fbpx

“ها أنا أقف أمامي”: شهادات أقبية التعذيب السورية أمام القاضي الألماني

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بقدر ما هي تجربة مؤلمة للشهود، بقدر ما هم يشعرون للمرة الأولى بجهاز قضائي مهتم بالاستماع لأقوالهم وتجربتهم والانتهاكات التي تعرضوا لها… هنا تجربة صحافي سوري يتابع جلسة محاكمة ضابطين سوريين، وهو معتقل سابق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أن يتولى صحافي سوري، وهو معتقل سابق، متابعة تغطية جلسة محاكمة ضابطين من أركان النظام السوري في ألمانيا ضمن ما بات يعرف قضاء كوبلنز، فإن الأمر سيختلط عليه بين تولي نقل المشهد وبين أن يكون جزءاً منه. جود حسن وقع في هذا المأزق ونقل لنا ما شاهده في المحكمة، ولكن نقل لنا أيضاً ما يشعر به المرء حين يقف في وجه جلاده، بوصف الأخير متهماً وبيد العدالة الألمانية.

مجسّم المحكمة وأدوار الحضور

دوماً ما شعرت بتشابه بين قاعة المحكمة وخشبة المسرح، لكني لم أجرؤ على البوح بذلك مطلقاً، فإدراكي للفارق بين الحكاية المسرحية والأحداث الواقعية يغمرني بالذنب لهذه المقارنة بين المكانين. 

على المنصة، وفي صدر القاعة أربعة قضاة نساء وقاضٍ مساعد، يشرفون على قاعة يتوزع عليها فرق الادّعاء، المحامون، الشهود، الصحافيون، والناشطون. 

كان كوفيد-19 حاضراً أيضاً، فاتّخذ القيّمون على المحاكمة قراراً بتحديد عدد الحضور بما لا يزيد عن 29. على يمين القاعة، وخلف الحاجز الزجاجي، يجلس المتهمان، لكل منهما مترجمه الخاص وفريق محامي الدفاع عنه. أما القسم الأيسر من القاعة فهو مخصص لممثلي النيابة العامة. وباستثناء الجسم القضائي والقانوني، فإن بقيّة الحضور يشغلون 10 مقاعد فقط، من بينهم صحافيون يغطون الحدث لوسائل إعلام مختلفة.

يبيّن المحامي (باتريك كروكر) المستشار القانوني في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان أهمية الحدث باعتباره المحاكمة الأولى التي يجريها جهاز دولة قضائي، لأحد النافذين السابقين في النظام السوري، وتشمل جرائم مثل القتل خارج القانون، والتعذيب، والعنف الجنسي في المعتقلات السورية. ويذكر المحامي أن المحكمة قد عينت اثنين من محامي الدفاع لكل منهم. ويضيف أنها المرة الأولى التي يطرح فيها هذا الكمّ من الأدلة ويتم التعامل معها بدرجة عالية من الدقة القضائية. وقد طلبت المحكمة من الخبراء والباحثين المختصين كتابة دراسات عن الوضع السياسي والأمني في سوريا، وعن طبيعة العلاقة بين السلطة والمواطنين، وهناك بعض الدراسات التي تعود إلى التاريخ السوري حتى عام 1960. بينما تشير مساعدة كروكر، الحقوقية السورية (جمانة سيف)، إلى سعي هيئة الادعاء لإدراج جرائم العنف الجنسي والقائم على النوع الاجتماعي الغائبة حتى الآن على لائحة الاتهام: “من المؤسف ألا تثبت في أول محاكمة من هذا النوع جرائم العنف الجنسي”.

