fbpx

انفجار بيروت : يوم أسلمتُ الروح…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هناك لحظة مفقودة من حياتي، لا أدري ماذا حصل فيها… ما عادت روحي داخل جسدي… كنت أراقب نفسي من بعيد… أراها تتطاير وسط الغبار…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بدأ صباحي مشرقاً، مصحوباً بجرعة مركّزة من القهوة، تفشّت مرارتها داخل روحي الحزينة على خسارة أحد أقرب الأصدقاء وأشدهم تعلقاً بالحياة، قبل يومين تحديداً، فسرقتني ذكراه من هدوء اللّحظة وتقاذفتني الأفكار السود. 

لكن صوت صديقي الذي أحتسي معه قهوتي أعادني إلى أرض الواقع، ونفخ فيّ روح البهجة بكلامه وعينيه الساخرتين. ودّعته على مضض، وركبت سيارة الأجرة متوجهة إلى عملي في وسط بيروت. ضجيج يصمّ الآذان، وزحمة سير خانقة كالعادة. 

أحس السائق بانزعاجي فأغلق النوافذ، وراح يحدثني عن مرارة الأيام. يقصّ لي مأساة تلو الأخرى، وأنا أقول في نفسي: كأن مصابي لا يكفي، لكنه بين القصة والقصة يخبرني كم يحب بيروت… أستمع إلى كلامه وأنا شبه غائبة.

على مقربة من مرفأ بيروت، كانت قد أرهقته أحاديثه الأحادية فتوقّف عن الكلام وشغّل الراديو… للمفارقة، استمعنا لأغنية “لبيروت”… نظرت بلا مبالاة نحو المرفأ، من دون علمي بأن هذه ستكون المرة الاخيرة التي أراه فيها كاملاً. هل ستعرف بيروت يوماً السلام؟ سألت نفسي.

مبنى صحيفة “النهار” بعد الانفجار

وصلت إلى مركز عملي في جريدة “النهار”، وشرعت فوراً بالعمل. بدا لي أنه نهار جميل، أقل حزناً من ذاك الذي سبقه وحمل لي نبأ وفاة صديقي. كان الجميع يبتسمون لي فأردّ الإبتسامة بفرح، أحسست بخفة لطيفة غير معهودة.

ذهبت وزميلي، قرابة الساعة الثالثة لتناول الغذاء، وطال حديثنا وضج المكان بضحكاتنا خلال هذه الساعة الخاطفة. تذكرنا أيام الدراسة وتحدثنا عن مسيرتنا المهنية، عن لبنان، عن الهجرة، عن البقاء. نعلم تماماً أننا تائهون، نتأرجح بين الأمل واليأس.

فور عودتي إلى مكتبي، اتفقت وصديقتي على اللقاء في Aliaa’s Books، أحد الأماكن المفضلة لدينا في مار مخايل، مكان أرى فيه وجه بيروت الحقيقي.. تابعت عملي… وكان النّهار ما زال جميلاً… شعرت يومها بأن الأمل يعود إلي. ما كنت أعلم أنني سأفقده بعد ساعتين من الوقت وربّما إلى غير رجعة…

مرّ أيام قليلة، وستمر أيام أخرى أو ربما شهور لن أستطيع خلالها فهم ما حصل. أسرد تجربتي الشخصية في انفجار بيروت كأنني حكواتية تخبر قصة غيرها، ولكن بأدق التفاصيل… فأتأكد، أنني وغيري ممن عاشوا هذا الكابوس، ما زلنا على قيد الحياة ولكننا نهار الثلثاء، الرابع من آب/ أغسطس عام 2020 عند الساعة السادسة والخمس دقائق، أسلمنا الروح… 

ما هي إلا دقائق حتى سمعنا دوي انفجار. اقتربت بهدوء من مكتب مديري ورأيت دخاناً كثيفاً يتصاعد من مرفأ بيروت… لم اهتم، أدرت ظهري وعدت أدراجي نحو مكتبي وقلت لنفسي اللامبالية إن هذا فصل آخر من فصول العيش في لبنان… 

هناك لحظة مفقودة من حياتي، لا أدري ماذا حصل فيها… ما عادت روحي داخل جسدي… كنت أراقب نفسي من بعيد… أراها تتطاير وسط الغبار… والزجاج يتناثر من كل صوب فيدخل ملابسها ويخدش بخشونته يديها… أراها تتخبط… أراها في حيرة من أمرها… أسمعها تقول “عم موت”، “أكيد لح موت”… وفجأة يرتطم شيء ضخم برأسها. رأيت الموت يدنو منها سريعاً ليخطفها في ريعان شبابها البائس.

هدوء…

تعود نفسي إلى ذاك الجسد المنهك. فأقف وأنا في حالة إنكار شديد، وأنفض الغبار عنّي، وأتحسّس وجهي. أكاد لا أصدّق أنني لم أصب بأي تشوّه.. رأسي يؤلمني كثيراً من قوة الضربة التي تعرّضت لها، ومن تزاحم الأفكار وتضاربها داخل هذا الرأس المشوّش.

