fbpx

تفجير بيروت: إني أتّهم….

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الحقيقة أننا أمام جريمة كاملة العناصر، الضحية فيها شعب بأكمله دُمرت مدينته ويُتِّم والقاتل فيها يكون الحكم والحاكم بينما أداة القتل، النظام المافيوي المهيمن، معلومة وبائنة للعيان. هكذا لا يبقى أمامنا سوى الاتهام.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عام 1982، احتاج أرييل شارون عشرات الآلاف من العساكر مصحوبين بآلاف الدبابات وناقلات الجند والعتاد والسلاح والمتفجرات والقذائف والصواريخ، ليحاصر بيروت تمهيداً لاجتياحها وتدميرها بشكل لم تشهده منذ تاريخ إعلان لبنان الكبير. كان شارون يريد أن يدمر قلب بيروت ويحيلها ركاماً. كان غازياً، محتلاً مخزناً بالحقد على المدينة وسكانها لكنه لم يستطع الصمود فيها كثيراً، حتى سارع أبناؤها إلى المقاومة محولين إياها مقبرةً للغزاة الذين ما فتئوا يصرخون، “يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار علينا إنّا منسحبون”. بعد نحو 4 عقود، عادت بيروت لتشهد تدميراً مكثفاً بنتيجة الانفجار الكبير الذي دمّر المرفأ وأجزاء شاسعة من أحيائها.

لم يأتِ شارون هذه المرة، فهو ذهب وبقيت بيروت، لكن غزاة اليوم أتوا من داخل البلاد، من قلب نظام الحكم الذي احتل الدولة منذ ما بعد الطائف بتحالف أمراء الحرب والمصرفيين ورجال الأعمال. هؤلاء تحكموا بالبلاد عبر معادلات لتشارك النفوذ والقوة وتلزيم الأدوار في ما بينهم. الاقتصاد والمال حصة الحريري (الأب والابن من بعده)، التوظيف في الأجهزة المدنية والأمنية يكون لنبيه بري حصة الأسد فيه مع مراعاة الشركاء الآخرين، النفط والاسمنت لوليد جنبلاط، والأمن (المقاومة ضمناً) والعسكر للنظام السوري و”حزب الله” الذراع السياسية والعسكرية والأمنية للجمهورية الإسلامية. وعام 2020، احتاج هذا التحالف المهيمن 30 عاماً قام خلالها بتحاصص الدولة والفضاء العام، فنهب المالية العامة وأغرق البلاد بالديون وسرق ثروة اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، المجمعة في المصارف. وأخيراً خزّن 2750 طناً من مادة نيترات الأمونيوم شديدة الانفجار، لمدة 6 سنوات، في العنبر ذاته مع مخزون من الفتيل المتفجر ومواد شديدة الاشتعال، ما دمّر أحياء واسعة من بيروت بشُحنة إهمالٍ جُرمي قاتلة شردّت حوالى 300 ألف إنسان وأصابت الآلاف بين قتيل وجريح ومفقود.

فنحن أمام سلطة مافيات يمكن تشبيهها باحتلال يجثم على رقاب اللبنانيين تجتمع مع سلطة الانتداب فتجلس كالتلاميذ النجباء في محاولة أخيرة لإنقاذ مصالحها وإعادة انتاج ميزان قوتها المهيمن ولو على أشلاء بيروت وسكانها وتاريخها. دمرتم مدينتي. إنني أتهمكم. سنحرر البلاد كما لم يحررها أحد.

