fbpx

“لا أريد أن أصبح قاتلاً”… الخدمة العسكرية كابوس الشباب السوري

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

البعض يرفض فكرة القتال نهائياً والبعض الآخر لا يودّ أن يضيع عمره على الجبهات ويعود شهيداً وهناك من يرفض أن يكون بيدقاً داخل النظام السوري.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يبدأ ذعر الشباب السوريين من الخدمة العسكرية في نهاية شهر أيار/ مايو من كلّ عام، حين تبدأ حملات تعميم أسماء المتخلفين عن التجنيد على الأجهزة المختصّة، ويتم اقتياد من يُلقى القبض عليه إلى مركز التجمع المخصص في المدينة، ليتم فرز الجميع في ما بعد إلى النقاط العسكرية، والبعض يُلقى القبض عليه في نقاط التفتيش حين تفييش الهويات الشخصية.

ويُعد الهرب من الخدمة العسكرية خياراً مثالياً للكثير من الشباب، البعض يرفض فكرة القتال نهائياً والبعض الآخر لا يودّ أن يضيع عمره على الجبهات ويعود شهيداً وهناك من يرفض أن يكون بيدقاً داخل النظام السوري.

في سؤال “الدفاع عن الوطن”، هناك لحظة مفزعة بالنسبة إلى السوريين. هناك من يؤمن بالدفاع عن الوطن حتى ولو كان العدو هو شقيقه السوري، وبفضل عقود من التربية الوطنية والبعثية والدكتاتورية تبدو تلك العقول كما لو أنها غُسلت تماماً، صانعة تركيبة مثالية من الخوف من الآخر المختلف، وكأنّه وإن حكم رئيس آخر ستُباد البلاد! هذا ما يؤمن به الكثير من السوريين على الأقل، وكأنّ البلاد ليست مبادة أصلاً!

حرص النظام على تنشئة طائفية عميقة، ينفيها البعض، إلا أنها ساهمت في تعميق الخوف من الآخر. ومدفوعين بتلك المخاوف، ينضمّ كثيرون برضاهم إلى الجيش السوري لمحاربة أشقائهم، إما خوفاً على الأحباء، أو حين تختفي الخيارات الأخرى، الانضمام أو الهرب! هنا حكايات شبان سوريين مع الخدمة العسكرية الالزامية في سوريا.

الهرب من الخدمة العسكرية

كثيرون غادروا سوريا تهريباً عبر لبنان أو تركيا في رحلة طويلة إلى أوروبا أو قرروا البقاء في تركيا أو لبنان. يردد نورس: “لا أريد أن يضيع عمري في قتال لا طائل منه لنظام وحشي، أرفض خيار القتال أصلاً، حياتي في مكان آخر، أنا اليوم في ألمانيا أعيش حياةً آمنة وأحقق نجاحاً في حياتي العملية”. لكن النجاة بعيداً لا تبدو بهذه السهولة، فعلى الشاشات يشاهدون الوجوه الطيبة لعائلاتهم، لأمهاتهم  وآبائهم الذين قد لا يلتقون بهم على الإطلاق، وهذا تحديداً ما يجعل عصام (اسم مستعار) يكره هذا النظام أكثر، فهو حرمه تلك اللحظات الأخيرة مع والده المتوفى منذ عام، فيقول: “لا يأتي حقدنا على النظام من تصرفاته وحسب، وهو حقد محق، إنما لأنه خرّب ذكرياتنا ودمّر تلك اللحظات الثمينة مع أهلنا”.

كان الضابط خلف سامر (اسم مستعار) ورفاقه يصيحون مشجّعين الجنود على القتل، لكن سامراً كان يرمي الرصاص بعيداً من المدنيين، مرة خلف أقدامهم ومرة فوق رؤوسهم. لم يقتل شخصاً واحداً خلال السنوات الفائتة وأصيب مرتين. يقول سامر: “أتعلمين أن هناك قانوناً دولياً يدعى حقّ الاستنكاف الضميريّ الذي يجوز من خلاله رفض القيام بأعمال قتالية أو استخدام القوة بغرض القتل، ولكن هل تظنين أن السلطة هنا تعترف بوجود شيء كهذا؟ لم أرد مرة قتل شخص فكيف إن كان مدنياً سورياً؟”.

