fbpx

“مثل مذاق الكرز” : السينما الإيرانية والنضال من أجل الحياة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نرى في التاريخ الإيراني صراعاً حول عالم السينما، من أبرز نتائج هذا الصراع الثقافي هو ظهور أحد أهم موضوعات السينما الإيرانية ألا وهو اليأس.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عاد الزعيم الديني الإيراني آية الله الخميني إلى بلاده في الأول من شباط/ فبراير 1979، بعدما أمضى 14 عاماً في المنفى السياسي في فرنسا. وقال فور وصوله: “نحن لسنا ضد السينما، ولكننا ضد العهر”. في هذا البيان، نستطيع أن نشهد بوضوح رغبة الزعيم الإيراني في استخدام السينما أداةً لنشر أيديولوجيته، وتعزيز ما يُسمى القيود الأخلاقية الإسلامية من خلال الأفلام، وأبرزها غياب الاتصال الجسدي بين الرجال والنساء، وحظر المشاهد الفاضحة، وإلزام المرأة بارتداء الحجاب عند الظهور في الأفلام. وعلى رغم ذلك فقد كشفت مهمة آية الله عن معضلة متأصلة، وهي كيف يمكن استخدام السينما، التي تُمثل في العادة وسيلة للتعبير الحر عن الذات لصانعي الأفلام الإيرانيين، لتعزيز تقييد حرية التعبير عن الذات؟

تمتد جذور هذا التوتر إلى بدايات السينما الإيرانية في أوائل القرن العشرين. فقد كان الغرض منها في بدايتها الترفيه في المقام الأول. تُوضح الأستاذة في جامعة السوربون الفرنسية أنييس ديفيكتور المتخصصة في السينما الإيرانية، كيف أخفقت الأفلام الفارسية، وهي نوع من الفنون الشعبية ترتكز على الميلودراما والكوميديا، بدرجة كبيرة خلال هذه الفترة، في تأسيس أفكار وأنماط وعناصر فريدة أو هادفة.

بيد أن السينما الإيرانية واجهت غضب المؤسسات الدينية في البلاد تزامناً مع وصولها إلى مرحلة النضج. وفي خطوة تنذر برؤية الخميني اللاحقة، بدأت هذه المؤسسات في فرض الرقابة على الثقافة السينمائية الإيرانية الناشئة. يروي المخرج الإيراني ماماد هاجيغات، في كتابه “تاريخ السينما الإيرانية 1900-1999″، كيف أعرب الزعماء الدينيون عن استيائهم إزاء مشاهدة نساء غير محجبات على شاشات السينما، التي كانت حينها مقتصرة على الرجال فقط. ولم تبدأ الأفلام الغنية بالتفكير السياسي والاجتماعي والوجودي في الظهور إلا منذ عام 1960، مع ولادة حركة السينما، وظهور صناع السينما الإيرانيين مثل ميهرويجي وكيارستمي.

أسلوب التضمين المتجسد في الأفلام هو ما سيمنح صناع الأفلام الإيرانيين القدرة على محاربة اليأس، وعرض أفلام تؤكد على الحياة، أفلام بلا رقابة ومتحررة من القيود، أفلام لا أخلاقية وبلا معنى لكنها مع ذلك جميلة مثلما يقول كامو، فقط مثل “مذاق الكرز”.

ولكن حتى مع نجاح هذه الأفلام الجديدة في استكشاف موضوعات أكثر عمقاً، استمرت في مواجهة الرقابة الرجعية، التي وصلت إلى ذروتها الفعلية مع صعود الخميني ليصبح المرشد الأعلى للثورة الإسلامية. وعلى هذا فقد أصبح بوسعنا أن نرى في التاريخ الإيراني صراعاً حول عالم السينما، بين صناع السينما الإيرانيين المتحمسين وأركانها المحافظة الراسخة. وعلى رغم هذا، وطوال هذا الصراع الثقافي الحاد، استمر صناع السينما في إنتاج أفلام عالية الجودة.

