fbpx

“إلا رسول الله”… إلا حرّية التعبير

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اشتباك العالم الإسلامي مع حرية التعبير طويل وشائك.ويبدو أن الحملة التي تتشكلُ حالياً تحت شعار “إلا رسول الله” هي إضافةٌ أخرى للاشتباك غير الضروري بين الإسلام وحرية التعبير.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يمكن بالطبع إغفال الجانب السياسي للحملة، فهي تأتي بشكل شبه حصري تقريباً من قبل قوى وجماعات مرتبطة بالإسلام السياسي الإخواني، وتغطية على حملة مقاطعة أخرى للسلع التركية تقودها بلدان خليجية مشتبكة مع المحور القطري-التركي. تنشر الحملة بنشاط صور وأسماء السلع الفرنسية المطلوب مقاطعتها ثم تنتقل بحرفية مدروسة لتقديم خطاب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان يهاجم فيه الغرب والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مقدماً نفسه المقاتل الوحيد في الميدان.

تسعى الحملة الى تحقيق هدف شبه مستحيل هو تحصين الإسلام من النقد داخل العالم الغربي نفسه، وإيصال رسالة الى الغرب أن أي انتقاد أو سخرية سيكون ثمنها غالياً. لكن هذا البعد السياسي لا يمكن أن يقلل من خطورة التوتر القائم بين الغرب والمسلمين، وبين المسلمين وقيمة من أهم قيم العصر الحديث هي حرية التعبير. 

ظل هذا التوتر محصوراً في إطار حدود الدول الإسلامية، ومحكوماً بالقوانين التي كانت تنهي هذا الاشتباك بإسكات الرأي المخالف أو مصادرة كتاباته او حبسه او أحيان أخرى قتله أو تطبيق حدّ الردة عليه. لكن العام 1989 نقل الاشتباك الإسلامي مع حرية التعبير إلى حدود أوسع وأخطر.

أصدر زعيم الثورة الإيرانية الإمام الخميني فتواه الشهيرة وسيئة السمعة، التي طالب فيها أي مسلم بتطبيق حدّ القتل قصاصاً ضدّ الكاتب سلمان رشدي بسبب تناوله الدرامي لشخصيات الرسول محمد وزوجته عائشة في رواية “آيات شيطانية”. ويمكن القول ان هذه القضية كانت أول قضية تمس حرية التعبير اتخذت الطابع العالمي، ويكون النقاش فيها عالمياً عابراً للحدود والدول والثقافات. كان ذلك العام عام نهاية الحرب الباردة، وانهيار أسوار المعسكر الاشتراكي، ودخول العالم عصر عولمة التجارة والاقتصاد والمعلومات. ولكن في نفس الوقت كان أيضاً عصر عولمة الهويات الضيقة والأصوليات الدينية.


نجاح مسلمي أوروبا من ناحية، ومسلمي العالم الاسلامي من ناحية أخرى في التخلص من اختطاف الإسلام السياسي لأصوات المسلمين لن يتم إلا باستيعاب المسلمين أن الأفكار والأديان ليست محمية من النقد، وأن حرية التعبير تتضمن داخلها الحق في الإساءة والاستفزاز لعقائد الآخرين.


أحرق المسلمون في أوروبا نسخ الرواية، ومشوا في مظاهرات يطالبون فيها بقتل الروائي رشدي، واشتعل العالم العربي الإسلامي بموجة غضب عاطفية ضد رواية لم يقرأها. وباستثناء حفنة بسيطة من مثقفي العالم العربي، مشت غالبية المثقفين العرب في موجة الغضب العاطفية، ورفض مبدأ حرية التعبير عندما يتناول الدين.

في تلك السنة، من وجهه نظري، خسر المسلمون قضيتين كبيرتين: القضية الأولى هي قضية حرية التعبير، وكانت ردة فعل العالم العربي والاسلامي فشلاً كبيراً في استيعاب مبادئ حرية التعبير وتقاليد نقد المقدس، والقضية الثانية هي قضية الاندماج في عصر العولمة والعالم المفتوح. قدم المسلمون انفسهم لعصر العولمة عن طريق سياسات الهوية والإنغلاق الحضاري. وجاء العام 2001 بتفجيرات برجي التجارة العالمي في نيويورك ليترسخ الوجه الخاطئ الذي ظل الإسلام السياسي يقدم نفسه ويقدم الإسلام للعالم من خلاله، وجه الأصولية الجهادية بوجهيها التطرف والإرهاب.

