fbpx

القضية الفلسطينية: ماذا بعد الغضب؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

واضح أن الأمر بالغ الخطورة، والتعقيد، فتلك هي المرة الأولى التي يجد فيها الفلسطينيون أنفسهم لوحدهم من دون أي ظهير عربي، ليس من الناحية العملية فقط، وإنما من النواحي السياسية والمعنوية والنظرية أيضاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم تهدأ موجة الغضب والتنديد والإدانة الفلسطينية لموجة التطبيع الجديدة مع إسرائيل، والتي بدأت من الإمارات ووصلت إلى السودان مروراً بالبحرين، في قطار يبدو أنه سيصل إلى أكثر من محطة عربية، في القريب العاجل. 

ولعل ما يغذّي تلك المشاعر عند معظم الفلسطينيين الخطابات التي تغطي تلك الخطوة، حيناً بدعوى مناصرتهم وحمايتهم من مخاطر خطة الضم الإسرائيلية، وحيناً آخر باعتبار أن قيادتهم سبق أن طبّعت مع إسرائيل، وفي أحيان أخرى بحجّة أن تلك القيادة أساءت لقضيتها، وأنها فوتت فرصاً كثيرة، وأن العرب طالما دفعوا وأن للفلسطينيين أن يتفهموا أولوياتهم الجديدة. 

بيد أن ما فاقم تلك المشاعر هو ما انطوت عليه الخطابات المذكورة من عنجهية، وتنكر للتضحيات التي بذلها شعب فلسطين، منذ قرن، والتي مثّلت سابقة في نوعها، إذ إن محطتي التطبيع السابقتين (مصر والأردن)، لم تشهدا مثيلاً. 

السؤال الملحّ، الآن، الذي يقف إزاءه الفلسطينيون، كشعب وكحركة وطنية وكسلطة: ماذا بعد الغضب والتنديد والإدانة؟ ما الذي يمكن فعله؟ وما تبعات كل عمل، أو كل خيار، على القضية والشعب والحركة الوطنية؟

واضح أن الأمر بالغ الخطورة، والتعقيد، فتلك هي المرة الأولى التي يجد فيها الفلسطينيون أنفسهم لوحدهم من دون أي ظهير عربي، ليس من الناحية العملية فقط، وإنما من النواحي السياسية والمعنوية والنظرية، أيضاً. ومبلغ الخطورة هنا أن فكرة العمل الوطني الفلسطيني المعاصر ارتبطت بمسألتين: الأولى، وهي الدعم العربي السياسي والمادي. والثانية، الاحتضان العربي للكفاح الفلسطيني ضد إسرائيل، ولنا أن نتصور ما كان يمكن أن يكون وضع المقاومة الفلسطينية، منذ انطلاقتها، لولا هذين العاملين. 

أما من جهة التعقيد فالمشكلة أن هذا التطور يحصل في ظرف أفول، أو ضعف، العمل الوطني الفلسطيني، سواء من الناحية التمثيلية، أو من ناحية الأهلية الكفاحية، كما من ناحية انحسار دوره في مواجهة التحديات الإسرائيلية. كما أن ذلك يحصل في ظرف الانقسام الفلسطيني، وفي وضع تصدع الشرعية الوطنية والتمثيلية، وفي ظل انسداد خيارات القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و”فتح”. وإضافة إلى كل ما تقدم فإن ما يحصل يأتي في ظل انهيار المشرق العربي (على ضوء الوضع في سوريا والعراق ولبنان)، وفي ظل تخلي الولايات المتحدة عن رعاية ما يسمى عملية “السلاح”، وانحيازها تماماً إلى موقف اليمين الإسرائيلي، مع صفقة القرن للرئيس ترامب.

والحال، فليس ثمة مروحة خيارات أمام القيادة الفلسطينية، أو أمام الشعب الفلسطيني، بل إن الخيارات الممكنة ضئيلة وصعبة، ولا يمكن التكهن بتبعاتها، وما إذا كانت تفاقم من المخاطر بدل أن تساهم في التخفيف منها؛ بدليل أن القيادة الفلسطينية لم تقدم حتى الآن أي وجهة نظر تفيد بكيفية تعاملها مع موجة التطبيع الحاصلة، أو ما حال إلى التخلي العربي الرسمي عن قضية الشعب الفلسطيني، وضمنه مواجهة هذا الوضع الذي أضحت فيه إسرائيل (عدوتهم) دولة طبيعية، أو دولة ذات علاقات متميزة مع الكثير من الأنظمة العربية، في المنطقة العربية.