فرار داخلي

“منذ 10 سنوات أنا عالق في مدينتي كالفأر، لم أسافر مرة إلى أي مدينة أخرى، هذا الفرار من الخدمة العسكرية عطّل حياتي كلها”، يعيش مازن (اسم مستعار) حياته كالهارب، يمشي طرقاً طويلة حتى يتجنب نقاط التفتيش العسكرية. لا يستطيع إجراء أي معاملة حكومية أو الزواج فكلها تحتاج ورقة من شعبة التجنيد. لم يستطع الهجرة وعلق في سوريا رافضاً الالتحاق بالخدمة العسكرية، لكنه لم يعلم أن هذا القرار له تبعات أقسى مما تخيل، واليوم وهو يرى 10 سنوات مضت من دون أن يفعل خلالها شيئاً واحداً والأمر لم ينتهِ بعد، يشعر بأنه اتخذ القرار الخاطئ فلو التحق بخدمة العلم، لكان الآن قد انتهى منها، إن لم يمت في اشتباك ما، يعقّب مازحاً، ثم يقول: “كانت تلك السنوات الـ10 ستنتهي في أي حال، في الجيش أو خارجه، والآن ماذا علي أن أفعل؟”.

لكن الأمر ليس بسيطاً، المتخلفون عن الخدمة العسكرية يعيشون خوفاً دائماً، وهرباً لا ينتهي وكأنّه سيتم الإمساك بهم في أي لحظة.

حرص النظام على تنشئة طائفية عميقة، ينفيها البعض، إلا أنها ساهمت في تعميق الخوف من الآخر.

في قريته في الجنوب السوري، كان لعلاء (اسم مستعار) صديق داخل شعبة التجنيد، يحذره كلما خرجت دورية لالتقاط بعض الشبان، يختبئ ليومين أو ثلاثة عند بعض الأصدقاء. اختار علاء هذه الحياة على رغم صعوبتها، يزرع أرض والده ويبيع محصوله لأهل القرية، يسقي شتلات البندورة والباذنجان ثم يردد: “حين أراقب محاصيلي وهي تكبر، أعلم أنني اتخذت القرار الصحيح”.

في الجانب الآخر، هناك من يعالج ألمه بالفنّ، وسط هذا الضياع الذي يعيشه الشباب السوريّ. فحين قرر صديقي متابعة شغفه بالفن والمسرح، أنشأ فرقة مسرحية صغيرة، كنا نتدرب بشكل شبه يومي، نصغي إلى الموسيقى، ونتحدث عن الكتابة، وعلى رغم صعوبة وضعه وعدم قدرته على ممارسة مهنة التعليم، لأنه متخلف عن الخدمة العسكرية أو الحصول على عمل جيد إلا أن حياته هذه خففت وطأة عدم استقراره. كان يروي لنا تفاصيل صنع خرائط آمنة لا تمر من نقاط التفتيش ويضحك من تلك المسافات التي يقطعها حتى يصل إلى المكان حيث كنا نمثّل ونرقص ونقرأ مسرحيات.

من جهة أخرى هناك أساليب أخرى للتحايل، إذ لجأ شبان وريون إلى تمديد دراستهم الجامعية قدر المستطاع، متقصّدين الرسوب في سنتهم الجامعية الأخيرة، كي يحصلوا على سنة إضافية من الحرية من خلال “وثيقة دوام” التي تؤجل خدمتهم، لكن لا يحق لهم الرسوب أكثر من ثلاث سنوات. يقول علي (اسم مستعار): “إنه أمر عبثي أن تعرف حل جميع الأسئلة وتجيب بطريقة خاطئة، فقط كيلا تلتحق بالخدمة العسكرية”.

