fbpx

غضب داخل “النهضة” التونسية : هل قرر الغنوشي أن يكون “أميراً” مدى الحياة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

واقع الحال والأفعال كشف ميلاً فطرياً لمبدأ الشورى التي تسمح للزعيم والمرشد بإملاء قراراته على المحيطين به، بحيث يعدّ كل اعتراض عصياناً، فيبقى الزعيم في منصبه إلى أن يموت.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ارتفع منسوب الخلافات الداخلية في “حركة النهضة” خلال الفترة الأخيرة، وتجاوز أسوارها ووصل إلى العلن في مؤشر إلى نهاية العمل بالقاعدة السائدة داخل الحركة، والقاضية بعدم تسريب ما يحصل من انقسامات وصراعات إلى خارج الحزب. 

هذه القاعدة كانت نجحت لسنوات، لكنها يبدو أنها لم تعد ناجعة بعد الآن. ولئن تعددت الخلافات سابقاً داخل الحركة، إلا أنها ظلت في معظم الأوقات بعيدة من أعين المتابعين، لكنها اليوم لم تعد خافية في ظل ظهور أكثر من مؤشر. ولا يبدو أن الخلافات الأخيرة تشبه غيرها لأن محورها شائك ومعقد وعلى صلة مباشرة بالزعامة “الأبدية” لراشد الغنوشي على رأس الحركة، والتي تتعارض مع المبادئ والقوانين الداخلية. وهو معطى بات يربك الحزب الإسلامي في تونس ويفاقم الانقسامات، وقد تمخضت عنه استقالة أحد أبرز قياديي الحركة لطفي زيتون. 

لطفي زيتون وراشد الغنوشي

وأعلن زيتون استقالته من مجلس شورى الحركة، أعلى مؤسسة في الهيكلة التنظيمية للحركة الإسلامية في تونس، بعد أيام من استقالته من منصب المستشار السياسي لزعيم “حركة النهضة”. خطوة حملت معها تكهنات بأن الحركة لم تعد قادرة على استيعاب مشكلاتها الداخلية كما دأبت على ذلك على مدار السنوات العشر التي أمضتها في الحكم. ولهذه التصورات ما يبررها نظراً إلى قيمة الرجل داخل الحركة، إذ يلقّب بصندوق أسرار الغنوشي ورفيقه لسنوات طويلة.

وزيتون رافق الغنوشي منذ لجوئه إلى الجزائر عام 1990 بعد صراعات مع السلطة في تونس وحتى السفر إلى بريطانيا، حيث عمل رئيساً لمكتبه وكاتبه الخاص، كما عُيّن وزيراً في أول حكومة شاركت فيها “النهضة”، بعد الثورة، ثم وزيراً للنقل في حكومة إلياس الفخفاخ المستقيلة منذ أشهر وباقتراح من الغنوشي.

ونظراً إلى الموقع الذي يحتله زيتون داخل الحركة وبالنسبة إلى زعيمها، فإن استقالته اكتسبت أهمية بالغة وحملت تأويلات كثيرة، لا سيما أنها تتزامن مع ما بات يتردد علناً عن الخلافات الداخلية في الحزب الإسلامي، وظهور أصوات من داخله تعترض على بقاء الغنوشي على رأس الحركة، بل إن الأمر بلغ حد تهديد ما يعرف بـ”مجموعة المائة” بالتوجه إلى القضاء في حال إصرار الغنوشي على الترشح مرة أخرى لرئاسة الحركة.

من جهة أخرى، تبدو هذه الاستقالة عنواناً لواقع غير مستقر داخل الحركة لأن خطوات كهذه، ليس من السهل الإقدام عليها داخل الأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية على غرار “حركة النهضة”، فذلك يعني الخروج عن الجماعة ونسف قواعد التماسك والانضباط المفروضة سلفاً داخلها. وبالتالي، استقالة قيادي بارز ليست حدثاً عابراً. 

“الغنوشي يعتبر نفسه أميراً أو شيخاً، أكبر من القوانين والديموقراطية. وهذه إحدى مآسي الفكر السياسي التقليدي في ثقافتنا”

زيتون الذي لم يترك خروجه يمضي هادئاً، أوضح لأكثر من وسيلة إعلامية محلية وأجنبية أنه أقدم على الاستقالة بعدما اكتشف بعد 10 سنوات من الثورة والمشاركة في الحكم أن حزبه لم يتجرد من مرجعياته الدينية كما ادعى الغنوشي في مؤتمر الحركة الأخير (2016) والذي أعلن فيه تخلصها من إرثها الإخواني وتحولها إلى حزب مدني يؤمن بالديموقراطية. 

