fbpx

إخلاء لبنان…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الأمر الوحيد الذي بقي أمام من يسعى إلى تخيل “ما بعد لبنان” هو أن يغادر اللبنانيون كلهم هذه المساحة بقوارب صغيرة وكبيرة، وأن ينجو بعضهم ويموت بعضهم الآخر، وهذا ما يحصل عملياً، وفي هذا الوقت سيكون سهلاً على الثنائي الشيعي أن يفوز بوزارة المالية…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 ماذا بعد لبنان؟ هل فكّر أحد بما بعد لبنان؟

 كثيرون يميلون إلى الجزم بأننا حيال نهاية لبنان، وأنا أميل إلى هذا الاعتقاد، لكن علينا نحن الذين لا يملكون خيار المغادرة، أن نباشر بالتفكير بما بعد لبنان. 

لا نملك القدرة على أن نقرر مستقبل هذه المساحة الجغرافية ونتوءاتها الاجتماعية المذهبية بعد أن نقلع عن كوننا لبنانيين، لكننا نملك القدرة على التخيل والتوقع. فالنهايات غالباً ما تعقبها بدايات، فما هو الشيء الذي سيبدأ؟ 

السؤال فعلاً صعب، ومهمة التوقع محفوفة باستعصاءات كثيرة. حل الدولتين الذي بدأ يظهر على نحو ضيق في أوساط مسيحية لا يبدو واقعياً حتى الآن. وانحسار التجربة عبر ذواء الحدود أيضاً لا يملك فرصاً، ذاك أن احتمالات ضمّنا إلى كيانات مجاورة ستسقط أمام حقيقة ترنح سوريا في أزماتها الهائلة، والصعوبة التي ستواجهها إسرائيل في حال قررت قضم المساحة المجاورة لحدودها مع ما كان يسمى لبنان. أما قبرص، وهي ثالث الدول المجاورة، فلا يبدو أن هذا البر (لبنان سابقاً)، كان يوماً جزءاً من طموحها.

انفجار عين قانا تم التعبير عنه بشعار “شيعة شيعة شيعة”، ومنعت وسائل الإعلام من تغطية أسبابه، ومن تناوله بصفته حدثاً وطنياً. أما انفجار المرفأ، وهو كارثة من عيار كوني، فيجب التعامل معه بصفته قضاء وقدراً، وأن نكف عن اتهام النظام بالتسبب به.

إذاً، ماذا بعد لبنان؟ “حزب الله” الذي تولى توجيه الضربة القاضية لهذه التجربة لا يملك على ما يبدو تصوراً لما بعدها. هو يفكر بما بعد حيفا، وبما بعد بعد حيفا، أما “ما بعد لبنان” فلم يكن يوماً جزءاً من تفكيره. فهو اعتقد أن بإمكانه أن يستمر حزباً أقوى من الدولة التي يقيم فيها “إلى أبد الآبدين”، ولم يبد في أي يوم من الأيام حساسية حيال تصدع هذه التجربة وتحللها بفعل حلوله في رأسها وفي جسمها. والحزب إذ لا يملك تصوراً عن “ما بعد لبنان”، فإن القوى الأخرى الملحقة به، من الحلفاء والخصوم، لا يملكون بدورهم تصوراً عن “ما بعد لبنان”، ذاك أن الحزب هو ضمانتهم أثناء عيشهم وترزقهم على فساد دولته، وعلى أرواح رعايا مساحة اصطلح عام 1920 على تسميتها لبنان.

كل يوم يظهر مؤشر على اقتراب الموعد الرسمي للنهاية، والأرجح أن ما يؤجل هذا الاستحقاق هو استعصاء تصور عن البداية التي ستعقب هذه النهاية، الكارثة التي ستعقب الكارثة. جريمة مرفأ بيروت كان يمكن أن تشكل نهاية نموذجية، فيما لو أن بديلاً يلوح. إعلان الثنائي الشيعي أن وزارة المال من حصة الطائفة، أيضاً كان يمكن أن يشكل فرصة لفض هذه الشراكة المستحيلة، انفجار عين قانا وما أعقبه من هتاف، “شيعة شيعة شيعة”، كان مشهداً نموذجياً لإعلان الانفصال عن لبنان، لكن العالم كله عاجز عن تدبير بداية لما بعد هذه النهاية!

لكن في المقابل لا يبدو أن استئناف التجربة ممكناً. ليس انفجار بيروت وحده مؤشر هذه الاستحالة، ذاك أن حزباً كبيراً يجثم على كل شيء، ويجاهر بما لا طاقة لأحد على قبوله. وزارة المال للشيعة لأسباب ميثاقية! هذه معادلة ولدت الآن، وليس في الطائف، لكن علينا أن نقبلها! انفجار عين قانا تم التعبير عنه بشعار “شيعة شيعة شيعة”، ومنعت وسائل الإعلام من تغطية أسبابه، ومن تناوله بصفته حدثاً وطنياً. أما انفجار المرفأ، وهو كارثة من عيار كوني، فيجب التعامل معه بصفته قضاء وقدراً، وأن نكف عن اتهام النظام بالتسبب به. هل يمكن أن تُستأنف التجربة في ظل هذه الشروط؟ الجواب قطعاً لا، لكن من يمنعنا من استئناف التجربة هو نفسه من يتولى مهمة جعلها مستحيلة.

ربما علينا أن نستعين بتجارب أخرى على صعيد النهايات لتساعدنا على تخيل ما يعقب حدثاً من هذا النوع من احتمالات، وهذه أيضاً ليست مهمة سهلة. فالكيانات التي سبق أن تفككت كانت أكبر من هذه المساحة التي كان اسمها لبنان. العراق مثلاً فشل في أن يتحلل وفشل في أن يتوحد، وهذه ليبيا تكابد الوحدة وتكابد الانفصال بين شرقها وغربها، ومحاولات كاتلونيا الانفصال عن إسبانيا كادت تتسبب بحرب أهلية، في ظل وحش الوحدة الذي يسيطر على الوعي الأكثري في ذلك البلد. أما تفكك يوغسلافيا، فأعقبه حروب أهلية ضارية في البلقان تخللتها عمليات إبادة، ودول قومية فاشلة وفضة.

لبنان، أو المساحة التي كان اسمه لبنان، لا تتسع لهذا الحجم من المآسي، لا سيما أن مآسيها الخاصة لا تقل فداحة، والأثمان الهائلة التي دُفعت تجعل من دفع المزيد منها أمراً مأساوياً. 

إذاً الأمر الوحيد الذي بقي أمام من يسعى إلى تخيل “ما بعد لبنان” هو أن يغادر اللبنانيون كلهم هذه المساحة بقوارب صغيرة وكبيرة، وأن ينجو بعضهم ويموت بعضهم الآخر، وهذا ما يحصل عملياً، وفي هذا الوقت سيكون سهلاً على الثنائي الشيعي أن يفوز بوزارة المالية من دون أن يزعج المذهبيين ممن ضاقت بعينهم هذه الوزارة.