أصرخ إلى أمّي، من دون صوت، أعاني بلا أنين، أبكي بلا دموع، تجتاحني نار من دون لهب. 

أولى كلماتي في العمر الجديد “يلّي انكتبلي”، كانت “شو عم بصير؟” كنت واثقة من أنني لن أخرج من هنا. كنت واثقة من أننا نتعرض لمجزرة قتل جماعي وأن هناك انفجاراً آخر سيودي بنا جميعاً…..

اجتاحتني وحدة رهيبة خانقة، ففي هذه الحالات غريزة الحياة تغلب المشاعر الأخرى ويبحث الجميع عن خلاصه. 

رحت أفكر بأخي الصغير، حبيبي فرنسوا الذي ينتظر عودتي يومياً: كيف سيتلقى خبر رحيلي؟ نعم متأكدة أنني راحلة عن هذا العالم.

أعود وأنادي أمي… ويخونني الصوت…

ظلام حالك، صراخ وعويل، رائحة دماء، وأنا اتهاوى على سلالم بدت كأنها لن تنتهي. عندما تمكنت أخيراً من الهروب، وأحسست بأشعة الشمس تداعب وجهي، بدأت أعي شيئاً فشيئاً هول الكارثة.

الدمار لا يوصف، شلالات دم. اقتربت نحو زميلة لي كانت تنزف بشدّة حاولت أن أوقف نزيفها من دون جدوى. جاء رجل لمساعدتنا ورحت أبحث عن هاتف كي أتواصل مع أخي شربل الذي يحل الأمور عادة برصانة ووعي. كنت أتوسّل الجميع لاستعارة هاتف، لكن ما كان أحد يصغي أو حتى يسمع وسط كل هذه البلبلة، أيقنت أنني أستجدي بلا جدوى. 

اجتاحتني وحدة رهيبة خانقة، ففي هذه الحالات غريزة الحياة تغلب المشاعر الأخرى ويبحث الجميع عن خلاصه.

خيّل إلي لوهلة أنني سمعت صوت أخي غبريال وهو يقول “وينك؟”. رأيت دموع جدتي، ورحت أفكر في الرعب الذي سيصيب أفراد عائلتي اذا لم أتصل… وفيما الجميع يهرع نزولاً، كنت أنا اتسلق السلالم نفسها من جديد نحو مكتبي في الطبقة الخامسة. أعلم أنه لم يكن تصرفاً عقلانياً، لكنني أردت أن أحضر أغراضي، أردت أشيائي، جميعها من دون استثناء. كم نتعلّق بالقشور! 

أزحت الركام وتمكنت من الوصول إلى مكتبي، أخذت حقيبتي، ورحت أبحث عن هاتفي الذي وجدته في الجانب الآخر من الغرفة. عدد هائل من المكالمات، فأرسلت نصاً إلى أمي: “أنا هون”. 

أردت الخروج، أفحمني حجم الدمار وانا أتساءل بتعجب: هل أنا فعلاً حيّة أرزق؟ وزادت كربي صور جبران تويني المبعثرة ومكتب سمير قصير المهدم.

خرجت ورحت أمشي من دون بوصلة، هكذا أمشي بدون وعي إلى مكان بعيد عن هذا الدمار، لكن كلما مشيت كان الدمار يلفني أكثر فأكثر. قررت التوجه نحو منطقة الدورة لملاقاة خالي الذي ما لبث أن عرف بالانفجار حتى استقل سيارته ونزل فوراً من ضيعتي شكا في الشمال للبحث عنّي.

 لا أدري كيف تابعت السير كل هذه المسافة وحذائي مهشم بالزجاج… وفيما أبحث عن خالي في كل الاتجاهات، وجدته هو يبحث عني… فتنفس الصعداء عندما تلاقت أعيننا…

عدت إلى منزلي مصدومة، خانني الكلام… وأمي من دون أن تسأل، تحضر غرفتي بصمت… أخي شربل يتحسس رأسي وجروحي… أخي فرنسوا يعانقني… أخي غبريال خفيف الظل، كعادته يحاول أن يخفف هول الصدمة… 

مرّ أيام قليلة، وستمر أيام أخرى أو ربما شهور لن أستطيع خلالها فهم ما حصل. أسرد تجربتي الشخصية في انفجار بيروت كأنني حكواتية تخبر قصة غيرها، ولكن بأدق التفاصيل… فأتأكد، أنني وغيري ممن عاشوا هذا الكابوس، ما زلنا على قيد الحياة ولكننا نهار الثلثاء، الرابع من آب/ أغسطس عام 2020 عند الساعة السادسة والخمس دقائق، أسلمنا الروح… 

سنعود إلى بيروت، إلى عملنا، إلى شارعنا، سنلملم جراحنا على رغم الندوب في ارواحنا. نرحل عنها اليها، هي بيروت تبصقنا لكننا نعود إلى كنفها دائماً.

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.