وقال زيتون: “إن الصراع داخل الحركة لا يزال دينياً، لقد اتفق قياديو الحزب منذ المؤتمر العاشر على إخراج الدين من السياسة وفصل الدعوي عن السياسي لأن الدين ملك الجميع، لكن اليوم أصبحنا في النهضة نستعمل الآيات ونستدعي الأحاديث في سياق خلاف حول موقع شخص داخل الحركة”. في إشارة إلى موقع الغنوشي على رأس الحركة. كما تحدث عن الأخطاء التي ارتكبها حزبه منها الإطاحة بالفخفاخ الذي تمسكت النهضة باستقالته بذريعة تضارب المصالح، والواقع أن مرد ذلك عدم خضوعه لسياستها كما جرت العادة مع معظم الذين تولوا منصبه بما في ذلك رئيس الحكومة الحالي هشام المشيشي.

مأزق “النهضة”

يقول الناشط السياسي والناطق السابق باسم رئاسة الجمهورية عدنان منصر لـ”درج” تعليقاً على هذه الاستقالة: “على رغم أن زيتون قدم استقالته في سياق مختلف عن سياق “رسالة المائة” فإن تلك الاستقالة ليست بعيدة تماماً في منطقها من الإشارة إلى المأزق الكبير الذي تمر به النهضة عشية مؤتمرها المقبل. لكن هذه الأزمة في نظري تقليدية بالنسبة إلى حركة مثل النهضة وبتاريخها، بل لعلها تأخرت كثيراً في التعبير عن نفسها. هي تقليدية من منطلق أن المرور من فترة الملاحقة والقمع والسرية إلى فترة الحكم لا يمكن أن يتم بالسلاسة المأمولة دائماً. كما أن هذه الحركات ذات المنشأ التقليدي والصبغة التقليدية تختلط فيها المؤسسات بدور الأشخاص، والسياسة بالعائلة، والنضال بالموقع الرسمي، وبالتالي لا يمكن أن تنجو من التطور الحتمي نحو أحزاب تتحكم في مقدراتها ومصيرها طغمة سياسية عائلية تنجح شيئاً فشيئاً في الانتقال بمشروع الجماعة إلى مشروع الطغمة”. 

ويضيف: “هناك خط انتهازي تطور بصفة خاصة منذ 2013، وهذا الخط نجح في فرض توجهاته على ما يسمى “مؤسسات الحركة”، وهذا الخط هو الذي يفشِل منذ ذلك الوقت أي محاولة للإصلاح والتقييم، وهو بالتالي الخط ذاته الذي أصبح يلعب بوضوح ورقة إبعاد المشاكسين والمتمردين على الزعامة التاريخية داخل الحركة ويغلق الفضاءات أمامهم ويدفعهم للاستقواء عليه بالرأي العام”.

وتجدر الإشارة إلى أن استقالة زيتون تضاف إلى سلسلة استقالات سابقة لقيادات في الحركة على غرار عبد الحميد الجلاصي، محمد بن سالم، زبير الشهودي، آمنة الدريدي وغيرهم.

الخلافات حول زعامة الحزب أثبت تناقض مواقف الغنوشي الذي لطالما حاول مغازلة الرأي العام المحلي والدولي بشأن تخلص حزبه من موروث ديني راديكالي، وأنه انخرط في أجواء مدنية تؤمن بالحقوق والحريات والتداول على السلطة.

ومهما تعددت الأسباب التي ذكرها زيتون فإن المعطى الأبرز والذي يرجحه معظم المتابعين هو رغبة الغنوشي في البقاء زعيماً دائماً للحركة، فيعبد قياديون محسوبون عليه الطريق لتحقيق ذلك، على رغم تعارضه مع القوانين الداخلية للحزب واعتراض كثيرين.  

