fbpx

بيروت ودمشق مدينتان لطوابير الخبز والبنزين والحزن

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان أكتوبر شهر الحب والبدايات والثورة، لكنّه لم يعد كذلك. تحوّل أكتوبر إلى شهر الذل وانقطاع البنزين والمازوت وطوابير البحث عن الحياة…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

حين تحزن مناهل وأنا وحين تضيق بنا مدينتانا، هي في دمشق وأنا في بيروت، نقرّر أن نلعب باللغة. وهكذا كما نشاء نمسكها من شعورها الطويلة والقصيرة وندعوها إلى الرقص. نرقص في المساءات الطويلة التي نمضيها كل واحدة في مدينة تنافس الأخرى في الحزن والمشقات والمتاهة.

تحرّضني مناهل على الكتابة عن بيروت حين تكتب هي عن دمشق، التي كنت لا أرى فيها سوى صورة حافظ الأسد في الطرق والمباني، وتماثيله وتماثيل ابنه بين المدارس والجامعات والبيوت الهانئة.

قلتُ، سأكتب عن بيروت حتى أخبرها بؤسي، لأنني مثلها لا أملك سوى هذه اللغة، أتناحر معها طوال النهار، وأخيراً نخلد معاً إلى نوم مقلق، في سرير في الطبقة السادسة، قرب نافذة مقطوع عنها الهواء وتحرقها الشمس صباحاً. ربما لولا تلك الشمس لكنتُ نائمة منذ سنة.

أخشى أن حزن بيروت يعود إلى يومٍ قررنا فيه أن نتوقف عن المشي فيها على أقدامنا، وصرنا لشدة العجلة ننسى أن نشمّها وأن نعانقها، وننسى الذين أحببناهم بسرعة، ونتوق سريعاً إلى حبٍّ آخر. في بيروت ودمشق يلتقي حزنان من بطن واحدة. ربطات الخبز التي تُوزَّع هناك ببطاقة ذكيّة، يخف وزنها في أفراننا ويرتفع سعرها بوتيرة أكثر رشاقة… ويُروى لنا عن بطاقة قد يتم إطلاقها قريباً لنشتري بها موادنا الأساسية. نحن مهددون صراحةً بسحب البساط من تحت أردافنا، ورفع الدعم عن الخبز والمحروقات والدواء… إنها طريقة مبتكرة لقتل شعب… عبر بطاقة.

تؤلمني قدماي منذ سنوات وأعرف في قرارتي أن عليّ أن أدرّبهما على المشي من جديد وأن أكفّ عن تربيطهما تحت المكتب الخشبي، الذي نادراً ما أغادره إلى الشرفة التي تطلّ على زاوية من بيروت القديمة، لم تسلم من الهدم ومن الحزن أيضاً.

حين أقف هناك أرتبك، ويخيّل إليّ أنني أراقب بيروت من مدينة أخرى. يُرجعني الفصام إلى الداخل، أعود إلى المواد والمقالات، لألعب من جديد هناك، وأواصل هروبي من قساوة الشوارع التي ما زال زجاج الانفجار يلمع فوقها، كإنذار بأن الموت لم ينتهِ.

في حيّنا شاب يعزف البيانو، قرّر أن يشتغل سائق “سرفيس”، يهرّب وجهه كلما التقينا لأنني أعرفه وأعرف كم يحب الموسيقى. هناك مسافة شقاء واسعة لا يمكن أن نعبرها، نبقى صامتين تماماً. ليلاً يدير محرّك سيّارة والده القديمة ويجول في شوارع بيروت بحثاً عن ركّاب، الليل هنا كما ليل دمشق الذي روته مناهل، يناسب الهاربين الخائفين من سرّهم. في النهار يقدّم دروس البيانو للأطفال، لكنّها دروس لا تمنحه سوى بعض المتعة وترف الموسيقى الذي يتعثّر كلما أمسك به.

