fbpx

“كورونا” مرّ من هنا: عادت زقزقة العصافير يا راشيل!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان حدثاً غريباً أن أفيق من النوم على زقزقة عصافير الدوري وهي تلهو قرب نافذتي في مدينة البصرة، على نحو ما أَلفته منذ عهد بعيد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كانت هذه العودة الاستثنائية لأنغام الطبيعة، متزامنةً مع الإغلاق التام الذي فرضته السلطات في مطلع آذار/ مارس من هذا العام كتدبير احترازي للحدّ من تفشي وباء “كورونا”.خمد الضجيج البشري المزعج فجأةً، ما سمح بإصغاءٍ نادرٍ إلى أصوات الطبيعة المفقودة.

لعل هذا يستحضر إلى أذهاننا المقال الخالد “يوم صمتت العصافير” لراشيل كارسون Rachel Carson، في كتابها “الربيع الصامت” Silent Spring المنشور عام 1962. وفيه لفتت انتباه الرأي العام إلى اختفاء تغريد الطيور وموتها بسبب التلوث بالمبيدات، داعيةً إلى إيقاف استخدام هذه الكيمياويات الخطرة. هاجم أرباب الصناعة الكيماوية السيدة كارسون بشراسةٍ متهمين إياها بأنها امرأة “تهرطق” وحسب؛ بيد أن كارسون انتصرت في قبرها إثر وفاتها المبكرة بعد عامين من صدور كتابها ذاك، بعدما ألهمت كلماتها الملايين ليولد من يومها حراك عالمي مناصرٌ للبيئة كان له دور فاعل في إعادة توازن العلاقة ما بين الحياة البرّيّة والبشريّة… ولو نسبياً.   

تأسس الفكر البيئوي الحديث بصبرٍ وثباتٍ على يد مجموعة من عشاق الطبيعة المُلهمين أمثال آلدو ليوبولد وجون موير وهنري ديفيد ثورو، ناهيك بالشاعرين وليام وردزورث وجون غيتس، اللذين مجّدا الطبيعة في قصائدهما المُلهمة أيما تمجيد. كانت مرتكزات الفكر البيئوي الكلاسيكي التي أرساها أولئك الرواد تقوم على مقتضى مبادلة الطبيعة الاحترام والمعاملة الحسنة؛ فالطبيعة في نظرهم ثروة جمالية وروحية لا بد من صونها والحفاظ عليها… بل إنها حاجة إنسانية داخلية قبل كل شيء. يقول وردزورث في إحدى قصائده:  

“خفقةٌ واحدةٌ من الغابة النضرة

تخبرك عن الإنسان

عن مغزى الشر وعن مغزى الخير

أكثر مما يفيدك به كل الحكماء”

وبدا هذا الفكر الرومانسي الغربي مؤثراً بدرجة ما في التخلي عن نظرة العداء للبيئة. كتب ليوبولد قائلاً: “ليس ثمّة أخلاقية لغاية الآن تُعنى بعلاقة الإنسان بالأرض وبالحيوانات والنباتات التي تترعرع وتنمو فوقها. فالأرض مثل جواري أوديسي، لا تزال تعدّ مُلكاً خاصاً. وما زالت العلاقة مع الأرض علاقة اقتصادية صرفة، تقوم على امتيازاتٍ وليس التزاماتٍ”.


قصارى القول، إن فسحة الاسترخاء مع الطبيعة التي أتاحها لنا “كورونا”، ينبغي أن تكون فرصةً ثمينةً لتجديد التفكير البيئوي وإعادة النظر في تعاملنا مع البيئة، وإلا قد نتلقى ضربة قاصمة في المرة المقبلة. 

للآسف، يبدو أن رومانسيات الرواد لم تعد اليوم تنفع مع عالمٍ يزداد لعابه سيلاً تجاه خيرات الأرض. يقول آدم ماركهام، نائب مدير برنامج المناخ والطاقة الأميركي: “إن إعطاء الأولوية للازدهار الاقتصادي، وهيمنة العلم التجريبي الغربي مسؤولان جزئياً عن هذه الفضائح”. ويقصد بالفضائح هنا استعداء البيئة وتلويثها واستغلالها وتحويلها إلى سلة مهملات لقذاراتنا. وفي ظل تصاعد السباق الاقتصادي المحموم بين أقطاب العالم الثلاثة: الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوربي، كان الثمن الذي دفعته الطبيعة ثقيلاً. تشير آخر البيانات التي نشرتها “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” OECD، إلى أن معدل النمو الاقتصادي العالمي كان بحدود 2.9 في المئة قبل تفشي “كورونا”.