في الواقع، من أبرز نتائج هذا الصراع الثقافي هو ظهور أحد أهم موضوعات السينما الإيرانية، ألا وهو اليأس. وخلافاً للتعريف المعتاد لليأس الذي جاء في الوجودية التقليدية، يبدو مفهوم اليأس في السينما الإيرانية وكأنه ازدراء للحياة، وتمكننا ملاحظة ذلك بمنتهى الوضوح في أعمال صانعي الأفلام الإيرانيين الذين عانوا من الغربة، وساد عندهم شعور بأن أعمالهم لا تنتمي إليهم ولا تُجسدهم. ولكن هل يعود أصل اليأس في السينما الإيرانية إلى القيود المفروضة على صناع السينما فقط، أم أنه في الحقيقة يضرب بجذوره إلى أعماق أبعد في المجتمع الإيراني، ويعبر عنه صناع السينما في البلاد ببساطة؟

ترتكز أيديولوجية النظام الإيراني على المذهب الشيعي، وتحديداً على أكبر طوائفه وهي الشيعة الإثنا عشرية. يتميز هذا المنهج الإسلامي بعقيدتين أساسيتين: الأولى هي الإيمان بعقيدة الإمامة، أي وجود 12 إماماً، آخرهم الإمام المهدي الذي يعيش في عالم الغيب لأسباب سياسية ودينية، وسيعاود الظهور مجدداً في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً. والثانية هي الاحتفال بيوم “عاشوراء”، لإحياء ذكرى وفاة الحسين، ابن الإمام علي، الذي قُتِل وقُطِع رأسه في كربلاء على يد جيش خليفة دمشق. بالنظر في العلاقة بين هاتين العقيدتين الأساسيتين، يُمكن ملاحظة حالة اليأس المتأصلة والازدراء الجوهري للحياة. فمن ناحية، لا يزال أتباع الطائفة الاثني عشرية يعيشون على الأمل، ويدعون أن يعود الإمام المهدي يوماً ما وينقذهم من هذه الحياة التي لا معنى لها. بينما، من ناحية أخرى، يرى المرء أن “عاشوراء” حدث يصور الموت على أنه طريق القداسة.

أفضت تطلعات أتباع الطائفة الاثني عشرية الاستسلامية بعودة الإمام المهدي إلى بقاء الطائفة لفترة طويلة خارج المشهد السياسي، مع إيمانهم أن الإمام فقط هو الذي يُمكن أن يكون الزعيم الشرعي. غير أن هذه الرؤية تغيرت مع وصول الخميني الذي أصر على أهمية إقامة دولة ولاية الفقيه، التي يتخذ فيها “الفقيه”، المرشد الأعلى، القرارات في غياب الإمام المهدي.

وبفعله ذلك، جعل الخميني ولايته مساوية لعصمة الإمام باعتباره الفقيه، وأدت عملية نقل العصمة التي قام بها الخميني إلى إذكاء حالة اليأس لدى الشيعة الاثني عشرية، ليس فقط لأنهم يأملون بظهور الإمام المهدي، لكن لأنهم أصبحوا الآن يتحملون “برضا” القيود الدينية والأخلاقية التي يفرضها رجل يدعي أنه يحل محل الإمام. وبالتالي، فحتى لو أن الخميني ساعد في تمكين دولة إيران وأعاد القوة والفخر للشيعة عموماً والشيعة الاثني عشرية خصوصاً، فقد عزز شعورهم باليأس. بالنسبة إلى الشيعة الاثني عشرية، ستكون الحياة دائماً شيئاً محتقراً لأن آمالهم تتعلق على الدوام بشيءٍ يتجاوز فكرة الحياة نفسها بل ويتفهها عموماً ويجعلها مجرد خطوة صغيرة نحو شيءٍ أعظم.

إذا ما ألقينا نظرة أعمق على عاشوراء ومشهد مصرع الحسين، سنجد أن حالة اليأس تبدو جليةً مجدداً، وكذلك تلاعب النظام الإيراني بهذا المفهوم. لدى الشيعة الاثني عشرية، والشيعة كلهم عموماً، افتتان ملحوظ بثقافة الموت، ويتشرف المرء بالموت “شهيداً” كالحسين. فخلال الحرب العراقية الإيرانية، روج النظام الإيراني وحلفاؤه نبل الشهادة وعظمتها، سعياً منهم إلى تشجيع الشباب على الذهاب إلى الحرب.