الحضور، الشهود، الضحايا:

الحضور من الجمهور هم الشهود، مما يعني أنهم الضحايا أيضاً. أفكر بهؤلاء المظلومين والمظلومات الذين ينعمون للمرة الأولى بقاعة محكمة تنصت لشهاداتهم في بلد يُعتقد عنه أن صوت القانون هو السائد فيه فوق أية اعتبارات أخرى. الحضور هم الناجون والناجيات، المدّعون والمدّعيات، والشهود والشاهدات، في الآن عينه، منحوا فرصة اكتشاف وجود أشخاص مناصرين لقضيتهم. لكن يبقى أعمق ما يجمع بينهم هي التجربة التي عايشوها هم أو أصدقاء لهم أو أحباء. يحضر في القاعة عائلات المفقودين، أقارب المعتقلين، أمهات المقتولين. كنت أجول في نظري على القاعة فأشعر مثلهم، بأني محاط بأشخاص مروا بتجربة مماثلة لما عايشته، ليس بالضروة في التاريخ عينه، قبل أو بعد في الزمن، لكنها التجربة ذاتها. إنهم يشاركونني ما مررت به، ولو اختلفت تفاصيل كل منا في رواية حكايته.

تشرح لنا الحقوقية السورية (جمانة سيف) صعوبة التجربة التي يعايشها المدعون والشهود، وتقول: “بقدر ما هي تجربة مؤلمة للشهود، بقدر ما هم يشعرون للمرة الأولى بجهاز قضائي مهتم بالاستماع لأقوالهم وتجربتهم والانتهاكات التي تعرضوا لها. في البداية، رفض العديد من الشهود المشاركة بسبب فقدان الأمل، ولكنهم الآن يعبرون عن رغبتهم بالمشاركة في الادّعاء والشهادة. لقد آمنوا بأنها جزء من طريق العدالة. وما زالت المحاكمة اليوم مفتوحة لضم مدعين آخرين وشهود آخرين”. أما بخصوص شهادات النساء ومشاركتهنّ في مجريات القضية فتقول سيف: “في البداية أبدت المدعيات والشاهدات بعض المحاذير من المشاركة، ولكننا الآن نرى تزايداً في مشاركة النساء المدعيات والشاهدات”. كذلك تشرح المحامية عن نوع آخر من المدعين والشهود، أولئك الذين رفضوا المشاركة خوفاً على مصير عائلاتهم في سوريا.

المتهمان:

العام الماضي ألقت الحكومة الألمانية القبض على المتهمين، وجرى ذلك في برلين وفي ولاية راينلاند-بفالتس جنوب غرب البلاد، لتبدأ المحاكمة في تاريخ 23 نيسان 2020، وهي أول محاكمة تتم لضابطين سابقين من جهاز مخابرات النظام الحاكم في سوريا، يشتبه في ارتكابهما جرائم ضد الإنسانية، وممارسات التعذيب، وجرائم اعتداء جنسي. 

المتهم الأول: (أنور رسلان، 57 عاماً) 

عقيد سابق في أمن الدولة، كان يدير فرع أمن منطقة الخطيب في دمشق، والمعروف أيضًا باسم “الفرع 251″. 

التهم :تعذيب 4000 معتقل في أحد أفرع المخابرات العامة (فرع أمن منطقة الخطيب 251) في دمشق. ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في العامين 2011- 2012

ارتكاب 58  جريمة قتل. 

ارتكاب جرائم اغتصاب واعتداءات جنسية. 

 ويذكر أن هذا الفرع شهد موت 58 معتقلاً تحت التعذيب. 

المتهم الثاني: (إياد الغريب، 43 عاماً)

التهم: تقديم المساعدة للمتهم الأول في ارتكاب جرائمه.

احتجاز المتظاهرين وتسليمهم إلى فرع الأمن في منطقة الخطيب في خريف 2011.

احتجاز 30 متظاهراً وسوقهم إلى أقبية التعذيب.

ممارسات تعذيب، الضرب، الركل، الصعق، الاعتداء الجنسي والنفسي، بالإضافة إلى التهديد بإيذاء عائلة المعتقل والتنكيل بها.

