fbpx

لبنان: الطبقة الوسطى وترف أن تشتري عجلةً أو جوربين أو حبة “مانغو”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

فيما تعدّ سيّدة الليرات التي بحوزتها لتتأكد إن كانت تكفي لشراء ثلاثة سراويل كحلية لأطفالها من أجل المدرسة، يحنّ التاجر قليلاً على حالها ويقول: “بلا حقّهن يا مدام”. تبتسم ابتسامة مقهورة، ثمّ تعطيه 300 ألف ليرة، ربما هي كل ما تملكه…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ستقف كثيراً أمام عجلات سيارتك التي تحتاج إلى تغيير ملحّ. ستفكّر بطريقة ما لتمضية الشتاء من دون تبديلها، سيخطر لك أن بإمكانك اختصار المشاوير البعيدة والقيادة على مهل، أو الذهاب إلى عملك على قدميك، المطر ليس مشكلة كبيرة، ستقول لنفسك. لعلّك إذا انتظرت وصبرت، تتراجع الأسعار قليلاً، في مرحلة مقبلة. ستربط تغيير عجلات سيارتك بالحكومة المعطّلة وسترجو أن تتشكّل سريعاً، لعلّ جنون الدولار يهدأ وتحصل على نعمة تغيير العجلات المتعبة مثلك.

ستسأل محلات كثيرة وسيختلف السعر، لكنّ كل ما ستسمعه من أرقام سيكون صادماً، ستكلّفك العجلات مثلاً مليوني ليرة  (حوالي 300 دولار) أو أكثر، وهو مبلغ قد يساوي مدخولك أو يتجاوزه.

من الاحتجاجات ضد الازمة المعيشية

في محل الخضار، تشاجرَت سيّدة مع ابنتها، اقتربتُ بدافع الفضول لأفهم، الفتاة اشتهت حبة “مانغو”. تقول لأمها: “كل مرّة بتقوليلي بعدين”. سعر كيلو المانغو الذي لا يتجاوز الحبتين أو الثلاث، 13 ألف ليرة لبنانية، وهو وفق صرف الدولار الآن لا يتجاوز الدولارين. لكنّ مداخيل الاكثرية الساحقة من المواطنين ما زالت وفق تسعيرة الدولار القديمة (1500 ليرة للدولار الواحد)، ما يجعل شراء حبة مانغو ترفاً لا تملك العائلات متوسطة الحال، سبيلاً إليه. فالحدّ الأدنى للأجور ما زال 675 ألف ليرة، فيما الدولار يبلغ نحو 7500 ليرة في السوق السوداء، ما يعني أن الحدّ الأدنى هذا أصبح أقل من 100 دولار.

في محل بياضات قريب من منزلي، حُذفت الأسعار القديمة عن البيجامات التي سبق أن رأيتها في سنوات سابقة، ولم يكن سعر الواحدة يتجاوز الـ30 ألف ليرة. كُتب مكان السعر المشطوب بقلم أسود، 80 ألف ليرة و75 ألف ليرة على قطع أخرى. وفي محل آخر كنت زرته لشراء هدية لصديقة، أصبح سعر البيجاما 700 ألف ليرة، بعدما كانت في سنوات سابقة لا تتعدّى المئة ألف ليرة.

على رف الجوارب أيضاً السيناريو ذاته، سعر قديم مشطوب، لكنه ما زال يظهر قليلاً. كان سعر الجوربين 4000 ليرة، أصبح الآن 20 ألف ليرة. وبذلك أصبح شراء الجوارب ترفاً آخر يحتاج إلى ميزانية حقيقية لا سيما بالنسبة إلى العائلات. فعائلة من 5 أشخاص تحتاج إلى 600 ألف ليرة لشراء 6 أزواج لكل فرد لتمضية الشتاء! مع العلم أن عائلات كثيرة لا يتعدى مدخولها الشهري 600 ألف ليرة.

عائلة من 5 أشخاص تحتاج إلى 600 ألف ليرة لشراء 6 أزواج لكل فرد لتمضية الشتاء! مع العلم أن عائلات كثيرة لا يتعدى مدخولها الشهري 600 ألف لير

نمو سلبي ومؤسسات تقفل أبوابها

النمو الاقتصادي في لبنان انخفض تدريجاً من 10.5 في المئة عام 2008 إلى نحو 0.9 في المئة عام 2011 ليقارب الـ0 في المئة عام 2019، ومن المتوقع أن يكون سلبياً عام 2020 بانكماش قدره صندوق النقد بـ25 في المئة. وفي دراسة أجرتها منظمة العمل الدولية في الربيع الماضي وجدت أن 50 في المئة من المؤسسات التجارية المشمولة بالبحث اقفلت جزئياً، بينما 59 في المئة منها اوقفت التوظيف، لربما اصبح الوضع اسوأ بعد انفجار المرفأ.