أمام هول هذه المأساة تصبح الأسئلة التي يفترض طرحها مفرغة من معناها. كمثل أن نسأل عن هوية المسؤولين الإداريين أو السياسيين الذين تسببوا بهذه المأساة؟ أو نسأل إن كان عملاً تخريبياً أم حادثاً؟ أم إن كنا سنثق بلجنة تحقيق يعدنا وزير الداخلية بأنها ستصل إلى النتائج في 5 أيام وهي برئاسة حسان دياب الرئيس، الذي اعترف بأنه كان على علم بخطورة المواد المخزنة، ولكن لم يكن بوعيه بسبب ضغوط الأولويات الأخرى! أم أن نعاتب الجماهير المكلومة لترحيبها بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومطالبتها إياه بمحاسبة “المسؤولين” اللبنانيين؟ فالحقيقة أننا أمام جريمة كاملة العناصر، الضحية فيها شعب بأكمله دُمرت مدينته ويُتِّم والقاتل فيها يكون الحكم والحاكم بينما أداة القتل، النظام المافيوي المهيمن، معلومة وبائنة للعيان. هكذا لا يبقى أمامنا سوى الاتهام.

نتهم مكونات الحكم بتشكيل عصابات مارقة قاتلة رعت منذ 30 عاماً نظام قتل لبنان. فتدمير بيروت في الرابع من آب/ أغسطس 2020 ليس وليد حادِث عابر وليس بنتيجة تسونامي أو هزة أرضية. وبالتأكيد، لم ينتحر مرفأ بيروت. وحتى لو كان التدمير بفعل عمل عدوانيٍ تخريبي؛ فالمسؤولية واحدة. تدمير بيروت هو فعل شرٍ حُضّر له عبر عقود من اللامسؤولية واللامحاسبة والانحلال الحوكمي والإهمال الجُرمي. تدمير بيروت هو بنتيجة نظام تلويث الأنهار والشواطئ العامة. نظام سرقة المشاعات وتشبيح الأملاك البحرية والنهرية. نظام تدمير الثروة الحرجية والحيوانية وإنتاج المسرطنات. نظام بوليسي تافه استثمر في مراقبة “فايسبوك” أكثر مما استثمر في البنية التحتية لمكافحة الحرائق الموسمية وتدعيم قدرات الدفاع المدني. نظام الجريمة المنظمة التي تتحكم برقاب اللبنانيين. هذا النظام الذي ما كان يمكن إلا أن يصل بالبلاد إلى ما وصلت إليه فتدمرت بيروت ووقف متفرجاً.

هذه الأمور توصلنا إلى نتيجة واحدة، وهي أن الذين يتعاطون الشأن العام في لبنان هم زمرة متنوعة من فشلة غير مؤهلين ومجرمين ومغفلين، لا يصلحون لإدارة شعب ويمنعون قيام الدولة وينتهكون سيادة البلاد

لا مناص أمامنا إلا أن نتهم المنظومة الحاكمة بأجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والبلدية والمالية والرقابية والأمنية بما في ذلك المنظومة الموازية التي يشكلها “حزب الله” والتي تعتبر شريكاً مضارباً وقائداً أحياناً لما يُسمى “دولة”. كل من يتعاطى الشأن العام أو كان في موقع خوّله معرفة وجود الشحنة القاتلة هو مسؤول تجب محاسبته، حتى أولئك الذين لم يعلموا وكان عليهم أن يكونوا عالمين، يجب اتهامهم. فإن كان القانون لا يحمي المغفلين، فلماذا علينا القبول بحكمهم بلادنا؟ 

إنني غاضب. نعم، أنا الناحب، المكلوم، المتيتم، قليل الحيلة، العاجز الغارق في دمعه حد الاختناق، غاضب وسأحقد عليكم يا قتلة مدينتي. يا من محوتم الذاكرة التي كنت أنوي توريثها لأبنائي. يا من دمرتم ساحات عشقي الأولى وأماكن سهري ونضالي. لكن هذا الغضب وحده لا يكفي ولن يعيد ما دمرتموه. لكنه سيكون الصاعق الذي لا بد منه لتفجير نير حقدكم على بلادنا. فأنا لست عاملاً إغاثياً يأتي من نصف الكرة الأرضية الشمالي ليتضامن مع بيروت. لست محايداً مع الظلم ولست راضخاً لمحتل ولن أصالح قاتلي. لكنني وكي لا أحيد عن هدفي، أعود لاتهامي الذي وإن كان موجهاً إلى المنظومة ككل، فإنه يبقى ناقصاً إن لم يكن تفصيلياً.