ولأن الشباب لا يستطيعون اتباع هذا الأسلوب طويلاً فهم مجبرون على متابعة دراستهم العليا إن كان مجموعهم الدراسي يسمح بذلك وقد يلجأ البعض إلى التسجيل في جامعات افتراضية، إن كان ذلك ممكناً، لأن رسوم التسجيل قد تكون عالية بالنسبة للبعض.

قراءة كتاب وسط الخراب

عماد (اسم مستعار) واحد من الشبان الذين التحقوا بالخدمة العسكرية لأن لا خيار آخر لديه وبخاصة مع وضعه المادي السيئ، ومن الجيد أنه بوساطة أحدهم، تمكن من الحصول على خدمة بعيدة من مناطق الاشتباك في إحدى نقاط التفتيش في مدينة درعا. على حائط مسكنه الصغير، صنع رفين من الخشب رتب عليهما كتبه، التي تستقر تحتها بندقيته. حين تنتهي مناوبته يتجه إلى مسكنه ويخرج كتاباً ويقرأ، أو يكتب الشعر. في البداية أثار وضع المجند الجديد حفيظة نقطة التفتيش، ولكن حين تأكد الضابط المسؤول أن الكتب ليست سياسية، وأنها روايات وقصائد عن الحب والإنسان نسي أمره. يرمي بعض المجندين نكاتاً عن كتبه وطبيعته المسالمة والمحايدة لكنه لا يكترث، يقول: “القراءة حمتني، كان المكان سيغيرني حتماً لكن الكتب كانت تبعدني حقاً من تلوث الخارجي”. وبينما كان رفاقه يسلبون جزءاً مما تحمله المركبات من أطعمة أو خضار أو حتى مدافئ كهربائية ويأخذون المال مقابل عدم تفتيش الشاحنات، كان عماد قريباً جداً يقرأ قصيدة عن الحرية في مسكنه.

معاملة وحيد

“على الشباب بين سن 18 و42 عاماً، الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية لمدة تتراوح بين عام ونصف العام إلى عامين نظرياً وذلك يعني أنه باستثناء الشاب الوحيد، وهو الذي ليس لديه أشقاء ذكور، فإن جميع الرجال السوريين الذين لا يعانون من مرض عضال أو عجز جسدي ملحوظ، مطالبون بتأدية خدمتي الجيش، النظامية والاحتياطية، لدى استدعائهم إليها”، بهذا القانون الذي يعلنه الدستور السوري يتبدى الأمل للكثير من الشباب الذين حاول أهلهم جلب أخ لهم وفشلوا ولعنوا في سرهم حظهم حين ولدت بنت أخرى، فأُطلق عليه اسم شاب وحيد، والذي ما اعتقد والداه يوماً أن هذه الصفة ستنقذه لاحقاً دخول أقسى حرب عرفتها المنطقة.

تردد والدة صديقي: “ليتني جلبت لك أخاً يعينك على هذه الحياة”، فيرد ابنها بسخرية: “ليش؟ كان واحد منا مستشهد والتاني عبيخدم عسكرية”، يتابع:” أنا فعلاً أشكر الله، فلا أتخيل نفسي داخل هذه الدوامة التي لا ينفك الرفاق يتحدثون عنها.”

باتت صفة الشاب الوحيد هبة، يحسده عليها الرفاق في سرهم وميزة مهمة في الزواج، فلا يخفى على أحد أن حظوظ الشاب في قبول فتاة الزواج به ترتفع إن كان وحيداً لعائلته، أو أنهى الخدمة العسكرية، فلا تتخيل الفتيات أن تمرّ سنواتٌ والزوج يقاتل على الجبهات وقد يعود شهيداً في أيّ لحظة. لكن المعاملة التي تمنح الشب الوحيد هذه الحريّة، ليست بالهينة وتأخذ وقتاً وجهداً طويلاً وورقة طبية تؤكد عدم قدرة الأم على الإنجاب فحتى احتمال إنجاب صبي آخر يهدد حصول الشاب على إعفاء من الخدمة العسكرية.