قلق الشاهد والضحية من سهوات الذاكرة

دخلت رهام إلى غرفة التحقيق، يرافقها محاميها، وإرادتها الحرة وقرارها الشخصي. جلست على الكرسي بمحض إرادتها، لا شيء يلجم الرؤية، دون قيود تكبل حركة يديها، سوى قلق من سرد قصتها، وشهادتها، والمطالبة بحقها في الادعاء على المدعى عليه أنور رسلان. جلّ ما كانت تخشاه رهام هو سهوها عن التفاصيل الدقيقة لتجربة اعتقالها في فرع أمن منطقة الخطيب قبل أعوام. لقد خشيت من أثر تقادم الزمن على ذاكرتها، وقلقها من ردة فعلها النفسية نتيجة إجبارها على استرجاع كل ما حاولت طمره أثناء رحلة  محاولات الاستمرار في الحياة. تقول رهام: “من وقت ما ربينا تعودنا يضيع حقنا، وما حدا يوقف معنا، بتخاف ولو كنت على حق لانو في مين أقوى منك يهددك ويهدد حياة كل يلي بتحبون. بعد التحقيق بقيت فترة ضايعة، ما بعرف انا وين وشو صار، كل الذكريات رجعت كأنو صارت معي هلق، بس بنفس الوقت في احساس بالانتصار، هادا الشعور انو هو اليوم بالسجن، يعني مضطر غصب عنو يفكر بشو عمل، ماعاد فيو يهرب من حالو. هاد الشعور انو هو بالسجن بكفي انو يخليني حس انو انتصرت”.

أنور رسلان، أحد المتهمين

ذاكرة رهام لم تتردد أو تسهو، لا بل أعادت شهادتها الذكريات بقوة إلى ذهني وحواسي. تدفقت تجربة تفصلني عنها 10 سنوات في جسدي وحواسي، انفجرت كسيل ينهال بغزارة. رأيت نفسي أجلس على كرسي التحقيق معصوب العينين، مكبل اليدين، من حولي يتحرك المحقق بشكل دائري بلا توقف، يستجوبني بشكل مستمر. فقدت حينها الإحساس بالزمن. ويوماً بعد آخر، في جلسة التحقيق الرابعة أو الخامسة، فقدت احتساب تسلسل الأيام.  هناك لا أهمية لذلك، مجرد تفصيل تافه في خضم الأحداث الجارية.

استحضار الألم المنسي

أشد ما يعانيه الشهود والضحايا في هذا النوع من المحاكمات، هو ضرورة استحضارهم وروايتهم بالتفصيل لتجارب جهدوا طيلة السنوات الماضية لنسيانها وتجاوزها، في المحكمة يجب استعادتها بدقّة وبالتفصيل والمعايشة لأجل محاكمة عادلة منشودة. 

دخل لؤي إلى غرفة تحقيق المحكمة الألمانية كشاهد. 5 أشهر تفصل بين هذه اللحظات وحضوره أمام القضاة، والتحديق في وجه المتهمين. أعوام كثيرة مضت وأحداث عدة وقعت منذ خروجه من المعتقل، وها هو اليوم مضطر إلى أن يسترجع كل ما حدث بالتفصيل الدقيق، وأن يخبر قصته بكل حيثياتها. تلك القصة التي ناضل سنوات ليلجم ذكراها في محاولة منه للاستمرار، عليه الآن أن يجيب على كل الأسئلة، يسترجع كل التفاصيل، يحفظها. لا مجال لسقوط الصغير منها أمام بيروقراطية استجواب الناجي وإلا تم التشكيك بكل ما مر به، عليه أن يكون رجلاً آلياً. وكأن استرجاع ما حدث في أقبية التعذيب حكاية مجهول لا شخصانية فيها ولا مشاعر.

