنية المتمردة في سوريا (من بينها الفرع المحلي للقاعدة) على أمل أن يفوزوا بالحرب الأهلية ويظهروا امتنانهم لرُعاتهم. بدلاً من ذلك، امتدت الحرب السورية، وازاد المتمردون تطرفاً، واتُهِمَت قطر بتعاونها مع المجموعات الإرهابية. وفي النهاية، تمكنت قطر من صناعة الأعداء على كلا طرفي الصراع الطائفي الذي يزداد سوءاً.
خلال أيام من اختطاف الصيادين، حددت الحكومة القطرية بصورة شبه أكيدة أن أعضاء العائلة المالكة محتجزون لدى مليشيا شيعية لها صلات بإيران. وهو ما وضع مصيرهم بفاعلية، بين يدي رجل هو على الأرجح أقوى ضابط عسكري في الشرق الأوسط: الجنرال الإيراني المسمى قاسم سليماني. يقود سليماني القائد الصارم ذو العينين المجوفتين، فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، إلى جانب شبكة واسعة من القوات الموالية والحلفاء في جميع أنحاء المنطقة. وهو يقدم تقاريره مباشرة للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، آية الله علي خامنئي، ويعد شخصية أكثر نفوذاً من وزير خارجية البلاد أو رئيسها. قاد بنجاح جهود إيران في تخريب السياسة الأمريكية في العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003، وفي 2012 وصفه مقال تعريفي في مجلة وايرد بأنه “أخطر رجل في العالم”
لم يبد سليماني اهتماماً كبيراً بأموال الفدية. وكانت أولى أولوياته لسنوات هي سوريا، حيث حاربت إيران بقوة لدعم نظام بشار الأسد. كانت سوريا بمثابة خط نجاة لإيران منذ الثمانينات، حيث بدأت الجمهورية الإسلامية الوليدة بشحن الأسلحة عبر الأراضي السورية إلى حزب الله، الذي يُعد بمثابة ذراع إيران الخارجية في لبنان. عندما اندلعت الحرب الأهلية في سوريا في 2011، أصبحت هذه الوصلة فجأة في خطر. قفزت القوى السنية والشيعية الإقليمية الكبرى إلى خضم الصراع السوري، وحولته من حركة مطالبة بالديمقراطية تابعة للربيع العربي إلى ساحة صراع طائفي. بالنسبة للسعودية وحلفائها فإن دعم المتمردين السوريين كان بمثابة الفرصة الذهبية للإطاحة بالأسد وجلب سوريا إلى الجانب السني من رقعة الشطرنج وعزل إيران. بالنسبة لسليماني الذي وجه القوة العسكرية الإيرانية في سوريا، أصبحت الحرب الأهلية هناك صراعاً وجودياً للحفاظ على حليف بلاده الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه.
أصبح الرهائن القطريون فجأة ورقة مهمة في تلك اللعبة الجيوسياسية. كان لقطر نفوذاً كبيراً مع فصائل الثورة التي يعتقد أنها تمولها، وهو النفوذ الذي يمكن أن يكون مفيداً بالنسبة لشخص ذو تفكير استراتيجي مثل سليماني. طريقته في سوريا نقلت ساحة المعركة إلى مأزق دموي. بحلول 2015 كان سليماني وحلفائه في حزب الله يبحثون عن طرق جديدة لتعزيز سيطرتهم على مناطق رئيسية بالقرب من العاصمة السورية: ليس فقط بقتل المقاتلين المتمردين، بل طرد السكان السنة الذين يبقون عليه، ويحمونهم. أملوا في النهاية أن يعيدوا إسكان تلك البلدات بسكان شيعة أقل تمرداً. كانت خطة طموحة ومثيرة للجدل، مع إشارات سوداء على التطهير العرقي. لكنها لو نجحت سترسّخ جذور النفوذ الإيراني في سوريا على المدى البعيد.
مباشرة قبل احتجاز الرهائن القطريين، بدأت إيران جهودها الجريئة لتحقيق هذا التحول الديموغرافي. في إجتماع سري في اسطنبول برعاية الأمم المتحدة في 2015، اقترح موفد من فيلق القدس الذي يقوده سليماني اتفاقاً متماثلاً عرف فيما بعد باسم “اتفاق البلدات الأربع”. سينهي فيه حزب الله حصاره على اثنين من معاقل المتمردين في سوريا بالقرب من الحدود اللبنانية في مضايا والزبداني، الذين مثل سكانها تهديداً مستمراً على نظام الأسد في دمشق. في المقابل، ستنهي فصائل المتمردين التي تمولها قطر حصارها على بلدتين شيعيتين في الشمال الغربي هما الفوعة وكفريا. اتفاق البلدات الأربع سيحقق هدفين لإيران: محق خطر المتمردين في منطقة استراتيجية، وإنقاذ الشيعة المحاصرين في الشمال الذين كانت مأساتهم صرخة حشد مستمرة داخل قاعدة حزب الله الشيعية.