خدمة احتياط لأسبوع لا غير

على الجانب الآخر تحدث تلك القصص التي تبدو خيالية وصاحبها ذو حظ ممتاز، فحين طُلب جورج (اسم مستعار) لخدمة الاحتياط، كان بدأ في منزله عزاء حقيقي قبل أن يلتحق، والسبب أنه السند الوحيد لوالديه العجوزين ولزوجته وطفليه الصغيرين، وعلى رغم البكاء والتضرع والصلاة إلا أن جورج التحق بالخدمة. وأثناء ركوبه الطائرة من دمشق إلى القامشلي صدر قرار من القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة ينص على إنهاء الاحتفاظ والاستدعاء لصف الضباط والأفراد المحتفظ بهم والاحتياط المدني من مواليد عام 1981 وما قبل، وحين هبطت الطائرة كانت الرسائل والاتصالات بدأت تصل مهنئة جورج على إنهاء خدمته التي لم تبدأ، إذ أمضاها حرفياً في السماء. هكذا بقي في القامشلي أسبوعاً لإنهاء أوراق إعفائه من الخدمة وعاد إلى زوجته وعائلته عودة المنتصر.

“لا أريد أن يضيع عمري في قتال لا طائل منه لنظام وحشي، أرفض خيار القتال أصلاً، حياتي في مكان آخر”.

لكن القصص لا تعرف دوماً نهاية سعيدة. سليم (اسم مستعار) مثلاً فرّ 20 يوماً وعاد للالتحاق بالجيش بعدها، وحين صدر قرار التسريح الأخير لم يشمله لأن لديه 20 يوم فرار واليوم وبعد خدمة سنوات هو ينتظر قراراً جديداً قد يطول كثيراً!

الجنديات أفضل من الجنود

أول إعلان عن تشكيل فصيل نسائي مقاتل، كان في مدينة حمص حيث انضمت حوالى 500 امرأة في صفوف “لبؤات الدفاع الوطني”، وبعد فترة تدريب قصيرة لم تتجاوز شهراً واحداً دخلن ميدان القتال.

للفتيات والنساء أسبابهن للالتحاق بالخدمة العسكرية التي لسن مجبرات عليها أصلاً، فالإعلان الرسمي يعرض الانضمام لمن لديها الرغبة، لكن أخريات التحقن بسبب خسارة أحد الأشقاء في القتال، فاخترن ذلك بدافع الانتقام، والبعض كما أسلفنا اعتقاداً بأنهن يحمين الوطن حقاً من الدمار وهي فكرة طوباوية للغاية وسط الجحيم السوري.

ويبدو أن سمعة المجندات أفضل من تلك التي أشيعت عن الجنود، فلاحظ السكان في المناطق التي كانت مجندات يستلمن فيها الحواجز، معاملة أكثر لطفاً من تلك التي تلقوها من المجندين!

من جهة أخرى، لعبت المجندات أدواراً قتالية مباشرة كما حدث على أطراف العاصمة في معارك مدينة جوبر، حيث استخدمن أسلحة خفيفة وثقيلة وقدن دبابات وحتى قناصات وبخاصة في كتيبة المغاوير في الحرس الجمهوري حيث خضن معارك في جوبر.

تبدو فكرة الدفاع عن الوطن ساحرة وجذابة لكنها في العمق أكثر قسوة مما يبدو لنا، وعلى رغم هذه القصص إلّا أن هنالك جنوداً ذهبوا بكامل إرادتهم والتحقوا بالجيش السوري وقتلوا سوريين وانتصروا لفكرة غرزت فيهم عنوة، وحُكي عنهم بافتخار! كأبطال مغاوير، هناك جنود وضباط سرقوا قرى ومدناً كاملة وباعوها مقابل أثمان زهيدة، لذلك يعاني الكثير من السوريين مع فكرة الوطنية، فالوطنية هي التي دفعت كثيرين إلى القتل والسرقة والنهب، وما بقي خلفهم لا يبشر بالخير، ما بقي هو مجرد حطام ومدن منهوبة.

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.