وقد أنتج هذا المعدل المرتفع أرقاماً قياسيةً في تراكيز غازات الدفيئة المسببة للاحترار العالمي، فمثلاً بلغ معدل تركيز غاز ثنائي أوكسيد الكربون 405.5 جزء بالمليون فيما وصل تركيز أكاسيد النتروز إلى 329.9 جزء بالمليون عام 2017، وهي أرقام تزيد بمقدار 122 ضعفاً عما كانت عليه قبل عهد الصناعة بحسب “المنظمة العالمية للأرصاد الجوية” WMO، ولم تسلم الغابات المدارية هي الأخرى من نتائج التقدم الاقتصادي، إذ تشير تقديرات منظمة الأغذية والزراعة FAO  إلى فقدان ما معدله 10 ملايين هكتار سنوياً للمدة ما بين 2015 و2020 فقط. وفي أحدث تقرير لتقييم خسارة التنوع الأحيائي صدر في باريس عن “المنصة الدولية المعنية بالتنوع الأحيائي والخدمات البيئية” IPBES، تحذير من مغبة تسارع معدلات الانقراض بشكل غير مسبوق، ووجود قرابة مليون نوع من الكائنات الحية معرضة لخطر الانقراض بسبب التدخلات البشرية.   

وفي خضم الصراع المحتدم مع الطبيعة، قلّص بني البشر المسافة الفاصلة بينهم وبين الحيوانات أكثر من أي وقت مضى، جراء اجتثاث الغابات وتدمير الموائل الطبيعية والصيد الجائر غير الشرعي، حتى تلامست الأنفاس وأضحت مخلوقات كثيرة أطباقاً شهيةً على الموائد. 

استجابت الطبيعة لهذا العبث بردٍ مدوٍ، سبقته طلقات تحذيرية بدرت من أكثر مخلوقاتها ضآلةً؛ الفايروسات: إيدز HIV، أيبولا EVD، سارس SARS، إنفلونزا الطيور H5N1، إنفلونزا الخنازير H1N1، متلازمة الشرق الأوسط التنفسيّة MERS، وأخيراً كورونا أو ما يعرف بـCOVID-19 الذي يسري الاعتقاد الآن بأن حيوان البانغولين، الوجبة الشهيّة في الصين، كان الوسيط الذي نقله إلى الإنسان. لقد كنا بعيدين جداً من فهم التحذير والتجاوب معه.

حاضراً، وبفضل “كورونا”، تراجع نمو الاقتصاد إلى نحو 2.1 فقط خلال السنة الراهنة، ومن المتوقع أن يهوي إلى 1.5 في المئة فقط إذا ما استمرت الجائحة بشراستها الحالية. وعلى رغم الخسائر الفادحة في أرواح البشر، فإن “كورونا” أعاد صوغ المشهد، وأعاد تذكيرنا بأن للطبيعة جدوى… وحظوة أيضاً. شهدت الطبيعة تعافياً فريداً خلال فترة الإغلاق: انحسرت غازات الدفيئة بنسبة 17 في المئة في الفترة الممتدة من كانون الثاني/ يناير إلى نيسان/ أبريل 2020 طبقاً لمجلة Nature Climate Change، واستعادت حيوانات حريتها عبر التجوال وسط شوارع مدنٍ فارغةٍ من البشر. وخفتت الضوضاء عبر أرجاء المعمورة كلها، فقد أشار جيولوجيون يونانيون يعملون في مرصد أثينا الزلزالي الوطني إلى تمكنهم أخيراً من سماع دبيب باطن الأرض، وهو أمر كان متعذراً في أوج النشاط البشري.   

قصارى القول، إن فسحة الاسترخاء مع الطبيعة التي أتاحها لنا “كورونا”، ينبغي أن تكون فرصةً ثمينةً لتجديد التفكير البيئوي وإعادة النظر في تعاملنا مع البيئة، وإلا قد نتلقى ضربة قاصمة في المرة المقبلة. 

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.