تفاصيل الاتفاق كانت غامضة في البداية، لكن في مرحلة ما اقترح الإيرانيون أنه بإمكان السكان تبادل البلدات، حيث يتبادل السكان السنة والشيعة حرفياً الأماكن، وحتى يستوطنون منازل بعضهم البعض. قدموا هذا العرض باعتباره لمحة انسانية: إنهاء الحصارين سيفيد سكان البلدات الأربع. لكن ممثلي المتمردين في اسطنبول رفضوا الفكرة بعنف، قائلين أنها جهد مغرور لإعادة تشكيل نسيج الأديان والعرقيات المتنوعة في سوريا وإبداله بمعادلة طائفية فجة.
باختطاف الصيادين القطريين، حصلت إيران على ميزة قوية جداً ضد نفس قوات المتمردين، أو ضد رعاتهم الرئيسيين في الدوحة. الخطة التي تقضي بإخلاء البلدات الأربع والتي تُرِكَت لتموت بعد محادثات اسطنبول، عادت مجدداً إلى طاولة المفاوضات.
لم يستغرق وكلاء سليماني وقتاً طويلاً لإيصال هذه المطالب للحكومة القطرية. واستخدموا حزب الله رسولاً لهم، باعتباره الطرف الوحيد صاحب الصِلات الموثوق فيها من جميع الأطراف المعنية: طهران والدوحة والمليشيا الشيعية التي احتجزت الرهائن في العراق. أتاح العمل عن طريق حزب الله لإيران أيضاً الحفاظ على بعض السيطرة في مفاوضات الفدية، والتي كان من الممكن لولا ذلك أن تنتهي على شكل فدية نقدية سريعة تدفع للخاطفين. بدلاً من ذلك، أرسل حزب الله للدوحة مبعوثاً رفيع المستوى، أوضح الشروط بدقة: سيحرر الرهائن مقابل مساعدة قطر في تحقيق اتفاق البلدات الأربع.
القطريين الذين كانوا أقل اهتماماً بالتأثيرات الأكبر للصفقة، مقابل سلامة أفراد العائلة المالكة.. وافقوا فوراً على استضافة سلسلة طويلة من المحادثات التي ضمت أطرافاً مختلفة على أساس اتفاق البلدات الأربع: حزب الله وإيران وفصائل المتمردين. رغم أنه من المثير تخيل تلك المجموعات مجتمعين على طاولة واحدة، إلا أنه على ما يبدو التقى كل طرف منهم مع الوسطاء القطريين على حدىً. دارت معظم المفاوضات حول اللوجستيات. إذ أن نقل المدنيين بسرعة في ساحة معركة متغيرة، ليس أمراً سهلاً. وهناك الكثير من الخلافات التي يجب حلها. بعض فصائل المتمردين عارضت بقوة فكرة نقل السكان، والنظام السوري -الذي لم يكن طرفاً في الاتفاق- لم ترقه الفكرة أيضاً. وتم التخلي عن فكرة استبدال السكان السنة بالشيعة باعتبارها طموحة جداً، وبدلاً من ذلك يتم نقلهم إلى مناطق آمنة، حيث يتم تقرير مستقبل كل بلدة بشكل مستقل. لكن تنفيذ هذا الأمر تطلب قدراً من التنسيق بين الفصائل المسلحة المختلفة في كلا طرفي الصراع. لعب المال دوراً رئيسياً في مسألة بهذا الحجم والتعقيد، وجَعَلَها أكثر سلاسة. لم تكن فصائل المتمردين السنية الحليفة للقطريين لتساهم في تقدم الخطة الإيرانية دون مقابل.
لكن بينما مرت الشهور، لم يكن هناك جدولاً زمنياً لتحرير الرهائن. وزاد يأس القطريين وتساؤلوا إن كان الإيرانيون سيلتزمون باتفاقهم يوماً. وبدأوا باستكشاف وسائل أخرى، وتوافد صف طويل من الوسطاء إلى الدوحة مقدمين خططاً للإنقاذ مقابل مبالغ مالية ضخمة. أحد المسؤولين القطريين الذين تحدثت معهم بدا مستمتعاً بهذه المجموعة الكبيرة من العروض المشبوهة، متعة يشوبها الخجل. أخبرني قائلاً “أتذكر شخصاً إيرانياً قال: ‘بإمكاني أن أحررهم مقابل 20 مليون دولار'”. ودفع أحد أفراد العائلة الحاكمة في قطر 2 مليون دولار لشركة تدعى المجلس الإستراتيجي العالمي والتي يديرها بائع أحذية يوناني. لكن لم تكن أياً من تلك الخيارات مفيدة. وازداد غضب القطريين وقلقهم، بحسب ما أخبرني به دبلوماسي سابق في الدوحة إلى درجة أنهم فكروا في حل متطرف وهو تنفيذ غارة عسكرية لتحرير الرهائن. لكن قطر بالتأكيد افتقدت الخبرة والدراية اللازمة لتنفيذ ذلك. لكن حقيقة أنهم ناقشوا هذا الحل تدل على أن الأمير كان تحت ضغط هائل من مواطنيه قليلي العدد الذين تقودهم الطبيعة القبلية، لإعادة الرهائن إلى منازلهم.