في البداية، رفض العديد من الشهود المشاركة بسبب فقدان الأمل، ولكنهم الآن يعبرون عن رغبتهم بالمشاركة في الادّعاء والشهادة. لقد آمنوا بأنها جزء من طريق العدالة

قال لؤي عن لحظة دخوله إلى قاعة المحكمة، وبعد أن رأى القضاة الستة والمتهمَّين خلف القفص الزجاجي، والحضور الجالس إلى الكراسي: ” فكرت رح يكون في شي6 او 5 اشخاص بالقاعة ما توقعت يكون هيك”، يروي لؤي عن  يوم التحقيق هذا: “كان يوم كامل، سألوني بالتفاصيل المملة، قلتلها كل شي وحكينا وكتبو شي عشرين صفحة. كتير صعب الواحد يتذكر، هون ما في مزح  بدو الواحد يضل مذكرهن مية بالمية لوقت المحكمة”. ويتابع “بس عالقليلة بالمعتقل كنت مطمش ومربطين ايدي ورجليي، اليوم الوضع مختلف هنن بالقفص ومكلبشين وانا برة، ما بعرف … شعور غريب”.

بعد ما قاله لؤي وجدتني أحاول أن أجرب شهادته، لم تكن ذكرى هاجمتني هذه المرة، بل قررت بتفكير واعٍ أن أحاول تلمس ما يقوله عن صعوبة استحضار الذكريات، عن إخبار الآخرين بذلك: “يتم شد اليدين إلى الخلف، وتقييدهما جيداً، في تلك اللحظة، تشعر وكأن يديك ستنفصلان عن جسدك في أي لحظة، يتم إجبارك على عدم الرؤية، تشعر باضطراب شديد. الظلام حالك، وأنت في أكثر الأماكن رعباً، تحرّك حدقتيك بتواتر عالٍ، كأنك تحاول أن تخترق قطعة الجلد تلك، وأن تبصر ما يحدث حولك، شكل الغرفة، عناصر الأمن، السجان، المحقق”.

النظر إلى الجلاد للتعرف عليه، أية معرفة؟

عملية التعرف إلى الجاني ترتبط بعالم داخلي نفسي معقد، غامض، تربط بين كل شاهد والمجرم نفسه. كيف تنظر الضحية إلى جلادها؟ وهل بالضرورة التعرف عليه بالبصر؟ صحيح أن عيون المعتقل والمعتقلة مطمشة، وممنوعة من الرؤية على الدوام في أقبية التعذيب لكن هل يدركون من هو المسؤول عن مصيرهم السفلي؟ حين طلبت القاضية من (لؤي) الالتفات نحو المتهمين والتأكيد على هويتهما، قال: “انا ما شفتن بالتحقيق كوني كنت مطمش كل الوقت”. 

“بعرفهن كتير منيح” 

دخلت لينا محمد إلى قاعة المحكمة، يربكها شعورها بحقيقة ما يحدث، وأنها اليوم إنسانة تملك الحق في أن تطالب بمحاكمة معذبيها. جلست أمام القضاة تحدق في وجوههم، على يمينها وفي غرفة زجاجية صغيرة، جلس جسد وآخر بجانبه، ينظران إليها: “بعرفون كتير منيح”، ثم أشاحت ببصرها عنهما، أخذت نفساً عميقاً ثم حبسته بصدرها، وهي تترقب بدء المحاكمة. 

رسم من جلسة المحاكمة لسلام الحسن

لينا محمد المعتقلة السابقة في فرع الخطيب، هي المرأة الأولى التي تظهر علناً لتدلي بشهادتها في المحكمة. عشرون دقيقة مرت قبل أن يُطلب من الشاهدة الدخول إلى قاعة المحكمة للإدلاء بشهادتها، فتحت المحامية الباب، سبقت لينا بخطوات، الجميع هنا، القضاة، الشهود، المحامون، النيابة العامة، والمتهمون: “وقت اخدوني على القصر العدلي بسوريا، كانت محكمة كمان بس الفرق وقت فتت على القاعة كان في قاضي قاعد على مكتب ادامو 7 فناجين قهوة وناس فايتة طالعة، يعني كل شي الا محكمة، بس بهاي المحكمة  كان في رهبة”، مشهد وصفته لينا كما لو أنها تمثل في فيلم من انتاج ضخم. تكمل ” بدك تحكي مع ناس مش سوريين وياخدو شو عم تقول بعين الاعتبار، لملمت حالي، وفتت”.