فمن أجل الوصول إلى هذا الهدف تقدم القياديان المحسوبان على راشد الغنوشي، رفيق عبد السلام (صهر الغنوشي) وعبد الكريم الهاروني منذ فترة قصيرة برسالة داخلية إلى الحركة، بمبادرة تحمل عنوان ”من أجل مؤتمر توافقي يجدد مشروع النهضة ويحقق التداول القيادي”. وتضمنت تأجيل انعقاد المؤتمر المزمع عقده نهاية السنة الحالية لمدة تتراوح بين سنة ونصف السنة إلى سنتين، من تاريخ التوافق بشأنه، وهو ما يعني بقاء الغنوشي على رأس الحركة عامين آخرين.

كما دعت المبادرة إلى الفصل بين رئاسة الحركة والترشح للمناصب العليا في الدولة بعد انتخابات 2022، والإعلان رسمياً في المؤتمر المقبل أن زعيم الحزب هو المرشح الرسمي  للمناصب السيادية في الدولة. بمعنى أن الغنوشي هو الشخصية الوحيدة داخل الحركة المعنية بالترشح إلى المناصب السيادية، على رغم معارضة كثيرين داخل الحركة.

لكن الغنوشي الحالم بالزعامة الأبدية تيمناً بالقواعد المنظمة للأحزاب والجماعات المحكومة بمرجعيات دينية، اتخذ نهجاً تصعيدياً واعتبر أن أصحاب الرسالة يريدون فرض وصايتهم على المؤتمر “بشروط إقصائية مسبقة لا ديموقراطية في سبيل استبعاد زعيم الحركة”. 

وبلهجة أشبه بالتحدي وتأكيد أنه باقٍ مهما كانت الاعتراضات رد الغنوشي “الزعماء جلودهم خشنة، يتحملون الصدمات، ويستوعبون تقلبات الزمان ويقاومون عامل التهرئة”. هذا الموقف يناقض النظام الداخلي لـ”حركة النهضة” الذي ينص على أنه “لا يحق لأي عضو أن يتولى رئاسة الحركة أكثر من دورتين متتاليتين”.

الخلافات حول زعامة الحزب أثبت تناقض مواقف الغنوشي الذي لطالما حاول مغازلة الرأي العام المحلي والدولي بشأن تخلص حزبه من موروث ديني راديكالي، وأنه انخرط في أجواء مدنية تؤمن بالحقوق والحريات والتداول على السلطة. واقع الحال والأفعال كشف ميلاً فطرياً لمبدأ الشورى التي تسمح للزعيم والمرشد بإملاء قراراته على المحيطين به، بحيث يعدّ كل اعتراض عصياناً، فيبقى الزعيم في منصبه إلى أن يموت.

الناشط السياسي عدنان منصر يرى أن النهضة تبقى حركة تقليدية تنظيمياً، وكذلك على مستوى الأفكار والقناعات. ويقول: “هنا يتعلق الأمر بتنظيم عصري، بمعنى الحزب، لمجموعة التقت في الأصل حول مفهوم الجماعة التقليدي ذي الصبغة الدينية. العمل التنظيمي بحسب طريقة عمل هذه الأحزاب هو مجرد محسنات بديعية، لأن النهضة لم تفارق منطق الجماعة أبداً، وأكبر ممثل ومدافع عن هذا المنطق هو الغنوشي بالذات. ما يسمى بالمؤسسات في النهضة هو مجرد محسنات شكلية، لأن شيخ الحركة يفرض في كل منعرج سلوكه على تلك المؤسسات”.

“الغنوشي يعتبر نفسه أميراً أو شيخاً، أكبر من القوانين والديموقراطية. وهذه إحدى مآسي الفكر السياسي التقليدي في ثقافتنا”، يضيف منصر.

ويبدو مريباً كيف يتمسك الغنوشي بالزعامة ويتطلع حتى للترشح في السنوات المقبلة لمنصب رئيس الجمهورية، فيما تضعه استطلاعات رأي حديثة على رأس قائمة أسوأ السياسيين. وفي استطلاع للرأي أجراه معهد “أمرود” خلال شهر أيلول/ سبتمبر الماضي اعتبر 86 في المئة من التونسيين المشاركين أن الغنوشي أكثر شخصية سياسية في البلاد لا يثقون بها ولا يتطلعون لأن تلعب أي دور سياسي في تونس فضلاً عن عدم قناعتهم بأدائه في رئاسة البرلمان.