fbpx

عن عصر صناعة الرغبة والديكتاتوريات المستنيرة (6): “غسيل الدماغ”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“سنعتصركم حدّ إفراغكم مما في أنفسكم، ثم سنملؤكم بما في أنفسنا”… كيف تناول علم النفس فكرة غسل الدماغ وكيف استُخدمت بالسياسة؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لقد غيّر سيغموند فرويد -عن قصدٍ أو دون قصد- العالَم إلى غير رجعة، تبنّت الولايات المتحدة الأمريكية أفكاره في الاقتصاد والسياسة والمجتمع كما لو أنها دينٌ جديد؛ لعبت ابنتهُ “آنا” دوراً محورياً في ترويجها على ضوء التجارب التي قامت بها على أطفال صديقتها المليونيرة المقرّبة “دورثي برلنغهام” حين خَلُصت إلى نتيجة مَفادها أنّ “التأقلم مع العادات المقبولة مجتمعياً وعدم التشكيك بها يُنتج أفراداً ذوي (أنا) قويّ قادر على وضع حدّ للاوعي الغرائزي الشرير الكامن في أنفسهم”، الأمر الذي تمخّضت عنه برامج حكومية كبرى لإدارة ذاك “اللاوعي”، والعقلية الأمريكية عموماً.

من جانبه قام ابن اخته “إدوارد بيرنيز” مؤسس مهنة العلاقات العامة باستخدام أفكار خاله في الاقتصاد؛ أقنعَ في البدء أصحاب الشركات الكبرى أنّ بإمكانهم بيع المنتجات من خلال ربطها بالدوافع الباطنية الخفيّة في أنفس المستهلكين الذين يجب أن لا يشتروا بدافع الحاجة، إنما بالرغبة، بأنهم يريدون، وأنهم سيشعرون أفضل لو امتلكوا المنتَج المراد بيعه… كذلك تمخّضت عن أفكاره جملة من مبادئ علم نفس المستهلك، وطرائق إدارته.     

ثم في وقت لاحق تنبّه بيرنيز إلى أنّ الدعاية النازية قبيل الحرب العالمية الثانية قد استلهمت واعتمدت على أطروحات البروباغندا الخاصة به، فاقتحمَ السياسة بشكل جاد لاحقاً إبان أزمة الحرب الباردة، ودَفَع باتجاه تعظيم مخاوف المواطنين من النظام الشيوعي لحشدهم حول القيادة الأمريكية، وزاوَجَ بين مفهومي الديموقراطية والرأسمالية، وبين الحرية والاقتصاد الحر، ثم أقنعَ الإدارة الأمريكية بتدبير انقلاب في “غواتيمالا” لأن عميله التجاري (شركة يونايتد فروت للفاكهة) قد تضررت من رئيس غواتيمالا المنتَخب الذي كان قد وعَدَ آنذاك بمحو سيطرة الشركة الأمريكية على بلاده. 

بعد تدبيرها الانقلاب والإطاحة بالرئيس الغواتيمالي “جاكوبو آربينز”، تنبّهت وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA للخطر الذي من الممكن أن تلعبه الأساليب النفسية في عملية التلاعب بالجماهير، إنها الآن في منتصف الخمسينيات قلقة إزاء معلومات تفيد بأن السوفييت أيضاً يُجرّبون تقنيات علم النفس للتلاعب بمشاعر وذكريات مواطنيهم بُغية إنتاج نوع جديد منهم، نوع أكثر طواعية، وأكثر قابلية للتحكم والتعليب، وأنّ تلك التقنيات تُدعى “غسيل الدماغ”، وقد كان علماء النفس العاملون في الـCIA مقتنعين بأن هذا قد يكون ممكناً حقاً، وأنه ينبغي عليهم محاولة تجريبه بأنفسهم.

في سبتمبر 1950 نشر صحفيّ أمريكي يُدعى “إدوارد هانتر” مقالاً في جريدة ” Miami News” بعنوان “غسيل الدماغ”، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام هذا المصطلح.

 لم يكن هانتر صحفياً عادياً، إنما خبيراً بالبروباغندا، وشغوفاً بها؛ عَمِل مراسلاً أجنبياً في أقصى آسيا خلال الخمسينيات (أي في فترة بزوغ نجم المحللين والتحليل النفسي في الولايات المتحدة)، وكتبَ العديد من المقالات والتقارير عن برنامج الصين الشعبية لإعادة تثقيف جماهيرها بالآيديولوجيا الشيوعية آنذاك. 