تجلس القاضية مقابل الشاهدة، وتتوجه بكلامها إليها “أنور رسلان قاعد على يمينك بين الحضور، فيكي تدلينا أي واحد هو؟”. تلتفت لينا نحو المتهم، ثوان فصلت بين حركة جسدها وانهيال ذكريات ما قضته في فرع الخطيب، مدت يدها بشكل مستقيم، فردتها بشدة، كما لو أنها تصيده بيدها، ترص قدميها باتجاه الاسفل، في محاولة لمجابهة الماض بثبات حضورها، إلى أن ابتسم، ابتسم لها، ابتسامة المجرم الماكرة، سلاحه الضعيف ليذكر الناجية بما كان له من سلطة عليها، فما كان منها إلا أن ترد عليه بحركة ثابتة تلجمه بيدها، وتؤكد جرمه: “طلع انور رسلان بخلقتي، مرق كل شي متل شريط بشه يلي بطلع للواحد قبل ما يموت، كل التفاصيل مرقت قدامي، طلعت فيه وقلت للقاضية اي بعرفو”.

لكن ماذا عني؟ هل أعرف سجاني إن قابلته؟ تبدو فكرة المشاهدة بالعين أمراً سطحيّاً، وربما قانونياً بحتاً، كنت أعرف عنه ما هم أعمق، أعرف يديه. كان يضرب رأسي ووجهي بين الحين والآخر، يضع المحقق يده على رأسي والأخرى على كتفي، كنت أشعر بخاتم غليظ يحفر جمجمتي حين يضغط بشدة، صوته قريب جداً من أذني، عيناي ما زالتا تحاولان أن تبصرا شكل هذا الرجل. تهدأ حركة حدقتي، وتغرقا في السواد. أعرف الجاني أم لا أعرفه ؟

خطاب المتهم

“بس أنا انشقيت، ومو بس هيك صرت فاعل وناشط بالمعارضة ودعم المظاهرات السلمية، وساعدت كثيرين ليخرجوا من المعتقلات”.

يتناوب خطاب المتهم بين مستويين يبدو أنه حددهما بدقة، المستوى الأول هو ما يحاول أن يقدمه من معلومات يعرفها عن بنية النظام المخابراتي. وهنا يقوم بدور المتعاون، بل والمفيد للسلطات الألمانية، وهو يقدم هذا المستوى للحصول على المستوى الثاني، وهي محاولته خلق حكاية متماسكة تبعده ذاتيّاً كلما اقتربت الشهادات من دوره، فما كان منه إلا أن يشكك أكثر بمقولاتها. 

“كنت مجرد موظف بنظام أكبر مني، مثل الأيد يلي بس بتنفذ الأوامر، النظام الإداري المخابراتي بيبلع الكل. الحرس الجمهوري هو المسؤول عن يلي صار. وأكتر من مرة، خصوصاً وقت مظاهرات الحولة، اعترضت على أفعالهم، حتى أخليت سبيل بعض المعتقلين دون مذكرة. ومن وقتها بدأوا يهددوني بوضوح، وجردوني من كل الصلاحيات. صرت مجرد كاتب للملخصات والمذكرات عن الاستجوابات يلي بيعملها المحققين. كنت أكتب محضر واحد عن كل التحقيقات، وأوصيت بإخلاء سبيل المتظاهرين السلميين أو من لم يتظاهروا”.