واستغرق الأمر ما يقرب من 16 شهراً ليجد القطريون أخيراً الرجل المناسب، صاحب النفوذ والعلاقات الصحيحة ليُتم الصفقة. حدث ذلك في أوائل أبريل/نيسان 2017، أثناء الاجتماع السنوي لوزراء الخارجية العرب، الذي عُقد تلك السنة في تونس. قُدم الوزير القطري إلى نظيره العراقي، قاسم الأعرجي الذي تجمعه علاقات قوية بعالم الميليشيات الشيعية. أمضى الأعرجي، صاحب الوجه المربع والذي يبلغ من 54 عاماً، سنوات عديدة منفياً في إيران، كما سجنته القوات الأميركية في العراق مرتين قبل عقد من الزمن للاشتباه بأنه يهرب ويوزع الأسلحة كي تستخدم في الهجوم على القوات الأميركية. (وقد تم إطلاق سراحه لنقص الأدلة).
قال الأعرجي إنه يعرف من اختطف الرهائن، لكنه لم يسمِ المجموعة المختطِفة، والتي تبين أنها “كتائب حزب الله”، الفصيل الشيعي الذي تشكل في العراق قبل ما يزيد على عقد من الزمن، والذي شن المئات من الهجمات على الجنود الأميركين، وكان “فيلق القدس الإيراني” هو من درب هذا الفصيل وموله وأشرف عليه. وقال الأعرجي إن لديه خطة لإطلاق سراح الرهائن، وفقاً لما حكاه لي مسؤول قطري رفيع المستوى عن المحادثات. لكن الخطة أتت مع شرط استثنائي، إذ أراد الأعرجي أن تتوسط السلطة لإطلاق سراح الرهائن شخصياً، وألمح كذلك إلى أن نظيره القطري يجب ألا يذكر شيئاً عن هذا الموضوع لأي شخص آخر في الحكومة العراقية،حيث تخلق الانقسامات الطائفية والسياسية أجندات متنافسة. وقد وافق وزير الخارجية القطري.
كان المال جزءاً من الاتفاق، مثل تحلية إضافية إلى صفقة المدن الأربعة، وفق ما أخبرني به المسؤول القطري الذي وصف لي الاجتماع، الذي تابع القول بأن المال كان بهدف تمويل ميناء وسفارة جديدين في بغداد. وبدا منزعجاً جداً عندما قال ذلك –إذ بدا على وجه مزيج ما بين الغمزة والخجل- حتى أنني خجلت من قول ما هو واضح: كانت هذه قصة شفافة ومؤلمة للتغطية على الفدية النقدية الضخمة.
وصل فريق المفاوضات القطري بعد أسبوع إلى بغداد حاملين حقائبهم الـ 23. واكتشفوا سريعاً أن قاسم الأعرجي قد بالغ في إظهار سلطته وسيطرته على الحكومة العراقية (ومطار بغداد). في بغداد، شاهدت صوراً اُلتقطت في تلك الليلة تظهر قوالب مصمتة من النقود على جهاز الماسح الضوئي، والقطريين الغاضبين أثناء وقوفهم في صالة كبار الزوار محاطين بحقائب النقود السوداء. وعندما اكتشف رئيس الوزراء القطري حيدر العبادي، ما الذي يخطط له القطريون، كان شديد الغضب وقرر أن يضع حداً لإيران ووكلائها، فأرسل فريقاً مسلحاً من قوات مكافحة الإرهاب ليحرس حقائب النقود الـ 23 ويتأكد من أنها لن تصل إلى الخاطفين. وبعد استسلام الفريق القطري وتوجهه إلى بغداد، نقل العبادي هذه الأموال في نهاية المطاف إلى خزنة أو غرفة مصفحة في البنك العراقي المركزي.
نُقل القطريون من المطار مباشرة إلى المنطقة الخضراء المحصنة في بغداد، حيث تقرر إقامتهم باتفاق مسبق في بيت الضيوف الخاص برئيس الوزراء العبادي –الرجل نفسه الذي كان قد صادر للتو الـ 360 مليون دولار الخاصة بهم. هدد تدخل العبادي بأن تتعطل الصفقة التي خطط لها بعناية على مدار أشهر من اللقاءات التي عُقدت في الدوحة. كان من المفترض أن تصل حقائب النقود الـ 23 في نفس الوقت الذي ينفذ فيه حلفاء قطر من المتمردين شروط صفقة المدن الأربعة. وفي ذلك اليوم بالذات، كانت الميليشيات السنية تقود المدنيين الشيعة إلى الحافلات الخضراء، وتسافر معهم على الطريق إلى حلب، حيث كان من المقرر إسكانهم بمساعدة النظام السوري. وبالتوازي، وعلى بعد 200 ميل جنوباً، كان مقاتلو حزب الله يستعدون لمرافقة آلاف السكان إلى خارج مضايا والزبداني.