هكذا فأنا وكمقيم بيروتي لأكثر من 30 سنة، أتهم ميشال عون، رئيس الجمهورية اللبنانية، ومن خلفه تياره السياسي ممثلاً بصهره رئيس الحزب وكتلته النيابية والوزارية (بأعضائها الحاليين والسابقين) وفريقه المعيّن في الإدارات الرسمية (المدنية منها والأمنية) والذي يؤمن لهم الغطاء السياسي بالمشاركة في قتل مدينتي عبر الإهمال الجرمي وعدم القيام بأي فعل يمنع ذلك. فإن كان يعلم ولم يتحرك وهو القائد السابق للجيش فهذه مصيبة وإن كان لا يعلم وهو الذي يُلاحق بتهم الإساءة إليه، كل من يتوجه إليه بما يعتبره البعض إهانة لمقام الرئاسة، فهذه مصيبة أكبر.

السيد حسن نصر الله، ومن خلفه الكتل النيابية الناطقة باسم المقاومة (بأعضائها الحاليين والسابقين) والمنظومة الأمنية الغارقة في زواريب بيروت. هذه المنظومة التي تتمكن من تحديد مكان كتابة غرافيتي ضد المصارف في أي نقطة من الضاحية ولكنها عجزت (بما لا يمكن تصديقه) عن معرفة وجود الشحنة القاتلة.

سعد رفيق الحريري، ومن خلفه تياره السياسي وكتله النيابية والوزارية  (بأعضائها الحاليين والسابقين)، الذي نفى علمه بالشحنة القاتلة وهو صاحب الحماية السياسية لمدير المرفأ، حسن قريطم. إن كنت لا تعلم يا سعد الحريري أن بيروت مهددة بمليونين و700 ألف كيلو من المواد شديدة الانفجار وأنت رئيس حكومة وصاحب كتلة نيابية وممثل العاصمة الأساسي والجهة السياسية التي ترعى جهاز المعلومات، فهذا يعني أنك غير مؤهل لتمثل بيروت واللاكفاءة هذه تصل إلى حدود المسؤولية الجنائية عما حصل. أما إن كنت عالماً وساكتاً فرحم الله رفيق الحريري فلقد قتل مرتين، أولاً في 14 شباط/ فبراير 2005، وثانياً حين عجزتَ عن حماية بيروت.

نبيه بري، رئيس مجلس النواب منذ عام 1992، ومن خلفه كتله النيابية والوزارية (بأعضائها الحاليين والسابقين)، والموظفون الإداريون الحركيون المحرومون في مرفأ بيروت، إضافة إلى شرطة مجلسه صاحبة اليد الغليظة في ضرب الناس والقاصرة عن اكتشاف خطر قاتل يتهدد وسط بيروت بأكمله والمجلس ضمناً. فإن كنت يا أيها النبيه تعلم بوجود الشحنة القاتلة وساكت فأنت شريك فيما حصل وإن غفلت عنها أنت والجهاز الأمني الرسمي واللارسمي المحسوب عليك سياسياً فرحم الله النباهة بين البشر. 

وليد جنبلاط، ومن خلفه “لقاؤه الديموقراطي” والذي كان غازيه العريضي وزيراً للأشغال في الفترة التي تم فيها تخزين هذه المواد. ليت أكياس النيترات كانت تهتف ثورة… ثورة وخبز وعلم وحرية كما كان يهتف الثوار في بقعاتا ومناطق أخرى من الجبل فلربما كنت تحركت لمعالجة وضعها. أهذا هو ثأر بيروت التي تنطّحت يوماً لتأخذه من لحود وبشار؟! أهكذا تكافئ هذه العاصمة التي حولت آل جنبلاط من زعماء محليين جبل لبنانيين، إلى زعماء على امتداد لبنان الكبير؟  

سمير جعجع، ومن خلفه كتله النيابية والوزارية (بأعضائها الحاليين والسابقين)، وهو الذي تفاخر بتحالفه المذهبي الذي أوصل ميشال عون لرئاسة الجمهورية ومهّد للعهد الرئاسي الذي أنهى لبنان. “أوعا خيك” يا حكيم، صحيح، لكن أخاك ومعه زمرة الفشلة والأشرار أنهوا البلاد وأنت شريكهم. 

