fbpx

“أليس الجميع ميتاً في النهاية؟”: السوريون يتعاملون مع “كورونا” بلغةِ الحرب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

لكثرة ما خاف السوريون بات الأمر روتينياً لذلك يخرجون من منازلهم ويتحدثون عن وباء يحدث خلف الجدران وعن حرب شاهدوها بأمّ أعينهم. وفي المواجهة بين فايروس وحرب تنتصر الحرب دوماً…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“لم نعد فُرجة، صار العالمُ كله فُرجة، الدول الكبيرة، إيطاليا، إسبانيا وأميركا، تخيلي يا عمو حتى أميركا!”، يرددُ سائق التكسي بزهو، الرجل الذي اعتاد أن يكون في مقدمة الأحداث العالمية، يشاهد اليوم دولاً يعوث فيها الموت من كلّ صوب من دون أن يتأكد تماماً إن كُنّا لا نزال حقاً بعيدين من دائرة الخطر. وهذا ليس من باب الشماتة لكن الشعب الأضعف والمسحوق تحت حربٍ وأزمة اقتصادية سيبهره أن تتداعى دول عظيمة بفعل “زكام” على حد قوله! وفي الحقيقة حتى لو دخلت سوريا دائرة الخطر في الوباء سيبقى ذلك السائق مبهوراً، هو الذي لا يصدق أن الدول الكبرى قد تحلّ عليها كوارث مثلنا تماماً!

هكذا يجد نفسه اليوم الشعب الذي اعتاد الموت بكلّ السبل، وصارت لديه وسائله للتحايل عليه أمام “كوفيد 19”. سيتحتم على الجميع تغيير أرقام الموت وتعديل كراسي الحاضرين ولكنهم سيغيرونها بطريقة تلائم حياتهم لا الوباء، فالموت واحدٌ بالنسبة إليهم لكن لطالما أبهرت طرائقه السوريين وكأننا درسٌ لا ينتهي عن أكثرِ طرائق الفناءِ غرابةً.

تغطيةُ الأفواهِ والنوافذ

في فترة ما، كان القناصون يستقرون في الكثير من الطرق الواصلة إلى العاصمة دمشق، يستهدفون أيّ مركبةٍ تمرّ، حتى بات المرور شبه مستحيل، أتذكر كيف كنّا نسحب ستارة النافذة في الحافلة، ونختبئ خلف تضليل القنّاص حتى نصل من دون أيّ ثقب مريب في الزجاج. ثم اعتاد الكثير من السوريين تغطية نوافذهم من عين قنّاصٍ ليمروا خلفها بطمأنينة في منازلهم، التي تقبع تحت تهديد قصفٍ مفاجئ. الحمايةُ قد تعني أقل مما يخيّل لنا، ففي طريقة الموت والحماية من هذا الموت الكبير أي “بستارة” شيء من الكوميديا السوداء، لكن الحقيقة هي أننا نحتاج حجاباً يصدُّ عين العدو عن ضحيته. وهكذا تحوّل شيء بسيط كالستارة إلى وسيلة دفاع قوية، ولأن الحياة تعني عيش تجارب متشابهة، يعيد السوريون تجربة الستارة لكن هذه المرة من خلال كمامة .لكنهم وعلى عكس الستارة يتعاملون معها باستخفاف مريب، فيضعونها على ذقونهم أثناء الحديث أو أثناء تدخين سيجارة طارئة، ثم يتخلصون منها في الشارع، تاركين عشرات الاحتمالات لنقل العدوى. في المقابل لم يتخيلوا ولو لمرة أنّهم قادرون على إزاحة الستارة إلى أن يتأكدوا تماماً أن القناص رحل! تكمن المشكلة في شكل العدو، فعدو يُرى بالعين المجردة ليس كآخرٍ يقتل الضحية من دون أن تراه. في النهايةِ كلّ إنسان يريد قاتلاً يحمل بندقية أو قناصة، أليس من الغريب أن يقتلنا عدو لا يرى؟

تبدو المدن السورية ليلاً وكأنّها مدنٌ هجرها سكانها، فيما ترتفع البيوت بالصخب والشجارات. فجأة، ندرك أن عائلات كثيرة ليست سعيدة وأصوات الصياح في البيوت المتلاصقة في دمشق تجعل النساء يرتجفن حتى لو لم يكن المعنيات ويجلسن في المنزل المجاور.