لم تكن الـ 360 مليون دولار هي النقود الوحيدة في ثنايا هذه الصفقة. فلضمان دعمهم لنقل السكان، دفعت قطر للميليشيات السنية (جبهة النصرة وأحرار الشام) ما لا يقل عن 50 مليون دولار، كما علمت من مسؤول عراقي رفيع المستوى، ومن أشخاص قريبين من جماعات المتمردين.
قضى المبعوثون القطريون أغلب يومهم الأول، في إجراء اتصالات مع كلتا الجبهتين. كان عليهم مراقبة عمليات نقل المدنيين الجارية في سوريا، وكانوا يستميتون كذلك لاستعادة حقائبهم الـ 23 المعبئة بالنقود. فجندوا كل من يعرفونه بالعراق للمساعدة، بما في ذلك المليشيات الشيعية. وعززوا طلباتهم –كما أخبرني العديد من المسؤولين العراقيين- بحملة وقحة من الرشاوي التي استمرت لمدة أسبوع، عارضين مبالغ مالية هائلة وشققاً فارهة في الدوحة ودبي على ضباط وأعضاءً في مجلس الوزراء ومشرعين. ولم يفلح أي من هذا في استعادة الـ 360 مليون دولار من العبادي ودائرة حلفائه.
قبل نهاية اليوم الأول جرى ما ألقى ضوءاً جديداً مقززاً على الحسابات الباردة المحيطة بصفقة المدن الأربعة. في حوالي الساعة الثالثة والنصف عصراً، توقف صف من الحافلات التي تحمل مدنيين من المدينتين الشيعيتين، كفريا والفوعة، عند نقطة تفتيش في منطقة تدعى “الراشدين” غربي حلب. هدّأت شاحنة نقل بلون أزرق غامق من نوع هيونداي سرعتها، وتوقفت بجانب إحدى الحافلات، وبعد لحظات، انفجرت.
كان الانفجار قوياً على غير العادة. أظهرت صور من موقع الحادثة حافلة باللون الأبيض والأخضر، بنوافذ متفجرة، وأجزاء داخلية محترقة بفعل النيران. كانت الحصيلة النهائية هي مقتل 126 شخصاً في الانفجار، أغلبهم من المدنيين الذين تم إجلاؤهم، بينهم 68 طفلاً، وأصيب المئات بجروح. لم يعرف أحد بشكل مؤكد من الذي يقف خلف الانفجار، لكن جميع من تحدثت إليهم يعتقدون أن الانفجار استهدف إيقاف صفقة المدن الأربعة، التي رأى فيها العديد من المتمردين والجماعات الجهادية هدية لإيران.
كانت صور الحافلة المحترقة تذكرة وحشية بأن اتفاق المدن الأربعة لم يكن متعلقاً بالمفاوضات السرية وحقائب النقود فحسب. أجبرت العائلات التي كانت في قوافل الحافلات على ترك منازلها. آمن المسؤولون القطريون الذين تحدثت معهم بأنهم يشاركون في عملية إنقاذ إنساني لضحايا الحصار، كما أخبرني بعض أفراد الفصيل المتمرد أحرار الشام الأمر ذاته. لكن أغلب السوريون رأوا عملية الانتقال على ما هي عليه –تهجير قسري ليلائم الخطة التي جهزها الأجانب- وكانوا شديدي الغضب. كان هذا صحيحاً بالأخص لسكان المدينتين السنيتين مضايا والزبداني، فقد كان أغلب السكان معارضين للتهجير حتى بعد سنوات من الحصار، ومئات من القتلى بفعل المجاعة وقناصة حزب الله.
تحدثت عن طريق الفيديو مع مدني يدعى علي سعيد شُرِّد من مضايا على غير رضاه. يبلغ علي من العمر 52 عاماً، ذو بنية نحيلة لكن قوية، وأنف كبير، وقصة شعر متدرجة، ونظرة تحد عنيدة على وجهه. أخبرني أن حصار حزب الله لمضايا حول المدينة إلى معسكر اعتقال حقيقي، وقال لي “في البداية أكل الناس مخزون طعامهم الجاف، ثم بدؤوا في أكل الأعشاب وأوراق الشجر”. رفع علي سعيد هاتفه المحمول عالياً باتجاه الكاميرا، ليريني صوراً لأطفاله الذين وقع أحدهم على رأسه بينما كان يهرب من القناص، ومات بعدها بوقت قصير.
لكن عنجهية وعجرفة مخطط الانتقال كانتا أكثر ما أغضبه أثناء المكالمة. فبعدما عرف بأمر صفقة المدن الأربعة، واجه أحد قادة حزب الله في نقطة تفتيش خارج مضايا، قال سعيد “كنت منفعلاً” وتابع “قلت له (لقد أتيتم إلى هنا لتهجيرنا، للاستيلاء على أرضنا” قال لي ضابط حزب الله (إذا لم توافقوا على الرحيل، فبإمكانكم الموت جوعاً)”.