وعن خطاب المتهم والنظام البيروقراطي ومكننة التعذيب، يقول الكاتب السوري عمار المأمون: “هناك مهارات تأليف لدى العاملين في أفرع الأمن ترتبط بتسرب هذه الوثائق وضمان غياب أدلة رسمية على العنف الممنهج، لكنها مفهومة لفئة محددة ضمن هرمية النظام، وكأن كل وثيقة تملك معنيين، لغوي تتطابق فيه الكلمات مع معانيها، وآخر خفيّ، يدركه المضطلعون بأسلوب عمل هذه الهرمية، ليظهر التعذيب بوصفه أوامر شفهيّة، لا يمكن تتبعها، إذ لا وثائق عنه، أوامر لفظية فقط، وهنا نفهم لم وضع شكل التقرير الطبي الرسمي في الشهادة، في تهديد لمصداقيّة الورقي والمكتوب على حساب الشفهي والمسموع، في ذات الوقت عدم تحديد مسؤولية من قام بذلك بدقة، بل تحميلها للـفرع”، وكما عُرف سابقاً، أسباب الموت دائماً هي  توقف القلب والتنفس”.

ما الفارق بين النظام البيروقراطي الورقي أو الشفاهي الذي كان يخدم فيه رسلان، وبين نظام المحكمة الألمانية الذي يجري أمامنا مبنياً على سلطة الأوراق والوثائق والهرمية الإدارية؟

برأيي عمار المأمون، المتهم رسلان يملك الخبرة. في الماضي السوري كان بهلوان الأوراق الإدارية، وهذه المهارة تمنحه القوة أيضاً في التعامل مع المحكمة الألمانية. يتحدث بإسهاب عن بنية النظام السوري الهرمية الإدارية، لكن ما أن تصل الشهادات إليه يجعل من الاتهامات الموجهة إليه عاطفية أو غير متماسكة. هو يملك خبرة الدقة، يكثر في كلامه توظيف تواريخ وأسماء تجعل شهادة المتهمين لا تتطابق مع سير الأحداث الحقيقية حسب ادّعائه، موظفاً شهوداً آخرين منشقين أو معارضين في محاولة لتدعيم حكاياته.

إذاً، هي خبرة التعامل التلاعب بالوثائق والأدلة، لكني ما زلت أشعر بكل ذلك، ما زلت أشعر برأسي يرتطم أرضاً، عاجز عن الحركة، حيز عصابة عيني لا تبدي إلا ممراً طويلاً وأقداماً ساكنة. أذكر وقوفي الطويل، الخارج عن الزمن في درجة الحرارة الباردة. سمعت قدمين تقتربان نحوي وصوتاً يصيح: “وجك ع الحيط”، رفعني من شعري، ومن ثم أمسكت بي يدان من الكتف وراحتا تقذفاني إلى الحائط، سمعت طقطقة عظام أنفي، كانت حقيقية أكثر من أية وثيقة أمتلكها الآن.

كلما تضاربت عليّ المعلومات، الشهادات، الحقائق، والحكايات، كنت أبحث بنظري في القاعة عن الصحافيّة (لونا وطفة)، التي اعتقلت أيضاً في فرع أمن منطقة الخطيب. هي الصحافية السورية الوحيدة التي توثق كل جلسات محاكمة كوبلنز. تحدق بصمت في الشاهد الذي يروي بتفاصيل دقيقة ما تعرض له من تعذيب على يد رجال الأمن التابعين للنظام السوري، تضغط على القلم الذي حفر نفسه بقوة على الدفتر، تشد كتفيها، وتكتب، متجاهلة التصاق ذكرى ما حدث معها في تفاصيل حكايات الشهود.

