fbpx

لبنان: “عبادة الشيطان” تهمة لمعاقبة واضعي الأقراط والمختلفين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“أذكر كيف حمّلتني أمي مسبحة فيها صورة السيدة العذراء، وزوّدتني بصور قديسين ليحموني، أو ربما لأبدو مسيحياً صالحاً”… غالباً ما تكون تهمة “عبادة الشيطان” جاهزة لكل من يضع قرطاً أو يسمع موسيقى “روك أند رول” في لبنان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“هل تمتلك جهاز كومبيوتر في بيتك؟”، و”أي شيطان تعبد؟”… أسئلة عادت إلى ذهن إيلي كلداني، وهو ناشط لبناني، وهو يتابع انباء توقيف القوى الأمنية في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، شباباً في بلدة صفريه، جنوب لبنان، بتهمة “عبادة الشيطان”. حصل الأمر نفسه مع ايلي ومجموعة من اصدقائه.

يروي إيلي أنه كان في سنته الدراسية الأخيرة حين ألقت قوى الأمن القبض عليه، في أوج موجة انتشار الحديث عن هذه الحركة في لبنان عام 2003، بسبب شكله “المختلف” حينها، إذ كان يضع قرطين في أذنيه وكانت لحيته طويلة، وكان مع أصدقائه يفضلون موسيقى “الميتال” الصاخبة. 

يقول إيلي إن توقيفه، مع 4 شبّان من أصدقائه، تزامن مع وصول الإنترنت إلى القرية. يتذكّر أن التوقيف كان مفاجئاً وسخيفاً، إذ رمى عناصر قوى الأمن التهمة عليه وبدأوا طرح أسئلة مُضحكة. واستمر التحقيق لثلاثة أيام متتالية ولم تتوقف أسئلة العناصر التي تدلّ على جهلهم بمفهوم “عبدة الشيطان”، مع غياب أي دليل على تورط المراهقين في أي جماعة. يقول إيلي إن اثنين من أصدقائه كانا مسيحيين مؤمنين، يمارسان شعائرهما الدينية بانتظام، وأحدهما كان نقش صليباً على ساعده.

حتى إيلي، يذكر تلك الليلة التي ترجّل فيها إلى مخفر القرية لمواجهة تهمته، فيقول، “أذكر كيف حمّلتني أمي مسبحة فيها صورة السيدة العذراء، وزوّدتني بصور قديسين ليحموني، أو ربما لأبدو مسيحياً صالحاً”.

17 سنة مرّت، والسيناريو لا يزال يتكرّر في لبنان بين حين وآخر. فقد عاد التخويف بما يسمى بـ “عبدة الشيطان” إلى لبنان، هذه المرة ليس بمعية وزير الداخلية السابق الياس المرّ الذي جنّد وزارته عام 2003 لاعتقال مجموعة محبّي موسيقى الروك، على اعتبار أنهم ينتمون إلى “عبدة الشيطان”، بل عبر مدير المركز الكاثوليكي للإعلام، الأب عبدو أبو كسم.

غاب الوزير هذه المرة، لكن حضر أبو كسم للوقوف في وجه الشيطان و”عبدته”، إذ تحرّكت القوى الأمنية واقتحمت حفلاً أُقيم داخل قصر مهجور في البلدة، لصاحبه مايك نصّار، بحجة أنه “حفل لعبادة الشيطان”، وأوقفت المحتفلون والمحتفلات وتم التحقيق معهم، ثم فتح تحقيق لمعرفة ملابسات القضية، بعد إطلاق سراحهم، وفق ما أكّدت مصادر من البلدية لـ”درج”.

التوقيف أتى بناءً على طلب أبو كسم بصفته “المسؤول عن خدمة الكنيسة في صفريه”، بعدما “تلقى اتصالاً من رئيس البلدية حبيب ضاهر، الذي أعلمه بوجود “حركة غريبة في أحد قصور البلدة”. فقد صرّح الأخير لوسائل إعلامية محلية أن “المشاركين كانوا يقيمون قداساً أسود ويرتدون أقنعة على وجوههم ويرقصون بطريقة غريبة في القصر بالقرب من الكنيسة وهذا الأمر مرفوض”. في المقابل، قال مشاركون في الاحتفال إن هذا الحفل كان لمناسبة عيد “هالوين”، وإنهم يقومون بتصوير هذا المقطع من أجل عملٍ جامعي، وفق ما صرّح به أبو كسم.  

فيما أكّد أنهم “ليسوا من أبناء القرية بل من منطقة صيدا وضواحيها، لأن شباب القرية هم أبناء الكنيسة ومسالمون ولا علاقة لهم بأمور كهذه”.

تُعيدنا هذه الحادثة إلى سلسلة حوادث مشابهة مرتبطة بـ”عبدة الشيطان” وهو توصيف انتشر في لبنان منذ مطلع التسعينات، لتعود التهمة كل فترة إلى الواجهة كتهمةٍ جاهزة لأي مجموعة تنطبق عليها صفات معينة، كطول الشعر للرجال، والأقراط والوشوم والملابس السود، وقد تكون موسيقى الـ”روك أند رول” أو الـ”ميتال” مادة دسمة لإثبات التهمة أيضاً.  