يحاول هذا التحليل تسليط الضوء على مجتمع إيراني يائس يعج بخيبات الأمل ويحتقر الحياة والإبداع ويعيش في فقاعة من السعادة والمجد. وفي هذا المجتمع، لا يُقبل الناس على الحياة بسعادة، إذ تنبغي على الدوام إعادة صوغها وفقاً للقيم الدينية والأخلاقية، ولا يوجد مكان يجسد هذه الرؤية بجلاءٍ أكثر من السينما الإيرانية، حيث تمكن ملاحظة يد الدولة الإيرانية الثقيلة و”الوعظية” بوضوح، بدايةً من البنية الهيكلية للفيلم وحبكته وحتى صوغه وتحريره، وهلُمّ جرا. لكن خلافاً لذلك، تزخر الأفلام الإيرانية برمزيات اليأس، مثل الانتحار في فيلم “طعم الكرز” (Taste of Cherry) للمخرج عباس كيارستمي وفيلم “دجاج بالإجاص” (Chicken with Plums) للمخرجة مرجان ساترابي، والانعزال في فيلم “ليالي نهر زاينده” (The Nights of Zayandeh-rood) للمخرج محسن مخملباف، ومخاوف الأطفال في فيلم “البالون الأبيض” (The White Balloon) للمخرج جعفر بناهي.

بسبب الرقابة المفروضة، برز صنفان من الأفلام. الأول هو الأفلام الشعبية، التي تخضع لمراقبة الدولة، وهي أفلام محلية لا تتجاوز حدود البلاد لأنها لا تناسب الذوق العام الأجنبي. والثاني هو الأفلام المستقلة، التي يصنعها المخرجين والممثلين الكثيرين الذين يعيشون في المنفى (كعائلة مخملباف على سبيل المثال) ولا تحظى بمشاهدة كبيرة في إيران، لكنها تلقى إشادة وتقدير من رواد المهرجانات وعشاق السينما. بيد أن عبقرية هذا الجيل من صناع الأفلام تكمن في تقبلهم الصراع. فقد تعلم بعض المخرجين، مثل كيارستمي، تجاوز الصعوبات بل وحتى خداع الرقابة من خلال اللجوء إلى أساليب ورموز أكثر إبداعاً من أي وقت مضى، تعتمد أكثر على أسلوب الإيحاء وتحتوي في باطنها على رموز أكثر مما يبدو لنا. ففي أحد أفلامه، “الحياة، ولا شيء آخر” (Life, And Nothing More) من إنتاج عام 1992، يصور كيارستمي مشهد نرى فيه التحول من صيحات النساء اللاتي فقدن عائلاتهن ومنازلهن جراء زلزال إلى منظر خلاب للطبيعة يعج بزقزقة العصافير. ومن خلال الدمج بين اللطميات، طقس شيعي لإظهار الحزن والكارثة، في دلالة على عبثية الحياة وشؤمها، نرى أن ما يحاول كيارستمي فعله هو تمجيد الحياة ببساطتها.

في الواقع، وبفضل أسلوب الترميز والتضمين، المتجذر بالفعل في الثقافة الإيرانية، والذي يوازي فكرة الإمام الغائب، بدأ صناع الأفلام في نثر الألغاز، لِعرض ما لا يمكن إظهاره على الشاشة. يأتي هذا اقتداءً بالشعر الإيراني، خاصة شعر سهراب سپهری وفروغ فرخزاد، اللذان عبرا عن نفسيهما من خلال الحذف والرموز مستخدمين أساليب مختلفة يجب شرحها حتى يفهمها القارئ.

ولهذا، فإن أسلوب التضمين المتجسد في الأفلام هو ما سيمنح صناع الأفلام الإيرانيين القدرة على محاربة اليأس، وعرض أفلام تؤكد على الحياة، أفلام بلا رقابة ومتحررة من القيود، أفلام لا أخلاقية وبلا معنى لكنها مع ذلك جميلة مثلما يقول كامو، فقط مثل “مذاق الكرز”.

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.