تنصت (لونا) باهتمام دقيق لأسلوب الشاهد في رواية حكايته، يتحدث بهدوء مع ابتسامة واثقة. كانت عباراته واضحة كما لو أنه يروي حكاية جرت لشخص آخر. يصمت بين الفينة والأخرى، في محاولة للتوازن بين العالم الذي يروي عنه في الماضي، والعالم الحاضر الآن أمامه في قاعة المحكمة. كلما صعب عليه الأمر كان يسود صمت مطبق في القاعة يصيب الجميع. فطلبت القاضية استراحة،  بدا أن ما قاله الشاهد أثقل عليها أكثر مما أرهق الشاهد نفسه، المضطر إلى استعادة ماضيه: “عم الصمت كل القاعة مش بس القضاة، الكل صمت، زوجة الشاهد موجودة كمان عم تبكي مع الموجودين، هو بكي كمان، يلي صار بهاي الجلسة ما فيني اوصفه”. تعلق لونا، التي رحت أشعر بأن ما يجمع بيني وبينها هو الدليل الأعمق الذي تحتاجه أي محكمة لتثبت حقيقة أعمق من الأوراق والأدلة. إن التفاعل بين ذاكرتي وذاكرتها هو الدليل الأعمق للحقيقة. لم نتحدث عن ذلك مباشرة، لكني أدركت أن ذاكرتنا هي الدليل الذي يسمح لي بإكمال المحاكمات، الشهادات، الحكايات والحكايات المعاكسة، بثبات.

الشهادة التي تغير التاريخ

مع كل شاهد أو شاهدة جديدة، كنت أتساءل إن أصبحت أكثر قدرة على سرد حكايتي: “في ذلك اليوم، فُتح باب الزنزانة، وتم جرّي مغمض العينين مكبّل اليدين إلى غرفة التحقيق، وهناك حمّلوني غربة كنت أتجاهلها ضمنياً، قالولي “هاي مو بلدك، بتحبّ نرجع نزتّك على الحدود”. كان طريق العودة إلى الزوايا الأربع طويلاً وبارداً وأكثر سواداً، ارتطمتُ خلاله بأجساد مكبّلة ومبعثرة على أطراف الممر الطويل، وبين الأنفاس المتقطّعة لمن هم خلف الأبواب بعد عودتهم من جلسات التعذيب. التعذيب ذاته تعرّض له الآلاف من المدنيين السلميين، والكثير من أصدقائي.

لكن لا بدّ من شهادة تحرك الراكد الفاسد وتكشف المسكوت عنه. فالشهادات المنهكة، والمتعبة، والمدمرة، قد تغير التاريخ. ماذا لو صمت جميع الشهود وفضلوا عدم عيش تجربة الاستعادة والاستحضار لتجارب قاسية من ماضيهم؟ لابد من شهادة أن تشق مساراً جديداً، كما حدث هذا العام في الرابع من حزيران الفائت حين أدلى المحامي (أنور البني) بالشهادة الأولى. استمرت شهادته قرابة الست ساعات، روى فيها عن سنوات اعتقاله الخمسة حتى خروجه في العام 2011، وهجرته إلى أوروبا. لم تمض ثلاثة أشهر على الشهادة الأولى، حتى ظهرت في 16 أيلول شهادة أخرى، هذه المرة للمحامي ومدير المركز السوري للاعلام وحرية التعبير، مازن درويش، الذي قدم شهادته عن سنوات اعتقاله الأربعة بين أعوام 2011-2015. ومن ثم تتالت الشهادات حول الجرائم المسكوت عنها.

لا تملك شهادتي أهمية قانونية في محاكمات كوبلنز الحالية مع مدير أمن فرع منطقة الخطيب. لكنّني، وبتاريخ اليوم، أقدم نصي هذا، ليس كشهادة لإقناع الآخرين أو كدليل للقضاء، بل كمحاولة لأسرد لنفسي ما حدث معها في المنفردة في فرع المخابرات الجوية العسكرية، فأكون شاهداً أمامي، من هنا، في مواجهة مع الذات الهاربة من التذكر.

شارك في تحرير المادة علاء رشيدي