استُؤنف نقل السكان رغم التفجير، وفي غضون بضعة أيام كان اتفاق المدن الأربعة قد اكتمل إلى حد كبير. وفي إحدى الليالي في الوقت نفسه تقريباً، تسلل فريق المفاوضات القطري من المنطقة الخضراء في بغداد، باستخدام سيارة رياضية، وقاموا بتبديل السيارات مراراً في محاولة عديمة الجدوى لتجنب لفت انتباه المسؤولين العراقيين، وانتهى بهم الأمر في مكان لقائهم مع إحدى الميليشيات الشيعية في حي الكرادة. أُعطي القطريون أثناء اللقاء دليلاً على الحياة –مقطع فيديو حديث للرهائن- ثم، وبشكل مفاجئ، بدأ القطريون في حزم أمتعتهم، وطلب إذن مضيفيهم لمغادرة البلاد. كانت الحقائب الـ 23 لا تزال ترقد في خزينة البنك العراقي، إلا أنه بدا أن القطريين قد وجدوا بطريقة ما سبيلاً آخر لتحقيق مطالب الخاطفين.
فور ذلك تقريباً، تلقى أبو محمد والأعضاء الآخرون في العائلة الحاكمة القطرية، داخل سجنهم الواقع تحت الأرض، جنوب بغداد، مفاجأة مثيرة من حراسهم، الذين أبلغوهم بأنه يمكنهم الآن أخذ حمامٍ وقص شعرهم، وأن الوقت قد حان لمغادرة محتجزهم. ثم اقتادهم حراسهم إلى الطابق العلوي، حيث تلألأت أعينهم وهجاً بعد تعرضها لضوء الشمس، بعد أن قضوا 16 شهراً في قبوٍ بلا نوافذٍ في جنوب العراق، على بعد بضع ساعاتٍ من المكان الذي تم اختطافهم فيه. وقد تأثرت وضعيتهم الصحية بشكلٍ كبيرٍ نتيجة نظامهم الغذائي القاسي في السجن، مما أنهك قواهم، وكانوا أمضوا النصف الأول من فترة محنتهم في عزلةٍ تامةٍ عن العالم الخارجي، ولم يسمح لهم سوى بمصحفٍ واحدٍ، قبل أن يزودهم الحراس بجهاز تلفزيون. وأثناء مشاهدتهم الأخبار، اطلعوا على تقارير تتحدث عن صفقةٍ سياسيةٍ قيل أنها تختمر في سوريا، تشمل تبادل الرهائن والسكان، وقال لي أبو محمد “لقد شعرنا أن الأمر مرتبطٌ بنا”.
واقتيدوا خارج المبنى قبل نقلهم على متن سيارةٍ في رحلة دامت ساعتين إلى منزل، يشبه مزرعة فاخرة لأحد الأشخاص. كان ينتظرهم بالداخل، في غرفة استقبال كبيرة، عددٌ من الرهائن من غير الأسرة الحاكمة، وقد احتجزوا في مكانٍ منفصلٍ. وما أن التقى الفرقان حتى أخذوا يحضنون بعضهم بعضاً ويجهشون بالبكاء ويروون قصص محنتهم. وقد اندهشوا بعد اكتشافهم أن المجموعة الأخرى – التي يُنظر إليها على أنها لا تتحمل أي مسؤولية عن سياسات بلدهم – قد عومِلت بشكلٍ أفضلٍ بكثير من أفراد آل ثاني أثناء احتجازهم، وحصلوا على ما يكفي من الطعام، وسُمح لهم بالاستحمام ومعاملة محترمة من قبل حراسهم.
وأثناء اليومين التاليين، حظي أفراد آل ثاني مرة أخرى بمعاملة الأمراء، وخاطبهم الخدم بلطفٍ واحترامٍ كبيرين كلما التقوا بهم. وقدموا لهم وجبات الطعام، التي تختلف عن تلك التي كانوا يتناولونها من قبل حيث كانت تقتصر على المرق الخفيف والأرز، وأصبح الخدم يقدمون لهم أشهى أنواع المسكوف، وهو طبقٌ عراقيٌ تقليديٌ مصنوعٌ من السمك المشبع بالتوابل، ومشويٌ على نار في الهواء الطلق. في إحدى الليالي قُدم لهم خروفٌ مشويٌ كاملٌ. وقد خاطبهم مستضيفوهم مرارًا وتكرارًا باسم “ضيوفنا” واعتذروا لهم عن سوء المعاملة السابقة. وفي صباح يوم 21 إبريل / نيسان، نُقِل الرهائن القطريون إلى بغداد وخصص لهم حفل توديع في وزارة الاستخبارات قبل رحلتهم إلى المطار.