واضح الآن أن مسار التطبيع،

الذي يعني محاولة وأد الحلم الفلسطيني، يأتي كاستكمال لمحاولات وأد الربيع العربي.

وإذا كان مفهوماً أن القيادة الفلسطينية لا تستطيع شيئاً، ملموساً، إزاء التحديات الخارجية، وضمن ذلك تحدي سياسات إسرائيل، التي أعلنت مراراً عن تشريعها بناء آلاف الوحدات السكنية في القدس والضفة الغربية، في الفترة الأخيرة، كما حصل في فشل دعوة الفلسطينيين إلى التظاهر، من قبل ما سمي “القيادة الموحدة للمقاومة الشعبية”، يوم 15 أيلول/ سبتمبر الماضي، فإنها تبدو عاجزة، أيضاً، أو مترددة، عن القيام بأي خطوات ذات قيمة على صعيد إعادة ترتيب أوضاعها وأوراقها، لتحسين قدرتها على مواجهة سياسات إسرائيل، مع التعثر الواضح في مسار استعادة وحدة النظام السياسي الفلسطيني، والمصالحة بين “فتح” و”حماس”، وتنظيم انتخابات جديدة، إذ لم يصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس حتى الآن المرسوم الخاص بذلك.

هكذا حتى الآن لا استراتيجية فلسطينية لإعادة ترتيب الأوراق الفلسطينية بناء على التطورات الجديدة، بل ثمة خطابات ورغبات تنطلق، مثلاً، من أن الشعوب العربية ضد التطبيع، في حين أن ذلك، على أهميته، يتجاهل أن العالم العربي يفتقد لدولة مؤسسات وقانون ومواطنين، ولإطارات المجتمع المدني، والشعوب العربية مغلوب على أمرها وممنوعة من السياسة. كما يتجاهل ذلك الكلام حقيقة أن التطبيع يحصل بين دول، وإسرائيل، وهذا هو المطلوب، وهو الأساس في التطبيع، لأن إسرائيل، كدولة استعمارية عنصرية وكـ”غيتو” في الشرق الأوسط، لا يهمها انفتاح الشعوب على بعضها، وإنما يهمها اعتراف الأنظمة بها وبروايتها وإقامة علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية معها. والمؤلم أن ذلك الكلام، على لسان فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، يأتي متأخراً، ومتلعثماً، فتلك الحركة نأت بنفسها عن المجتمعات العربية وقضاياها، حتى أنها ناصبت الحراكات الشعبية في البلدان العربية العداء، وأنكرت عليها حقها في التحرك من أجل حريتها وكرامتها، ومن أجل حقوق المواطنة، ما أدى إلى الإضرار بالصدقية الأخلاقية للحركة الوطنية الفلسطينية، للأسف.

وفي مراجعة للعلاقة بين قضية فلسطين والأنظمة العربية، تمكننا ملاحظة، أولاً، أن تلك العلاقة انطوت على مخاتلة وتلاعب وتوظيف، فتلك الأنظمة استثمرت في تلك القضية، أكثر بكثير مما اشتغلت على إيجاد حلول لها، وأكثر بكثير مما اهتمت بتحسين أحوال الفلسطينيين. وثانياً، فهو يخفي حقيقة أن وجود إسرائيل لم يكن هاجساً لتلك الأنظمة، ولا في أي وقت من الأوقات. وفي الواقع فإن تلك الأنظمة أفرطت في “حبّ” تلك القضية، بقدر ما مرمطت شعبها، وامتهنته، وبقدر ما وظفت تلك القضية لتغطية عورة اللاشرعية، ولتبرير مصادرتها حقوق مواطنيها وحرياتهم، والهيمنة على الدولة والمجتمع والموارد. 

واضح الآن أن مسار التطبيع، الذي يعني محاولة وأد الحلم الفلسطيني، يأتي كاستكمال لمحاولات وأد الربيع العربي، ما يؤكد أن قضية الحرية والعدالة والكرامة لا تتجزأ. مع ذلك فلكل ظاهرة نقيضها، فعلى رغم التعقيدات والملابسات المذكورة، ربما ينطوي ما يحصل على فرصة تحرير قضية فلسطين من توظيفات الأنظمة العربية وتلاعباتها، ويفتح على تحرر الحركة الوطنية الفلسطينية من اعتمادها على تلك الأنظمة، كما أن من شأن ذلك أن يعيد ربط قضية فلسطين، كقضية حرية وعدالة، مع قضايا الحرية والعدالة في العالم العربي.