في العام 2004 سيخلق الإسلام السياسي معركة دموية أخرى مع حرية التعبير عندما سيقوم شاب مسلم بقتل المخرج الهولندي ثيو فان غوخ بسبب إخراجه لفيلم انتقد الإسلام. وسيأتي العام 2005 بأزمة الرسوم الدنماركية وما أثارته من رد فعل لاعقلاني في العالم الإسلامي، لتدفع المسلمين أكثر نحو الجانب الخاطئ من التاريخ، ولتحفر خنادق أعمق بين الإسلام والمسلمين وبين حرية التعبير كمبدأ جوهري للديمقراطية والحياة الاجتماعية والسياسية في عصر العولمة. وستتأسس السردية الإسلامية المضادة لحرية التعبير حول ثلاث نقاط: النقطة الأولى هي إدانة الحوادث الإرهابية، ولكن في نفس الوقت إدانة فعل حرية التعبير. والنقطة الثانية هي الإدعاء أن الحوادث الإرهابية التي تستهدف الفنانين والصحفيين والمثقفين هي نتاج لاستفزاز مشاعر واعتقادات المسلمين. والنقطة الثالثة هي أن الحل لتجنب المزيد من حوادث الإرهاب هو التخلي عن فكرة حرية التعبير بالذات فيما يتعلق بالإسلام، وتحصينه من النقد حتى لو كانت غيره من الأديان تتقبل النقد دون رد فعل يذكر..


يبدو المسلمون في أوروبا الحلقة الأضعف في صراع صار يجري بين “الأغلبية الاسلامية” في بلاد الإسلام، في مواجهة الأغلبية من المواطنين الغربيين في أوروبا. فهم كأقلية لا يستطيعون تكرار خطاب “الاستعلاء الإسلامي” المتمحور حول ” إلا رسول الله”، الذي لا يقبل بأقل من الانتصار الكامل والتحصين الكامل للاسلام  ضدّ أي نقد.


غني عن القول أن هذه السردية رسخت وضع المسلمين في الجانب الخاطئ للتاريخ كجماعة معادية لحرية التعبير ولقيم العلمانية والجمهورية. وستكون هذه السردية هي الخلفية الايديولوجية لمذبحة شارلي ايبيدو في 2015. 

بعد كل واحدة من هذه المذابح سينتقل المسلمون من الخطاب المزدوج (ندين الإرهاب ولكننا في نفس الوقت ندين الضحية) الى لعب دور الضحية وتحويل القضية من قضية إرهاب واعتداء على حرية التعبير الى قضية استهداف الإسلام و محاربة المسلمين.

يبدو المسلمون في أوروبا الحلقة الأضعف في صراع صار يجري بين “الأغلبية الاسلامية” في بلاد الإسلام، في مواجهة الأغلبية من المواطنين الغربيين في أوروبا. فهم كأقلية لا يستطيعون تكرار خطاب “الاستعلاء الإسلامي” المتمحور حول ” إلا رسول الله”، الذي لا يقبل بأقل من الانتصار الكامل والتحصين الكامل للاسلام  ضدّ أي نقد. وهم مطالبون بفك الإرتباط عن تأثيرات الإسلام الراديكالي خارج أوروبا الذي يدفعهم أكثر فأكثر نحو مواجهة خاسرة مع بلدانهم الجديدة. وفي ظل تفكيك السعودية البطيء لمنظومة الإسلام الراديكالي الوهابي، تبقى تركيا وإيران اللاعبان الكبيران في الإسلام الراديكالي عبر العالم. 

لقد قدم اتحاد خطباء وأئمة فرنسا خطاباً متقدماً اعتبر فيه المدرس المذبوح شهيداً من شهداء الحرية، ودعا بوضوح الى محاصرة الاسلام الراديكالي ومنعه من اختطاف المسلمين داخل فرنسا. هذا الموقف المتقدم الذي يختلف كثيراً عن الموقف التقليدي الإسلامي يجري محاصرته عبر حملة يتم تدويلها بإحتراف، تسعى لإستعادة سيناريو المواجهة العقائدية بين الإسلام والغرب التي حدثت في أزمة الرسوم الدنماركية عام 2005، وتحاول استعادة السيطرة على مسلمي فرنسا الذين يحاولون السباحة في بحار صعبة بين الإسلام السياسي واليمين المتطرف. 

في هذا الإطار يلعب أردوغان على ساحة المشاعر الدينية ليقدم نفسه خليفة وزعيماً ولاعباً ماهراً بالدين في خدمة السياسة. يتحدث أردوغان عن الإسلام بينما يسعى في الحقيقة الى خدمة النزعة القومية العثمانية والمصالح التركية الضيقة، ويقدم نفسه مدافعاً عن المسلمين المضطهدين في أوروبا بينما يقوم بأكبر عملية اضطهاد ومصادرة حريات للمواطنين الأتراك والأقليات في تركيا. 

نجاح مسلمي أوروبا من ناحية، ومسلمي العالم الاسلامي من ناحية أخرى في التخلص من اختطاف الإسلام السياسي لأصوات المسلمين لن يتم إلا باستيعاب المسلمين أن الأفكار والأديان ليست محمية من النقد، وأن حرية التعبير تتضمن داخلها الحق في الإساءة والاستفزاز لعقائد الآخرين.

الشيء الوحيد الذي ترفضه قوانين العالم الحديث هو ترويج خطاب الكراهية والخطاب التمييزي، وهذه هي الساحة الرابحة التي يجب أن تنتقل إليها جهود المسلمين بعد أن يتخلصوا هم من خطاب الكراهية والتمييز الموجه ضد الآخرين!