وسجّل إجمالي الاستيراد حتى تاريخ تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 مبلغاً وقدره 17894 مليون دولار أميركي وفق وزارة المالية. فلبنان يستورد جميع احتياجاته تقريباً بما في ذلك الاحتياجات الرئيسية. ويتوزّع ما تبقى من الاستيراد بين احتياجات ومنتجات أخرى مثل التغذية (منتجات الألبان والنشاء والطحين وغيرها، والزيوت والألومنيوم والحديد والأثاث والورق والأجهزة الطبية ومنتجات السيراميك والأخشاب).

كما تراجعت قيمة الصادرات بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. فبعدما وصلت إلى نحو 4.5 مليار دولار عام 2012 عادت لتتراجع إلى 3.3 مليار عام 2014 وإلى 2.9 مليار دولار عام 2019، وفق أرقام كشفتها لمياء المبيّض بساط رئيسة “معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي”.

العجز في الميزان التجاري توسّع أيضاً في السنوات الأخيرة مع ارتفاع وتيرة الاستيراد وضعف الصادرات اللبنانية، التي لم تعد تغطّي 16 في المئة من مجموع الاستيراد في حين كانت هذه النسبة تتخطى 23 في المئة عام 2007. وكل ارتفاع في حجم الاستيراد مقابل تقلّص الانتاج المحلّي، تقابله بطبيعة الحال أسعار نارية في السلع كونها ترتبط بسعر الدولار الذي لا مؤشرات حتى الآن بإمكان استقراره على سعر واحد، مع استمرار الأجور على ما هي عليه على رغم ارتفاع أسعار السلع 5 أضعاف أحياناً.

العجز التجاري كان على مدى السنوات العشر الماضية (2010 – 2019) يراوح بين 20 و25 في المئة، وبلغ 14.5 مليار دولار عام 2019. ويمكن تخيّل ما ستكشفه أرقام عام 2020 الذي شارف على الانتهاء، والذي كان عام الانهيار المالي والمصرفي والاقتصادي، إضافة إلى البطالة التي ناطحت الـ50 في المئة.

وفيما تعدّ سيّدة الليرات التي بحوزتها لتتأكد إن كانت تكفي لشراء ثلاثة سراويل كحلية لأطفالها من أجل المدرسة، يحنّ التاجر قليلاً على حالها ويقول: “بلا حقّهن يا مدام”. تبتسم ابتسامة مقهورة، ثمّ تعطيه 300 ألف ليرة، ربما هي كل ما تملكه، تشكره، تمسك أيدي أطفالها الذين يحملون أكياسهم بفرح، يشدّون الكمامات على وجوههم، ويخرجون بانتظار سيارة أجرة.

“الدولاب بـ50 دولاراً”، يقول صاحب المحل. يأخذ العجوز نفساً عميقاً ثمّ يسأل: “يعني قدي باللبناني؟”. يفتح صاحب المحل هاتفه لاحتساب السعر وفق الصرف اليومي للدولار، وفيما ما زال مركّزاً في هاتفه، يغادر العجوز خائباً، من دون أن يسمع جواباً على سؤاله.

بحسب تقديرات “الإسكوا”، تضاعفت نسبة الفقراء من السكان لتصل إلى 55 في المئة عام 2020 بعدما كانت 28 في المئة عام 2019، وارتفعت نسبة الذين يعانون من الفقر المدقع ثلاثة أضعاف، من 8 إلى 23 في المئة في الفترة نفسها. وبذلك قد يصبح سروال مدرسيّ أو جوارب رفاهية بالنسبة إلى الموظفين وأصحاب الدخل المحدود وحتى جزء من أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الذين يعاني كثر منهم من صعوبات مادية، وصلت أحياناً إلى الإفلاس أو إقفال مؤسساتهم. وحذّرت منظمة “الفاو” من المجاعة المحدقة في لبنان أسوة بدول أخرى، وتحدّثت عن مليون شخص مهددين بالجوع.

هذا فيما يتهدّد خطر “كورونا” المزيد من المؤسسات والوظائف مع الإقفال الجزئي تارةً والكامل طوراً، فيما لا يتمّ التعويض على المواطنين أو أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، مقابل خسائر فادحة يتقاضونها. فقرارات التعبئة العامة والحجر الصحي التي تتخذها الدولة اللبنانية لا تتضمّن أي مراعاة لأوضاع الفقراء ومتوسطي الحال.

“الدولاب بـ50 دولاراً”، يقول صاحب المحل. يأخذ العجوز نفساً عميقاً ثمّ يسأل: “يعني قدي باللبناني؟”. يفتح صاحب المحل هاتفه لاحتساب السعر وفق الصرف اليومي للدولار، وفيما ما زال مركّزاً في هاتفه، يغادر العجوز خائباً، من دون أن يسمع جواباً على سؤاله.