سائق دير الزور الذي يخرج ليلاً إلى دمشق حتى لا يراه أحد، لأن القانون يمنع تنقل السيارات العمومية العائدة إلى محافظات أخرى في دمشق، يشبه كثيراً سائق “السرفيس” الذي أعرفه. كلاهما يعدّان طريق الركّاب ليلاً، الأول خوفاً على الموسيقى التي في قلبه والآخر خوفاً من النظام.

صاحب الحانة حيث كنت أشرب مرة في الأسبوع، علمت أنه تقاعد. لا يملك ترف الصمود في سنه. أفكّر بربطات عنقه الملوّنة التي كانت تضحكني أحياناً، لقد عُلّقت كلها الآن، وأُغلقت الخزانة، لأنّ الحانة التي كان يديرها، أصبحت موحشة تماماً، وقد نسي روادها طريقهم إليها.

منذ زمن لم أنزل إلى بيروت من أجل المشي. كنت دوماً أفضّل السيارة، حتى لا أبذل مجهوداً إضافياً، وتناغماً مع كسلي الطويل، واستعجالي السرمديّ. الآن أشعر بأن السير في بيروت حاجة ملحّة، إنما مرعبة. بيروت دفنت أهلها وأطفالها، كل مكان قد أسير فيه، ربما يخفي تحته يداً مقطوعة لعازف “غيتار” أو خصلة شعر لراقصة باليه أو قبلة مسروقة بين عاشقين من مدينتين متكارهتين.

كتبت مناهل “في دمشق خبز” وقد انقطع في محافظات أخرى. في بيروت خبز يا مناهل، لكنّنا لا نملك ثمنه…

أمرّ قرب شقق أصدقائي مساءً في طريق العودة إلى غرفتي المستأجرة، أطمئن إلى مصابيحهم المضاءة، أتفقّد ظلالهم، وأتجسس على أصابعهم وهي تمر على الزجاج. أعرف أنهم هناك وأنني أريد كثيراً أن أعانقهم، لكن مدينة الحزن التي نعيش فيها، اعتقلها الوباء وزاد قهرها وقهرنا. صارت مدينتنا في النهاية معتَقلاً كبيراً وسجّاناً ومقبرة.

كان أكتوبر شهر الحب والبدايات والثورة، لكنّه لم يعد كذلك. تحوّل أكتوبر إلى شهر الذل وانقطاع البنزين والمازوت وطوابير البحث عن الحياة. لا أعرف كيفية الوقوف في تلك الطوابير وغالباً ما أؤجّل طلبات سيارتي إلى يومٍ آخر. “ستنتهي الأزمة وسيأتون بالبنزين”، كل يوم أردّد ذلك فيما أمرّ قرب المحطّات المزدحمة بالتعساء، الخائفين من أن ينقطع البنزين ويعجزوا عن الذهاب إلى أشغالهم وإلى حليب أطفالهم.

لا أعرف كم أصبح ثمن علبة الحليب الآن، لكنني متأكّدة من أنّ كثيرين عاجزون عن شرائها، ويحاولون إسكات جوع أطفالهم بأي شيء، قد يكون وعداً ما، “غداً سنشتري الحليب”.

كتبت مناهل “في دمشق خبز” وقد انقطع في محافظات أخرى. في بيروت خبز يا مناهل، لكنّنا لا نملك ثمنه… قريباً قد يصبح الخبز كالموسيقى في لغة سائق “السرفيس”، ترفاً لا نستطيعه…

ولن يبقى أمامنا سوى الغضب والرقص وترويض اللغة حتى لا تعاندنا وحتى ننشر رواياتنا ونكتب قصصاً اسمها ليس الحزن. حينها قد يكف الطريق بين مدينتينا عن كونه محفوفاً بالرعب وبالذكريات وأخبار الخطف والقتل والتعذيب بالكهرباء والدواليب. حينها قد أذهب إلى دمشق بسيارتي، وأجدها مدينةً خالية من التماثيل، ضاحكة، هادئة، وربما تأتين إلى هنا، وقد عادت حانات مار مخايل والجميزة، حيث يمكن أن نشرب بعض الفودكا، وحين ننتهي، قد نطلب كأساً أخرى.