لذلك تبدو حكاية هذا الشعب مع الكمامة والكفوف معقدة، حيث يُبدي البعض اهتماماً بارتدائها ولكنه يزيلها متى شاء ويعيدها أيضاً متى شاء، وكأنّه يعرف اللحظة التي سيأتي بها الفايروس في ثقة عمياء بأنه غير مصاب، وهذا ما يسمح للبائع في محل الأجبان ببيع الجبن وهو يرتدي كفّين ثم يمسك ثمن ما باعه بالكفين ذاتيهما، لينظر إلي مردداً: “انظري ألزمونا بإجراءات السلامة”. آخذُ الجبن ولا أصاب بـ”كورونا”، وهكذا تتحقق نبوءة بائع الجبن بأن الفايروس مؤامرة عالمية، لكن مهارة السوريين تتخطى المتوقع مع بائع الفلافل صاحب كشك فلافل سمّاه كشك “أحلى زلمة”، تيمناً، فهو ينادي الرجال المشترين أو حتى المارقين من أمام كشكه بلقب “أحلى زلمة”، يستقر الكشك على أحد الأرصفة، مع طعامه المكشوف مباشرة على شارع عام، ولمواكبة الوباء خطّ صاحب الكشك على لافتة: “كورونا بتعدينا وفلافل أحلى زلمة بتحمينا”.

الخوف يختفي بعد أسابيع 

في البداية يكون الأمر جديّاً والخوف حقيقياً، يلتزم الجميع قواعد السلامة الشخصيّة أثناء الوباء، لكنهم سرعان ما يعودون بطريقة ما إلى حياتهم السابقة، حدث الأمر ذاته خلال الحرب، في البداية كذّب الجميع ما يحدث ثم انخرطوا به مرغمين بأعداد الشهداء والمنازل المهدمة والرؤوس المقطوعة. الحقيقة تأتي في بعض الأحيان على طبق من دم، لكن الخوف هذه المرة مختلفٌ، السوريون يعرفون الخوف كما لم يعرفه سواهم، لكن أن تخاف من صاروخ يختلف عن خوفك مِنْ مَنْ حولك، وأن تخاف من طلقة رصاص يختلف عن خوفك من ملامسة الآخرين. لا تسير الأمور بهذه الطريقة في الحقيقة، يحتاج السوريون إلى التصديق كأن تتوقف الصغيرتان في الشارع عن الشجار حول تبادلهما الكمامة، فكلٌّ تلبسها عشر دقائق. تقول صديقتي إن الخوف هذه المرة أكبر وأكثر شمولاً، إنّه يهدد أيّاً كان، في كلّ مكان وتحت أيّ سقف، لا يكفي أن تبتعد من منطقة الصراع لتنجو، ولا أن تغادر مدينتك نازحاً لتنجو، لكن كيف سيصدق السوريون؟