كانت تقاريره المبكّرة عما وصفه بعمليات “غسيل الدماغ” عام 1950 بمثابة إعلانات تشويقية لكتابه الذي صدرَ في الـ1951 بعنوان  “غسيل الدماغ في الصين الحمراء: التدمير الممنهج للعقول” والذي يُعد أول دراسة مفصّلة لوصف عملية “غسل الدماغ” الصينية.

المثير أن تقاريراً عديدة تحدّثت عن أنّ هانتر كان أصلاً عميلاً لوكالة الاستخبارات المركزية؛ لربما كان المصطلح الذي ابتكره بحدّ ذاته نوعاً من البروباغندا بغرض الدفع باتجاه منح الـCIA ضوءاً أخضر لتجارب غسيل الدماغ على المواطنين الأمريكيين أنفسهم!

لقد غيّر سيغموند فرويد -عن قصدٍ أو دون قصد- العالَم إلى غير رجعة.

في ذلك الوقت (الخمسينيات) كانت صورة الإنسان التي تمّ فهمها استناداً إلى أفكار سيغموند فرويد تعتمد على أنْ ثمّة قدْر كبير من الثغرات والضعف في النفس البشرية، وأنّ تلك الثغرات قابلة للاستغلال والتلاعب؛ اعتقَدَ الأطباء النفسانيون في الولايات المتحدة اعتماداً على ذاك التصوّر أنه من الممكن برمجة الناس بطرائق لا حَصر لها، وهكذا بدأت الـCIA فعلاً في أواخر الخمسينيات بضخّ ملايين الدولارات في أقسام علم النفس في الجامعات الأمريكية.

كذلك بدأت وكالة الاستخبارات المركزية بتمويل تجارب سرّية حول كيفيّة تغيير المحركات الأساسية للسلوك البشري، والتحكم بها، لعل أشهر تلك التجارب كان تُدار من قبل رئيس الجمعية الأمريكية للطب النفسي آنذاك الدكتور Donald Ewen Cameron الذي كان -كالعديد من الأطباء النفسانيين في ذلك الوقت- يرى أن الإنسان تقوده دوافع خطرة تهدد المجتمع، لكنه لم يعتقد فقط بإمكانية السيطرة على تلك القوى والدوافع، إنما إزالتها ومحوها كلّياً. 

كان الدكتور كاميرون يرى أن الطب النفسي لاينبغي أن يُركّز على المرضى فقط، إنما أن ينخرط في الحكومة، وأنه يجب على السياسيين الاستماع لما يقوله الأطباء النفسانيون الذين يجب إشراكهم في كل محفل برلماني وسياسي، لأنهم العارفون والمدركون بطريقة عقلانية ماهو الجيد للناس، وماهو الخير للأمّة واستمرارها. 

أنشأ كاميرون عيادة داخل مستشفى في مونتريال كندا يُدعى Allan Memorial Institute، وجاء بالمرضى ممن يعانون مشاكل عقلية واسعة النطاق، رأى كاميرون أنها ناتجة عن ذكريات قديمة مكبوتة، لكنه في الوقت نفسه كان قد ضاق ذرعاً بالأساليب المعروفة وقتها للطب النفسي، رأى أنه بدلاً من محاولة الكشف عن تلك الذكريات القديمة عليه ببساطة أن يتخلّص منها تماماً، لذا فقد سلكَ طريقاً آخر، وأخذ يستخدم عقارات الهلوسة والـLSD والصدمات الكهربائية وتقنية الـECT، كل ذلك ليس فقط لعلاج مرضاه، إنما لإنتاج أشخاص جدد. 

اعتقدَ كاميرون أن بإمكانه تغيير الوظائف الأساسية للأفراد، أنّ بإمكانه تعديل ذكريات ماضيهم وسلوكهم القديم، وأن بإمكانه محو كل شيء عنهم بحيث يصير الفرد سجلّاً فارغاً يمكن الكتابة عليه، وتلقينه طرائق جديدة للسلوك، وكأنّ به يردّد عبارة ماو تسي تونغ: “سنجعل من ذاكرة شعبنا صفحة بيضاء لنكتب عليها أجمل العبارات وأنبل الأفكار”، أو العبارة الواردة في رواية جورج أورويل (1984) التي نُشرت قبل عامين فقط من ابتكار مصطلح (غسيل الدماغ): 

“You will be hollow. We shall squeeze you empty, and then we shall fill you with ourselves”