أخبرني أبو محمد أنه هو والرهائن الآخرين ظلوا يخشون تعثر طارئ أو عقبات من نوع ما، إلى غاية نهاية رحلتهم. مضيفا “شعرنا بارتياحٍ تامٍ فقط عندما أقلعت الطائرة”، كان الأمر يبدو وكأنه حلمٌ، إنه شعور بالفرح”. وطيلة الرحلة التي استغرقت ساعتين إلى الدوحة، تخللها موجات من الضحك الصاخب والطائش. وكان أقارب الرهائن ينتظرون في المطار عندما حطت الطائرة ذلك المساء. لكن فرحة الأقارب لم تكتمل نتيجة الصدمة التي تلقوها عند مشاهدتهم سوء حالة أقاربهم الرهائن، كانوا يبدون في حالة هزيلة وعيون غائرة، فقدَ أبو محمد 20 كيلوغرام من وزنه. وكان أمير قطر هو أيضاً في انتظارهم بالمطار، وقبلهم والدموع تفيض من عينيه لدى خروجهم من الطائرة.
لا يزال هناك لغزٌ صارخٌ يلف حالة القطريين المختطفين. كيف تم الإفراج عن الرهائن بعد حجز مبلغ الـفدية المقدر بـ 360 مليون دولار؟ قدم لي أحد المسؤولين العراقيين البارزين الجواب التالي: لقد وافق القطريون على تقديم دفعة نقدية آخر، عبر بيروت، بنفس المبلغ تقريباً. (كان قاسم سليماني شخصياً، حسبما أخبرني به مسؤول آخر، هو الذي أجرى المكالمة الأخيرة لإطلاق سراح الرهائن).
وفيما يتعلق بموقع تسليم المبلغ من المال، فالأمر له ما يفسره: يحتفظ حزب الله بسيطرةٍ حازمةٍ على مطار بيروت، ولن يواجه أي مشكلةٍ في ضمان مرور المال، وفي حال تأكد الخبر، سيكون إجمالي المبلغ الذي دفعته قطر لتحرير الرهائن يصل 770 مليون دولار على الأقل، وربما أكثر بكثيرٍ. سمعتُ إفادات عن عدة دفعات أخرى بملايين الدولارات قُدمت إلى وسطاء مختلفين لم أتمكن من تأكيدها. وهناك أيضاً مبلغ مليوني دولار دفعه أحد أفراد عائلة آل ثاني إلى بائع الأحذية اليوناني، إلى جانب رشاوى يقال أن مبعوثين قطريين دفعوها خلال الأسبوع الذي قضوه في بغداد. ومن السهل التخيل أن مجموع المبلغ، يقترب من مليار دولار.
يُنكر المسؤولون القطريون تقديم أي مدفوعات باستثناء المبلغ المتضمن في الحقائب الـ 23، وما زالوا يصرون على أن الأموال كانت مخصصة للحكومة العراقية فقط، ولها صلة بعدة استثمارات في العراق، و”للمساعدة في تسهيل إطلاق سراح الرهائن القطريين”. وعندما سألت لماذا لم يلغ الخاطفون عملية إطلاق سراح الرهائن، بعد حجز المدفوعات التي تقدر بمبلغ 360 مليون دولار، أشار أحد المسؤولين القطريين (دون أن يكون رده مقنعاً) أن المال لم يكن أبداً بذلك القدر من الأهمية. وبعد عامٍ تقريباً، ما زال أثر صفقة الفدية القطرية، بارزاً من الدوحة إلى واشنطن. أصبحت المدن الأربع في سوريا خالية إلى حد كبير – يتشبث بضع مئات من الأشخاص بعناد ببيوتهم في البلدات الشيعية إلى الشمال، وبعضهم ما زال في مدينتي مضايا والزبداني، في حين يواصل المتمردون الجهاديون في سوريا معركتهم، مخلفين موجة متواصلة من القتل والدمار في ساحة المعركة.
يبدو أن الصفقة قد عمقت الفجوة بين المتمردين والأشخاص الذين يدعون تمثيلهم. أخبرني علي سعيد، الذي يعيش في المنفى بعد مغادرة بلدته مضايا، أن مشاركة الميليشيات المتمردة في المخطط لإجبار الناس على ترك منازلهم كانت خيانة جبانة للثورة ضد الأسد، داعياً عليهم “دمرهم الله”. لكن قد يعود من جديد إرث أثقل صفقة فدية إلى بلدان الخليج. السعوديون والإماراتيون، الذين طالما استاءوا من رعاية قطر للإخوان المسلمين، أغضبتهم كثيراً التقارير عن دفع مبالغ باهظة للمليشيات الشيعية. في 5 يونيو/حزيران، فرضت الدولتان حصاراً اقتصادياً كاملا على قطر، وأصدروا قائمة شديدة القسوة من المطالب، تشمل إغلاق قناة الجزيرة والمرفق العسكري التركي، وطالبوا بتعويضات مالية على ما اعتبروه سنوات من الإساءات من طرف قطر. ورغم الحديث طيلة شهورٍ عن الحصار، لقد شكلت صفقة الفدية ذريعة مفيدة.