لن نخاف أكثر، إنه شعار المرحلة الضروري لتجاوز الأزمة واستكمال الحياة، فكيف يعيش شعبٌ ما حظراً حقيقياً وهو جائع، يفكرُ كيف يجلب الطعام لأطفاله في الغد. الجوع أقوى من الأوبئة، بسطات الخضار على بساطتها هي طريقةُ حياةٍ، والعتّالون ينتظرون في الساحات فرصةً لحمل كيس اسمنت ليشتروا خبز يومهم، والناس يتجمهرون على أبواب المؤسسات الاستهلاكية بانتظار حصصهم من السكر والأرز المدعوم، تلفُّ بعض النساء شالاتهن على أفواههن، يتدافع الناس، يمدون أيديهم للحصول على السكر والأرز. يغدو المشهد شعبياً ومنافياً للصحة العامة فقط لأولئك الذين لا يحتاجون إلى الأرز المدعوم ويشترونه بضعف سعره مرتين! لكن المشهد في الحقيقة وللناس الذين يعلمون معنى الجوع هو لحظة خشوع، أمّا للكاميرات فهو لقطة إنسانية حزينة. والأشخاص الذين يفهمون حزن البلد يرون في هذا التدافع قدسية لن يفهمها كثيرون، لكنها تُرى بوضوح في صرخات النساء بانتظار حصتهن من السكر: “أنا ما أخدت ومش راجعة إذا ما أخدت سكراتي”. كلّ هذا لهو أقوى من أيّ وباء وفي الحقيقة ولكثرة ما خاف السوريون بات الأمر روتينياً لذلك يخرجون من منازلهم ويتحدثون عن وباء يحدث خلف الجدران وعن حرب شاهدوها بأمّ أعينهم. وفي المواجهة بين فايروس وحرب تنتصر الحرب دوماً، فقط لأن لديها ما تقدمه حقاً، ليس أعراض زكام وحسب، هكذا يردد السوريون.

الاختباء ليلاً

تبدو المدن السورية ليلاً وكأنّها مدنٌ هجرها سكانها، فيما ترتفع البيوت بالصخب والشجارات. فجأة، ندرك أن عائلات كثيرة ليست سعيدة وأصوات الصياح في البيوت المتلاصقة في دمشق تجعل النساء يرتجفن حتى لو لم يكن المعنيات ويجلسن في المنزل المجاور. “إن كان صوت صياح الزوج هكذا، فكيف ستكون صفعته؟”، تقول امرأة لأخرى في الشارع، متابعة: “صارت أسرار البيوت مفضوحة بسبب كورونا”. لم يكن ينقص العائلات السوريّة سوى “كورونا” لتظهر هشاشة تلك العلاقات وخفوت نورها، هكذا ستتحمل وجوه النساء وأجسادهن صفعات إضافية وكدماتٍ أكثر. أقصى ما تستطيع فعله النساء والفتيات هو إرسال شكواهن إلى حسابات النسويّة على “فايسبوك”، مذيّلاً بحرفين يرمزان إلى أسمائهن، في غياب قانون يحميهن من التعنيف الأسريّ، مجرد محاولات بائسة لتفريغ أحزانهن، من منزلي أسمع جارنا يصرخ ويشتم زوجته وابنه الصغير في حين يعمّ بعد الصراخ صمتٌ مهيب، لأتخيل الأجساد التي ترتعش تحت الغطاء محاولةً كبت صوت بكائها، يعلم الجميع أن ذلك الصمت ليس بآمنٍ.

على الجهة الأخرى، يحاول رجال الاندماج في الحياة الروتينية لزوجاتهن، مكتشفين عالماً آخر قد يكون خلاصاً لهم خلال النهارات الطويلة، ليمدوا يد العون، أحياناً بدافع الملل وأحياناً أخرى لرغبة حقيقية في المشاركة. ويمكن القول إن أحاديث الأصدقاء المشتركة في أمسيات مسروقة يلعبون خلالها “الورق” حتى طلوع الفجر، منتظرين انتهاء منع التجول مع قدوم الصباح، باتت أحاديث مختلفة تماماً يعرِضُ فيها كلّ رجل مهاراته الجديدة، والأكثر فخراً هو ذلك الذي قام “بتنظيف المطبخ”، مكتشفاً أن زوجته ليست في منتهى الترتيب والنظافة. لكن السؤال الملح، ماذا بعد “كورونا”؟ هل سيحتمل الرجال العودة إلى أعمالهم؟ أم أن بعضهم سيجد في المطبخ وأعمال المنزل عملاً يشبهه أكثر، هل ستتغير الأدوار بعد “كورونا”؟

يشعر السوريون بأنهم مختلفون عن بقية العالم وأن حظهم العاثر جعلهم لاجئين وقتلى ومعتقلين وأيتاماً وهاربين دوماً من الخوف، ليعيشوا كفافهم من الأيام الحزينة، متابعين حياة غيرهم من الشعوب، غير مصدقين أن الحياة كريمة لهذا الحد مع غيرهم!