“سنعتصركم حدّ إفراغكم مما في أنفسكم، ثم سنملؤكم بما في أنفسنا”

تلقّى المرضى في عيادة الدكتور كاميرون صدمات عديدة، مئات جلسات العلاج قام بها عليهم، مَسَخَهم إلى حالة غاية في البلادة والبدائية، كانت تجاربه كارثة كاملة، وما أنتجه في المحصّلة كان العشرات من الأشخاص فاقدي الذاكرة؛ تَذكر التقارير أنّ مرضى الدكتور كاميرون لم يكونوا قادرين سوى على تكرار جملة تقول: “أنا متصالح مع ذاتي”، لك أن تتخيل إلى أيّ مدى كان يريد أن يأخذهم!

كذلك لم تكن باقي التجارب التي موّلتها الـCIA أفضلَ حالاً، باءت بالفشل جميعها، أدركَ علماء النفس الأمريكان العاملون فيها مدى صعوبة فهم والتحكم بالدوافع الداخلية للعقل البشري، أدركوا في نهاية الخمسينيات أنهم كانوا يطاردون شبحاً، وأن النفس الإنسانية معقّدة أكثر بكثير مما كانوا يظنون.

في السابق كان المحللون النفسيون في الولايات المتحدة قد حازوا الثروة والقوة والسلطة والحظوة بدعوى أنهم يعرفون كيفيّة التحكم بالقوى والدوافع الخطرة داخل العقل الإنساني، لكن في بداية الستّينيات واجهوا أكبر إخفاق لهم، إخفاقٌ دفعَ الناس إلى التشكيك في جدوى التحليل النفسي من أصلِه، وفي أساسيات تكوينه وبنائه.

سيغموند فرويد

خلال الخمسينيات، وكحال كل أميركا، كانت هوليوود مفتونة بالتحليل النفسي أكثر من غيرها، وكان لآنا فرويد التأثير القوي على عشرات المحللين في لوس أنجلوس الذين كانوا بدورهم على علاقات وثيقة بنجوم السينما، والمخرجين، ومدراء الاستوديوهات العملاقة؛ أحد أكثر أولئك المحللين شهرة على الإطلاق كان صديقاً مقرّباً جداً من آنا فرويد يُدعى “رالف غرينسون“، كان من عملائه توني كيرتس، وفرانك سيناترا، وآخرون… في العام 1960 لجأت إليه النجمة الأكثر شهرة في العالم آنذاك “مارلين مونرو”، كانت تعاني اليأس والإدمان على الكحول والمخدرات. 

تَذكر الممثلة الشهيرة “سليست هولم” التي كانت نفسها إحدى مرضى الدكتور رالف غرينسون: “دعاني غرينسون لتناول العشاء في منزله، وهناك التقيتُ مارلين مونرو، قبل ذلك كنا قد تشاركنا الأداء في فيلم All About Eve، كان رالف يحاول أن يَعرض عليها الطريقة الصحيحة التي يجب أن تكون عليها الحياة الأسريّة الأمريكية، وبعد ذلك خرجنا أنا وهي نتمشّى مع الكلب، فقال لي رالف: ما الذي تفعلينه هنا؟ قلت: ألَم تدعُني للعشاء؟ فقال: نعم، لكنك لستِ مريضة إلى هذا الحد، فقلت: أوه!، ثم قال: إن هذه الفتاة لا تمتلك أية مرجعيّة نهائياً، بعبارة أخرى: إنها لا تعلم ما الغرض من كل هذا”.

في الحقيقة، ما فعلهُ الدكتور غرينسون هو اتّباع أفكار صديقته المقرّبة آنا فرويد، إذ كان يرى أن جعْل مارلين مونرو متوافقة مع ما يعتبره المجتمع نمطاً طبيعياً للحياة والسلوك سيُساعدها في تحفيز الأنا الخاص بها، ويمكّنها من التحكم بالدوافع الداخلية الخطيرة والمدمّرة!

عمليّاً، قام غرينسون بدفع مارلين مونرو إلى أقصى حدود أفكار آنا فرويد، أقنع الممثلة الشهيرة بالانتقال للعيش في منزل قريب من منزله، ومُشابه له في التصميم والزينة، ثم أدخلها إلى حياته الأسريّة، ولعبَ هو وزوجته وابنته دور العائلة لها، وجعلَ من نفسه نموذجاً، كأبٍ مثاليّ لمارلين مونرو، وورّط زوجته وابنته في تلك التمثيلية، إذ -حسب أفكار آنا- من شأن ذلك أن يمنحها الكثير من الحب الذي تفتقده، ويساعدها في تعزيز دور الأنا لديها. 