السيد حسن نصر الله، ومن خلفه الكتل النيابية الناطقة باسم المقاومة (بأعضائها الحاليين والسابقين) والمنظومة الأمنية الغارقة في زواريب بيروت. هذه المنظومة التي تتمكن من تحديد مكان كتابة غرافيتي ضد المصارف في أي نقطة من الضاحية ولكنها عجزت (بما لا يمكن تصديقه) عن معرفة وجود الشحنة القاتلة. أنت يا سيد قلت إنك ستحمي وقلت أمن لبنان واللبنانيين خط أحمر. نسجتم المعادلة الذهبية حتى أصبحت تأسيسية للبنان الذي نعرفه. وها هي اليوم تسقط وتظهر عاجزة عن حماية البلاد وردع الخطر عنها. ماذا ستخبرنا اليوم يا سيد، أعلمت بالأمر من التلفزيون أيضاً؟ أو أنكم علمتم وكغيركم لم تتحركوا! أم أنك ستلوم النظام الفاسد وتحمله المسؤولية، هذا النظام الذي ما زلتم تحمونه وتمنعون سقوطه وتقودون ثورته المضادة منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر. المشكلة اليوم ليست في مسؤوليكم كطرف سياسي عما حصل، بل في كونكم فشلتم في حماية البلاد، الأمر الوحيد الذي قلتم إنكم تحترفونه. أما آن آوان تحمل المسؤولية والتغيير؟ فاليوم، مشروعيتكم السياسية هي بأقل تقدير تحت المسآلة الشعبية. ما حدا أكبر من بلده يا سيّد وأنت من العارفين بذلك. 

لائحة الاتهام تطول وقد لا تسعها المقالات، فهي لا تقف عند قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية السابقين والحاليين ولا عند المنظومة القضائية ولا حتى عند بحرية اليونيفيل التي كان عليها التنبه. وقد يذهب كل تحليلنا في منحى آخر إذا ما تبين تخزين أسلحة حربية في مرفىء مدني. لكن هذه الأمور توصلنا إلى نتيجة واحدة، وهي أن الذين يتعاطون الشأن العام في لبنان هم زمرة متنوعة من فشلة غير مؤهلين ومجرمين ومغفلين، لا يصلحون لإدارة شعب ويمنعون قيام الدولة وينتهكون سيادة البلاد. فنحن أمام سلطة مافيات يمكن تشبيهها باحتلال يجثم على رقاب اللبنانيين تجتمع مع سلطة الانتداب فتجلس كالتلاميذ النجباء في محاولة أخيرة لإنقاذ مصالحها وإعادة انتاج ميزان قوتها المهيمن ولو على أشلاء بيروت وسكانها وتاريخها.

دمرتم مدينتي. إنني أتهمكم. سنحرر البلاد كما لم يحررها أحد.

وكما قال أمل دنقل ذات قصيدة: 

لا تصالح…

إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:

النجوم… لميقاتها 

والطيور… لأصواتها

والرمال… لذراتها والقتيل لطفلته الناظرة

كل شيء تحطم في لحظة عابرة:

الصبا – بهجةُ الأهل – صوتُ الحصان – التعرفُ بالضيف – همهمةُ القلب حين يرى برعماً في الحديقة يذوي – الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ – مراوغة القلب حين يرى طائر الموتِ وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة

كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة

والذي اغتالني: ليس رباً…

ليقتلني بمشيئته. ليس أنبل مني… ليقتلني بسكينته

ليس أمهر مني… ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة

لا تصالحْ.

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.