fbpx

الإنتحار بين “الوليمة الكبيرة” و”أنا مش كافر”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الرجل لا يضع حداً لحياته البائسة وحده، بل يحاول بشجاعة قل نظيرها، ان يضع حداً للصمت. هذا الصمت الخنوع الذي يطبق على صدورنا جميعاً، وهذا الاعتراض القاصر حتى عن ازعاج طبقة سياسية ومصرفية تمعن من دون خجل في ذبح شعب بكامله.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]


اختار الرجل الذي وضع حداً لحياته في شارع الحمرا، مطلقاً النار على نفسه، ان يترك رسالة تجمع سجله العدلي مختوماً بـ”لا حكم عليه” وعبارة من اغنية شهيرة لزياد الرحباني “انا مش كافر”. 

ليست رسالة مشفّرة، اذ يسهل، اذا ما تمعّن واحدنا في دلالاتها، أن يقرأ فيها رسائل عدة. الاغنية التي اختارها الرجل المنتحر مكتوبة وملحنة لحال كهذه الحال مرّ بمثلها لبنان في فترات سابقة، ولا يزال غارقاً في الجوع والطائفية. ولا تزال تصح كما لو أنها مكتوبة اليوم، مع ان صاحبها صامت منذ مدة طويلة ولم ينطق حتى في عز انتفاضة اللبنانيين على من يجوّعهم ويكفّرهم. “عم تاكلي اللقمة بتمي واكلك قدامك يا عمي واذا بكفر بتقلي كافر” تقول الاغنية، وهو تماماً ما يحدث مع معظم اللبنانيين بنسب متفاوتة.

رسالته واضحة. موته هو إعلان، بطلقة في الرأس، عن موت طبقة مسحوقة كانت تنازع للبقاء مترنّحة عند خط الفقر، لكن أتت الأزمة لتدفنها

“أنا مش كافر”، يقولها الرجل المنتحر، ولا أذكر اسمه هنا، لان انتحاره ليس شخصياً، بل كما لو انه ينتحر عن فئة كبيرة من اللبنانيين. الرجل بتركه هذه الرسالة، لا ينتحر لأسباب شخصية. لا يضع حداً لحياته البائسة وحده، بل يحاول بشجاعة قل نظيرها، ان يضع حداً للصمت. هذا الصمت الخنوع الذي يطبق على صدورنا جميعاً، وهذا الاعتراض القاصر حتى عن ازعاج طبقة سياسية ومصرفية تمعن من دون خجل في ذبح شعب بكامله. طبقة، “تصلي الأحد وتصلي الجمعة، وتفلح فينا على طول الجمعة”، وهي نفسها إذا كفرنا (أو شتمنا) “بتقلي كافر”.

اختيار الأغنية ليس تفصيلاً. كلامها أقرب الى بيان ثوري منه الى شعر غنائي. اغنية تصلح نشيداً وطنياً لبلد كافر ينطبق عليه كل حرف في الأغنية: “أنا مش كافر بس البلد كافر، انا مقبور ببيتي ومش قادر هاجر”. أليست هذه حال الغالبية العظمى من اللبنانيين؟

رسالة منتحر شارع الحمرا

عبر انتحاره بهذه الطريقة، ومع هذه الرسالة التي تجمع إلى أغنية الرحباني، سجلاً عدلياً “نظيفاً”، يمحو الرجل أناه من هذا الإنتحار. يمحوها، بأن يقتلها لصالح الجماعة. لم يترك وصية لزوجة او ابن او ابنة او حبيبة. لم يترك اعتذاراً من أم أو أب أو أصدقاء. لقد الغى الرجل اناه وما يدور حولها، وجعل من رسالته ومن انتحاره واواً للجماعة، واواً كافرة. يقول: تنتحرون حينما تبقون صامتين. وانتحارنا لا يعني موتنا بالضرورة، فغالبنا منتحر لا محالة وهو حي “لا يرزق”. الرجل لم يضمّن رسالته كلاماً كثيراً، ولا حشواً، ولا دموعاً ولا اعتذارات. إلى الأغنية ودلالاتها، شهر سجله العدلي نظيفاً تماماً، في بلد يعترف وزير داخليته على الهواء مباشرة بقتل شخصين بدم بارد، وتحكمه مجموعة من أمراء الحرب الذين لطخوا أيديهم وسجلاتهم بدم كثير لا يمحى، ولو أنهم “نظّفوا” سجلاتهم العدلية، ولم تصدر أحكام بحقهم، وإن صدرت، عادت وألغيت بإعفاءات عامة من دون حساب. 

رسالته واضحة. موته هو إعلان، بطلقة في الرأس، عن موت طبقة مسحوقة كانت تنازع للبقاء مترنّحة عند خط الفقر، لكن أتت الأزمة لتدفنها مع كل من ينتمي إليها تحت هذا الخط. أما ما يسمى بـ”الطبقة الوسطى” فالإنتحار الذي يشبهها، هو انتحار كذلك الذي صوره العبقري الإيطالي ماركو فيريري في فيلمه “الوليمة الكبيرة” الذي يروي قصة أربعة رجال في منتصف العمر يقررون الانتحار الجماعي في حجر طوعي بواسطة ملذات الحياة الثلاث: الاكل والشرب والجنس المتواصل حتى الموت. أحدهم، يلعب دوره الممثل الفرنسي ميشال بيكولي(توفي في أيار الماضي بمرض كورونا)، ينفجر من التخمة، ويموت من كثرة الطعام.

“الوليمة الكبيرة” هو تجسيد لإنتحار الطبقة الوسطى، “أنا مش كافر” تجسيد لإنتحار الفقراء. في الأعلى، رئيس جمعية المصارف سليم صفير، يتأمّل المشهد ضاحكاً، ويشرب الويسكي!

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.