وعند الحديث عن هذا الملف، يعود إلى الذاكرة توقيف الياس المرّ، وزير الداخلية اللبناني عام 2000، 50 شخصاً بالتهمة نفسها. كما “كشف” في أواخر عام 1995 عن توقيف مروجين لأشرطة وأسطوانات ممغنطة في مطار بيروت لموسيقى صاخبة.

وانتشر في عهده خبر غزو مجموعة من جماعة “عبدة الشيطان” مقابر العاصمة بيروت، حيث عمدوا إلى “نبش القبور وتشويه الجثث والقيام بممارسات شاذة مع الموتى حديثي الوفاة”، كما ورد في مواقع صحافية آنذاك تبين لاحقاً أنها لا تمت الى الحقيقة بصلة.

من هم “عبدة الشيطان”؟

تختلف المصادر على تحديد أول ظهور لـ”عبدة الشيطان” في العالم، فهناك مصادر تقول إن هذا المفهوم ظهر في أوروبا في القرون الوسطى، ويرجّح أن الشكل التنظيمي لـ”عبادة الشيطان” لم يظهر إلا مع انطوان لافي، وهو مؤسس حركة “عبدة الشيطان” في العالم عام 1966، إذ إنه أظهر الشيطان كرمز للقيم الأرضية، وله كتب في هذا المجال أشهرها “الإنجيل الشيطاني” و”الطقوس الشيطانية”.
وعرف عن هذه الجماعة أنها تمجّد السحر وتقدّس الشيطان بأساليب كثيرة، أبرزها موسيقى “البلاك ميتل” و”الهيفي ميتل”، التي تدور مضامينها حول “شتم الإله ومناجاة الشيطان”.
تاريخياً، هناك نماذج كثيرة لتمجيد الشيطان سواء في السينما أو الموسيقى أو حتى الشعر، عربياً وغربياً.

هناك أغانٍ غربية كثيرة فيها تلميحات واضحة لتقديس الشيطان، منها مثلاً أغنية     Highway To Hell لفرقة AC/DC الاسترالية، وفيها تخاطب الفرقة الجحيم قائلةً أنها في الطريق إليه حيث لا قيود، وتقول الفرقة في إحدى العبارات، “أمي أنا في طريقي إلى الأرض الموعودة”، أي جهنّم. 

في الشعر العربي، لم يغب تمجيد الشيطان كذلك. إذ ورد في قصيدة للشاعر بشار بن برد (96ه- 168ه) بيتاً يقول فيه، “إبليس خيرٌ من أبيكم آدمٍ، فتنبّهوا يا معشر الفجّار/ إبليس من نارٍ وآدم طينةٌ، والأرض لا تسمو سموّ النارِ”.

كما حضر تمجيد الشيطان في السينما، نذكر مثلاً فيلم آل باتشينو “Devil’s Advocate” أو “محامي الشيطان” – 1997، المقتبس عن رواية للكاتب أندرو نيدرمان وتحمل الاسم ذاته.

لكن هذا التقديس، قد لا يكون تقديساً عقائدياً للشيطان أو جهنم، بقدر ما أنه رد فعل عكسي على الدين ومعتقداته، وشكل من أشكال رفضها.  

القانون اللبناني لا يُعاقب على “تشطيب” الشخص جسده،

وهو ما يحدث في ممارسة طقوس بعض المذاهب الدينية،

منها عاشوراء مثلاً.

على الصعيد اللبناني، لا دليل فعلياً على وجود عمل منظم لهذه الظاهرة، وعلى الأغلب فإن معظم المجموعات التي مارست القوى الأمنية قمعاً عليها، كانت لمراهقين ومراهقات في طور رفض القيم المجتمعية والدينية المحيطة بهم. حتى في أكثر الممارسات تشدداً، وهي أذية النفس، فإنه لا يحق للقوى الأمنية توقيف الفاعلين أو إدانتهم، فالقانون اللبناني لا يُعاقب على “تشطيب” الشخص جسده، وهو ما يحدث في ممارسة طقوس بعض المذاهب الدينية، منها عاشوراء مثلاً.

بالعودة إلى قصة إيلي، يتذكّر الشاب أن تهمته وأصحابه حُلت بعدما وعد رجل دين في القرية بإطلاق سراحهم على مسؤوليته وتعهّد بأنهم “مسيحيون صالحون”، خصوصاً بعدما قررت القوى الأمنية آنذاك تحويل ملفهم إلى مخابرات الجيش والتحقيق معهم في منطقة طرابلس. إلا أن قصتهم لم تنتهِ تماماً، إذ عاودت الجهة الاتصال بإيلي بعد سنة، للتحقيق معه حول التهمة نفسها، إلا أنه لم يستجب للدعوة، هذا عدا عن وصم “العبّاد”، الذي رافقه لفترة طويلة في القرية.       

إذاً إيلي هو أحد الشبان الذين أُلقيت تهمة “عبادة الشيطان” عليهم، على رغم أنهم لا يعرفون عنها سوى ما يصادفونه على شبكات الانترنت بدافع الفضول وحب اكتشاف الممنوع. وعليه، فإن الإصرار على لعب دور الرقيب على حياة الناس الشخصية في لبنان، يأتي غالباً مترافقاً مع جهلٍ حول القضية، والمخيف أن تتخذ الرقابة منحى أكثر تطرفاً يصل الى حد “الشيطنة”…