وبدأت تظهر قضية الفدية أيضاً، في كثير من الأحيان في صورة مشوهة للغاية، من خلال شن دول الحصار حرباً خاطفة، في مجال العلاقات العامة بتمويل سعودي، تصور قطر على أنها منبع الإرهاب. كانت الحملة المناهضة لدولة قطر خليطاً من الادعاءات الحقيقية والكاذبة أو المشكوك فيها، لكن لم تسهم سوى في خلط الأوراق حول الفدية والمسؤولية الأوسع لدولة قطر في تمويل الجماعات الإسلامية.ويبدو أن هذه الحرب كان لها فعاليتها في التأثير على طرفٍ جد مهم: دونالد ترامب. ورغم ما بذله وزير الخارجية ريكس تيلرسون من جهودٍ ومساعي لرأب الصدع بين شركاء أميركا في الخليج، دأب ترامب على تقويض موقف وزيره بشكل علني للغاية، موضحاً أنه ينحاز تماماً لأصدقائه السعوديين الجدد. ( حظي ترامب باستقبالٍ زاهرٍ خلال زيارته للرياض في مايو/آيار، ورقص خلالها بالسيف مع الملك، وظهر في صور تذكارية في مظهرٍ غريبٍ غذى سلسلة لا حصر لها من نظريات المؤامرة).
أبدى تيلرسون سخطه وحنقاً شديداً بسبب تدخل ترامب وصهره جاريد كوشنر، إلى درجة أنه هدد بالاستقالة في وقت لاحق من الصيف، وفق بعض الإفادات، مما تحتم بذل جهودٍ من وزير الدفاع جيم ماتيس وجون كيلي، الذي أصبح يشغل منصب رئيس موظفي البيت الأبيض الآن، في محاولة لإقناعه بالبقاء. وحاول تيلرسون مرة أخرى إنهاء الحصار خلال زيارةٍ أخرى للخليج في أكتوبر/تشرين الأول، لكن من دون جدوى.
كمْ تتحمل قطر من اللوم على كل هذا الخراب الحاصل في المنطقة؟ لقد شاركت قطر في تقديم فدية تقدر بملايين الدولارات لتحرير أسرى القاعدة من قبلُ، بما في ذلك لتحرير امرأة سويسرية احتجزت في اليمن في عام 2013. وتم تحرير صديقي ثيو بادنوس، عن طريق الوساطة القطرية، وربما بفضل المال القطري، وقد كتب ثيو بادنوس مقالة لحساب هذه المجلة، يروي فيها محنته التي استمرت عامين أثناء اختطافه في سوريا.
إذا كان القطريون قد دفعوا ما يقرب من 400 مليون دولار إلى كتائب حزب الله (جماعة أدرجتها الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية)، فمن شأن ذلك أن يضع الكثير من الدماء على أيديهم، وعلاوة على ذلك، إذا تم دفع المال عن طريق بيروت، فمن المنطقي جداً افتراض أن حزب الله (الذي تم إدراجه أيضاً كمجموعةٍ إرهابيةٍ) قد حصل على نصيبه منها. إن مبلغ 50 مليون دولار المدفوع إلى جبهة النصرة (مجموعة أخرى على قائمة الإرهاب) وأحرار الشام، أمرٌ مزعجٌ أيضاً، على الرغم من أن تلك الجماعات تشكل الآن تهديداًً في الغالب لنظام الأسد وحلفائه وليس للغرب .
لكن في النهاية، يبدو الأمر كما لو أن القطريين كانوا أكثر سذاجة منهم أشراراً، وقد أسكرتهم أموال الغاز الطبيعي، وأفقدتهم قدراتهم على إدراك عواقبه المميتة. وراحوا يبددون الأموال من حولهم سعياً منهم في جهود خرقاء للتلاعب بسياسات منطقةٍ مضطربةٍ، وكل ما جنوه من صنيعهم، أن السحر انقلب على الساحر. وأخبرني أحد المسؤولين القطريين الذين تابعوا مراحل قضية عملية الخطف، والحزن باد في عينيه، قائلاً “يتهموننا بالعمل مع حزب الله – لكن انظروا ماذا فعلوا بنا!”
أما اللغز الأخير لقصة الفدية، على الأقل بالنسبة لي، فكان في بدايتها: لم ذهب الصيادون إلى جنوب العراق في المقام الأول؟ مع علمهم بمدى خطورة ذلك. كما أن وجود مجموعة كبيرة كمجموعتهم، وتقديمهم الهدايا المالية للبدو المحليين والتخييم في رفاهية واضحة، جعل من التقاط الميليشيات الشيعية لهم أمراً سهلاً. حُذر الصيادون من هذا منذ البداية، حتى من قبل حكومتهم. ووصلهم التحذير الأخير قبل حوالي يوم من حادثة الاختطاف، بعدما اكتشف مسؤولي الأمن القطريين أن أحد المدونين العراقيين الغامضين قد نشر إحداثيات نظام التموضع العالمي (GPS) لموقع الصيادين عبر الإنترنت.