لكن على الرغم من كل جهوده، لم يتمكن غرينسون من مساعدة الشابة الجميلة، وهكذا في الخامس من آب/أغسطس عام 1962 انتحرت في منزلها. 

صدمَ انتحار مارلين مونرو الكثيرين في مجتمع التحليل النفسي، بما في ذلك آنا فرويد نفسها، وبدأت شخصيات بارزة في الحياة الأمريكية ممن كانوا متحمّسين له في السابق يتساءلون الآن عن السبب الذي مَنح التحليل النفسي كل هذه القوة في الولايات المتحدة، وعما إذا كان مفيداً حقاً للأفراد، أم أنه شكل من أشكال القيد لمصالح النظام الاجتماعي والسياسي؟! من بين المنتقدين للتحليل النفسي كان زوج مونرو، الكاتب الشهير آرثر ميللر.

 في مقابلة معه عام 1963 يقول: خلافي مع الكثير من المحللين النفسيين هذه الأيام هو تصوّرهم المسبق أن ثمّة خطأ في المعاناة، أنّ المعاناة علامة ضعف، أو علامة مرض، بينما في الواقع ربما تكون أعظم الحقائق التي نعرفها قد وُلدت من رحم معاناة الناس.. إنّ حل المشكلة لا يكمن في إلغاء المعاناة أو محوها من على وجه الأرض، إنما في جعلها تُنير حياتنا، عوضاً عن أن نحاول علاج أنفسنا منها باستمرار، أو أن نتجنَّبها، ونتجنَب كل شيء غير ذاك الإحساس الذي يسمّونه (السعادة)… يبدو لي أنّ هناك محاولات للسيطرة على الإنسان بدلاً من تحريره، محاولات لتأطيره بدلاً من تركه وشأنه، وهذا جزء من آيديولوجية هذا العصر المجنون، المهووس بالسُلطة”.

في تلك الفترة (أواخر الخمسينيات وبداية الستّينيات) كانت الطريقة التي يُستخدم فيها التحليل النفسي من قبل الشركات للسيطرة على الناس عُرضة للنقد المستمر، لعلّ من أبرز الضربات الموجعة التي تلقّاها آنذاك كانت في كتاب شهير، وهو من بين الأكثر مبيعاً في العالم للصحفي الأمريكي Vance Packard يُدعى The hidden persuaders/ المقنّعون الخفيّون، اتهمَ فيه المحللين النفسانيين باختزال الشعب الأمريكي، وتحويلهم إلى دمى عاطفيّة وظيفتها الوحيدة هي الحفاظ على خطوط الإنتاج الضخمة، كيف خلقوا الاشتياق الدائم والمستمر لكل العلامات التجارية والصيحات والموديلات الجديدة، وكيف حوّلوا الناس إلى مشاركين مُرغمين على تقبّل نظام التقادم الاستهلاكي، وجزءاً من عملية سقوط مخطَّط لها بعناية.

ضربة أخرى تلقّاها التحليل النفسي من الفيلسوف والناقد الاجتماعي البارز “هربرت ماركوزه” وهو الخبير بأساليب علم النفس، يقول في مقابلة عام 1967: “هذا تطبيق صبياني للتحليل النفسي لا يأخذ بعين الاعتبار الإهدار الحقيقي السياسي الممنهج للموارد التكنولوجية والعملية الإنتاجية ككل.. وقد أدّى ذلك إلى التقادم (السقوط مع الوقت)، على سبيل المثال عمليات إنتاج عدد لا يُحصى من العلامات التجارية والأدوات التي -بتحليلها- نجد أنها متشابهة في المحصّلة، أو إنتاج نماذج مختلفة لا حصرَ لها من السيارات.. إن هذا (الازدهار)، بوعي أو بدون وعي، يؤدي إلى نوع من الوجود الانفصامي للأفراد… أعتقد أنّ في المجتمع كمّية غير معقولة من (العنف والهَدمّية) المتراكمة على وجه التحديد بسبب (الرفاهية الفارغة) التي (تُستثار ببساطة).