المقابر الجماعية وأسرّة العناية المشدّدة

في دراسة نشرتها كلية لندن للاقتصاد اعتماداً على التقارير السوريّة وتقارير “منظمة الصحة العالمية”، فإن عدد الأسرّة المزودة بمنافس اصطناعية في سوريا هي نحو 650، نصفها قيد الاستخدام بالفعل وهذا يترك 325 سريراً فقط لـ”كورونا”، للحظة يشعر المرء بأن الأمر مجرد مزحة، لكن هذا حقيقي. وهناك مدنٌ وفق التقرير لا تحوي أيّ أسرّة، كمدينة دير الزور التي مزقها تنظيم الدولة “داعش”، لن يريد أحدٌ التفكير بشكل الكارثة المقبلة إن حدثت، فهي ستصنع مقابر جماعية من دون الحاجة إلى مجازر وإلى مناطق بعيدة تُخفى فيها تلك المقابر، لكن هنالك فرقاً بين مقابر جماعية أصحابها بلا هويات وأخرى لأشخاص لم تعد تتسع لهم القبور. لم تصل سوريا إلى هذه المرحلة من الوباء بعد، لكننا إزاء مقارنة حقيقية بين حياتين واحدة في الحرب وأخرى في الوباء والمقارنة تفترض أن نتخيل شكل ما سيحدث كيلا نظلم الحرب على الأقل.

تفرضُ الحياة شكل لغةٍ يلائم كلّ أزمة أو مرحلة يحياها الإنسان، فتختصّ بعض المفردات والعبارات بقضية ما وهكذا تتشكل هوية هذه القضية، عبر سلسلة من المفردات المشتركة، فمفردات الحرب معروفة “قتل، هجوم، طلقة، تفجير، صاروخ، قتلى، شهداء، اغتصاب”… أمّا مفردات الوباء فتختلف كليّاً، “جائحة، عدوى، فايروس، أعراض، إحصاءات، إصابات، لقاح”…

ما زال جارنا العجوز يقول عن وفيات كورونا “قتلى” وكأنّ الحرب لم تفارقه، هو الذي اعتاد أن يكون الموت على شكل القتل أو الشهادة، لن توائم ذاكرته الحربية كلمة “وفاة”، وحين قلت له: “تقصد وفيات وليس قتلى؟”، رفض مؤكداً أن لا فرق، أليس القتيل هو شخصٌ ميت! والمتوفى شخصٌ ميت! وحين شرحت له أن القتيل يستحضر بالضرورة قاتلاً وحرباً، أمّا المتوفى فسيحتضر سبباً جسدياً داخلياً للموت كالسرطان أو “كورونا”، هزّ رأسه غير مقتنعٍ مردداً: “أليس الجميع ميتاً في النهاية؟”.

في انتظار الخلاص

ينتظر السوريون اليوم مع العالم المعجزة والخلاص، مترقبين ذلك اليوم الذي يُعلن فيه عن لقاح لهذا الوباء. وفي الحقيقة إن انتظار السوريين حدثاً عظيماً كبقية العالم وكأنّهم جزء حقيقيّ من الكرة الأرضية، لهو شرف وانتصار يعادل الوصول إلى اللقاح، فليس بالضرورة أن يكون الخلاص لقاحاً بل أن يعود شعبٌ ما ليشكّل جزءاً من خوفٍ جمعيّ وترقبٍ عالميّ للخلاص، على عكس ما حدث في السنوات التسع الفائتة حين كان السوريون هم الأزمة وحياتهم فُرجة العالمِ، وورقة النقاش والتداول في كلّ المحافل، وكأنّهم مسلسلٌ يُتابع بشكل منتظم. نعم يشعر السوريون بأنهم مختلفون عن بقية العالم وأن حظهم العاثر جعلهم لاجئين وقتلى ومعتقلين وأيتاماً وهاربين دوماً من الخوف، ليعيشوا كفافهم من الأيام الحزينة، متابعين حياة غيرهم من الشعوب، غير مصدقين أن الحياة كريمة لهذا الحد مع غيرهم!

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.