حين تحدثت إلى أبي محمد، أكد تلقيهم تحذيرات جمة وقال “قبل الرحلة، قال الجميع (أنت مجنون، لا تذهب) -أمي وأصدقائي وإخوتي”. إذن لماذا اتخذت المخاطرة؟ هكذا توجهت لأبي محمد بالسؤال في المجلس، وهو قاعة الاستقبال في منزل يمتلكه عمه في الدوحة، حيث وُضع صف من الكراسي الصفراء الفارغة، الشبيهة بالعرش، في الغرفة الطويلة الصامتة، وحيث جاء خادم واحد لإعادة ملء أكواب الشاي لنا بشكل دوري. من النادر أن يقابل الصحفيون الغربيون أفراد عائلة آل ثاني خارج سياق المقابلات الحكومية. يشتهر القطريون بخصوصيتهم وتحفظهم، وخلال ما يزيد على عقد من زياراتي للدوحة، لم أدخل منزلاً قطرياً من قبل. كما أن احترامهم العميق للتهذيب والذوق يبدو جلياً في أخلاقهم الهادئة وطريقة مشيهم، حركات سلسة عادة ما يُعلق الأجانب عليها. كانت وضعية أبي محمد معتدلة ومنتصبة، ونادراُ ما تحرك خلال حديثنا الذي استمر لثلاث ساعات تقريباً.
توقف أبو محمد قبل الإجابة على سؤالي، ثم بدأ في توضيح ما يعنيه صيد الصقور لأفراد جيله، قائلاً “أنت بعيد عن الهواتف، والعمل. أنت مع الطبيعة، ما يُشعرك بالحرية”، وأضاف أن هناك جذباً ثقافياً شديداً يجب وضعه في الحسبان. ونظر إلى النوافذ حيث يمكننا أن نرى أفق مدينة الدوحة شديدة الحداثة، الممتلئة بناطحات السحاب الطويلة والمراكز التجارية المغلقة. حين وُلد أبو محمد في 1978، لم يكن أي من ذلك موجوداً. تظهر الصور التي تعود إلى تلك الفترة ساحلاً صحراوياً خاوياً ومجموعة من المباني المتهالكة على أطرافه، بقايا قطر التي مثلت مركزاً للغطس لصيد اللؤلؤ. بحلول الوقت الذي بلغ فيه سن الرشد، كانت أموال النفط قد بدلت من قطر داخلياً وخارجياً. إذ فاق عدد العاملين الأجانب عدد المواطنين في بلدهم، ولم يعد بالإمكان التعرف على ثقافتهم، التي اتسمت من قبل بالاعتدال والادخار والاعتماد على الذات. حلت السمنة محل المجاعة. وأصبح من المعتاد أن تشتكي العائلات من انغماس شبابها في عالم من الاستهلاك والمتعة. يمكن للكثير منهم شراء سيارات لامبورغيني، بينما ليس بوسعهم الحفاظ على وظيفة ثابتة.
بدا أن ما يشير إليه أبو محمد هو أن صيد الصقور علاج للعنة نفط الخليج. يفرض تدريب الجوارح قدراً من العزلة والإقدام والانضباط الذاتي الذي عادة ما ينقص حياة هؤلاء الرجال. إذ أن الكثير من ساعات الترويض الصبور والاستخدام المتكرر للقفاز وأساليب الاستمالة هي ما يصنع رابطاً بين الإنسان والطائر: الطائر يُروضك، هكذا يقول العديد من خبراء صيد الصقور. وهو ما يعكس الإخلاص الشغوف، بل وربما المتطرف، حيث توضع المخاطر جانباً، وتبدو المبالغ الهائلة بلا معنى. أخبرني أبو محمد إنه يخطط بالفعل للمزيد من الرحلات الصحراوية لصيد الحبارى، برغم المخاطر. وختم حديثه بالقول “صيد الصقور إدمان مثل المخدرات”، ثم أضاف بابتسامة هادئة “إنها رياضة الملوك”.

كتب التحقيق روبرت إف وورث
هذا الموضوع مترجم عن صحيفة نيويورك تايمز ولقراءة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي.
[video_player link=””][/video_player]

كريم شفيق - صحفي مصري | 26.04.2024

حملة “نور”: حرب “آيات الله” الجديدة على أجساد النساء

تتزامن الحرب على أجساد النساء مع إخفاقات سياسية عدة، محلية وإقليمية، لـ"آيات الله"، بداية من تأثيرات المعارضة السياسية على الانتخابات البرلمانية، والتي شهدت انحساراً شديداً، وتراجعاً لافتاً في مستوى إقبال الناخبين وتدنّي نسب المشاركة. فضلاً عن الهجوم المحدود والاستعراضي للرد الإيراني على اعتداءات إسرائيل على القنصلية، والهجوم الذي طاول قياداتها بين سوريا ولبنان.