لم يكن ماركوزه يبتغي القول بأن التحليل النفسي محصور في استخدامه لأغراض الإفساد، إنما نقداً أكثر جوهرية، قال بأن فكرة الحاجة للسيطرة على الناس كانت خاطئة، وأن لدى الناس أصلاً دوافع عاطفية داخلية لكنها لم تكن بطبيعتها عنيفة أو شريرة، إنما المجتمع هو من جعل تلك الدوافع خطرة من خلال قمعها وتشويهها. (قامت آنا فرويد وأتباعها بزيادة الأمر سوءاً عبر محاولاتهم جعل الناس يتوافقون مع المجتمع، وبالتالي جعلوهم أكثر خطورة).

كذلك، تحدّى ماركوزه العالَم الاجتماعي، قال بأنه عالم لا ينبغي التكيّف معه، وأن الأفراد كانوا يُدفعون باتجاه التكيف مع ماهو فاسد وشرير، وشدّد على أن الصراع ضد الشر لايكمن في داخل الإنسان (بين وعيه ولاوعيه)، إنما بين المجتمع نفسه، وأن المجتمع المريض هو مجتمع مريض وليس فرداً مريضاً فحسب، وأنه يتوجّب على الناس أن يَتحدّوا ذلك، وإلا يسقطوا ويخضعوا للشر جميعاً. 

يقول مارتن لوثر كينغ عام 1967: “لِعلم النفس الحديث جملة يُكررها دائماً أكثر من أي جملة أخرى، وهي القول بأن أحداً ما (غير قابل للانسجام)، إنها الصرخة الرنانة لهذا الطفل الحديث (يقصد علم النفس)، غير قابل للانسجام؟!! … في الحقيقة جميعنا يُريد أن يعيش حياةً منسجمة بعيداً عن العُصابية والفصاميّة، لكنني أريد أن أقول لكم اليوم، وبكل أمانة، إنّ ثمة أشياءاً في مجتمعنا وعالمنا أشعر بالفخر لكوني غير منسجم معها، وإنني لأدعو كل إنسان ذو إرادة خيّرة أن يكون غير منسجم معها، إلى أن نتمكّن من التعرّف على معنى (المجتمع الخيّر)… يتوجب عليّ أن أقول لكم بكل أمانة إنني لا أنوي أبداً الانسجام مع الفصل العنصري، ولا التعصب الديني، لن أنسجم مع الظروف الاقتصادية التي تَقتطع من حاجات الأغلبية لتلبّي رغبات ورفاهية الأقلّية، تاركةً الملايين من أبناء الرب يختنقون في قفص الفقر المدقع داخل مجتمع غني”.

 وهكذا شهدت أواخر الستينيات من القرن الماضي لحظات ومواقف كثير شاهدة على السقوط المتتابع والمدوّي للتحليل النفسي الفرويدي في الولايات المتحدة… لعلّ الضربة الأكثر إيلاماً جاءت لاحقاً من ابنَي دورثي برلنغام اللذين كان قد حلّلتهما آنّا فرويد سابقاً، إذ في العام 1970 توفيَ أحدهما يدعى “بوب” جراء معاقرته للكحول عن 55 عاماً عقب معاناة طويلة وجلسات علاج متكررة، ثم بعده بأربعة أعوام عادت اختهُ “مابي” مرة أخرى لإجراء المزيد من جلسات التحليل النفسي مع آنا حين كانت الأخيرة قد عادت مع دورثي للعيش في منزل سيغموند القديم في لندن (راجع المقال 4)، وهناك تناولت جرعة زائدة من حبوب منوّمة لتموت منتحرة في منزل فرويد نفسه عام 1974.

عن هذه الحادثة يذكر “مايكل برلنغهام/ ابن بوب” أنه “ثمة الكثير من المضامين والعِبر بإمكان المرء استخلاصها، لقد كان من الواضح أن انتحار (مابي) يحمل رسالة جوهرية، والقيام به في منزل سيغموند فرويد يختلف تماماً عن فعله في منزلها في نيويورك”.

عند هذه النقطة نكون قد أنهينا تناول القسم المتعلّق بالتأثير السياسي والاقتصادي والاجتماعي للتحليل النفسي وعائلة فرويد… المقالات القادمة ستبدأ بقصة أخرى، وهي قصة صعود أعداء عائلة فرويد نحو السلطة، واعتقادهم بأن الوسيلة لبناء مجتمع أفضل تكمن في ترك الذات البشرية حرة بلا قيود… فكرة التحرر تلك ستتمخض عنها أيضاً مشاريع، وسياسات، وأساليب أخرى للتحكم بالعقلية الجمعية، مبدئياً عبر تغذيتها بالرغبات اللانهائية!