fbpx

منازل وهميّة في تركيا: احتيال “متقن” لاختلاس أموال اللبنانيين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تستغل المكاتب العقارية الأزمة اللبنانيّة وتدهور العملة إضافة إلى احتجاز أموال المودعين في المصارف، لتشجيعهم على استثمار أموالهم المحتجزة، والتي فقدت قيمتها، في شراء عقارات على سعر صرف منخفض.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

وكأنّ اللبنانيّين لا تكفيهم أزماتهم ومعاناتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والأمنيّة المتلاحقة، حتى يأتي من يفتك بأموالهم الباقية والتي نجت من سطوة المصارف وفساد السياسيّين، إذ تعرّض لبنانيّون تواصل معهم “درج”، لعمليّات احتيال ضخمة ومتقنة، من مكاتب عقارية في لبنان وتركيا، جعلتهم يوقّعون عقوداً وسندات لشراء منازل ومكاتب في تركيا، تبيّن لاحقاً أنّها وهميّة. 

 KİRALIK…  كلمة واحدة كان يمكن أن تنقذ مئات الأشخاص من عمليّات احتيال ضخمة حرمتهم أموالهم وبدّدتها بين لبنان وتركيا، فالمواطن أ. ش. لم يكن يعرف معنى كلمة “للإيجار” باللغة التركية، عندما ذهب لرؤية موقع المشروع الذي اعتقد أنّه اشترى شقّة فيه في تركيا.

بعد تأجيل تسليم السند وإتمام المعاملات المطلوبة، أكثر من مرة، “أصررت على أن أذهب إلى تركيا لرؤية الشقّة وتسجيلها… ذهبت لأشتري الفرش، وإذ يتّصل بي خ. الحج ويقول لي، لا ترتبط بشراء أي فرش وتوجّه إليّ في الحال” يروي لـ”درج” أ. ش. الذي خسر 35 ألف دولار في عمليّة احتيال أوهمته كما آخرين بشراء عقارات في تركيا. فهو بإلحاحه استطاع كشف العمليّة وإبلاغ آخرين، لكنّه لم يتمكّن من إنقاذ أمواله بينما كان يسعى كما كثر إلى شراء عقارات =ب أمواله التي خسرت أكثر من نصف قيمتها عقب انهيار الليرة اللبنانيّة. 

بدأت القصّة في آب/ أغسطس 2020 عندما كان أ. ش. يتواصل مع شركة تركيّة لشراء عقار هناك، وإذ أخبره أحد أصدقائه عن مكتب في إقليم الخرّوب، الشوف، (الحج company) يؤمّن عقارات للبيع في تركيا بالتعاون مع مكتب عقارات تركيّ يدعى “صوّان غروب”.

كان عرض المكتب اللبناني مغرياً، إذ يعتمد سعر صرف متدنّياً نسبيّاً فكلّ دولار يساوي 3250 ليرة، بينما كان سعر الدولار في السوق السوداء آنذاك يتراوح بين 7 و8 آلاف ليرة لبنانيّة و”علقت العلقة” بحسب قوله.

تعرّف إلى المكتب في لبنان ومن ثمّ ذهب إلى تركيا وتعرّف إلى م. صوّان نفسه الذي أخذه وأراه “الشقّة النموذجيّة” التي اتّضح في ما بعد أنّه يريها لجميع ضحاياه. أُعجب أ. ش. بالشقّة واتفق معه على سعرها، 35 ألف دولار على أن يدفع 2750 دولاراً نقداً دفعةً أولى، وأن يسدّد بقية المبلغ بالليرة اللبنانيّة على سعر صرف 3250 ليرة مقابل الدولار عند استلام السند لاحقاً. سعر الصرف المنخفض هذا مقارنة بأسعار الصرف الحالية في السوق السوداء، يشكّل إغراءً للبنانيّين، الذين خسروا قيمة أموالهم، فاستغل البعض الأمر لتنفيذ عملية احتيال وسرقة.

استمرّ تأجيل استلام السند أكثر من شهر، وبعدها تلقى أ.ش. اتّصالاً من الحج company لإعلامه بأنّ السند جاهز وعليه سداد بقية المبلغ. فقرّر أ. ش. بعد سداد المبلغ، السفر وتجهيز الشقّة لكنه فوجئ من ردّ فعل “الحج” عندما أصرّ عليه ليعرض الشقّة للإيجار ولا يسكنها أسوة بما يفعل الذين اشتروا شققاً قبله، إلّا أنّه رفض.

ذهب ليشتري الفرش في تركيا، لكن الحج اتصل به وأخبره أنّ صوّان أوقف على ذمّة التحقيق، فتوجّه أ. ش. إلى الدوائر العقاريّة التركيّة. وكانت الصدمة الحقيقيّة هناك، عندما اكتشف أنّ اسمه غير مسجّل في تلك الدوائر وأنّ الشقّة ما زالت باسم الشركة Kristal Shehir وأن السند مزوّر، ما يعني أنه وقع ضحية عملية احتيالية. “اخترب بيتنا”، صرخ الحج الذي كان يرافق أ. ش. والذي ما زال حتى بعد توقيفه في لبنان، يقول إنّه ضحيّة وإنه لم يكن يعلم بأنّ السندات مزوّرة.

كلمة واحدة كان يمكن أن تنقذ أ. ش. من البداية، كلمة لم يتنبّه لها ولمعناها عندما زار الموقع ورأى الشقّة للمرّة الأولى. وهي كلمةKIralik ، أي “للإيجار” بالعربيّة. قرأها أكثر من مرّة في العقد ولكنّه لم يعطِها أي أهميّة. هذه الكلمة كان بإمكانها أن توضح له أنّ هذا المشروع ليس للبيع بل للإيجار فقط. وهذا ما علمه لاحقاً عندما ذهب إلى موقع المشروع بعد اكتشافه اللعبة والتقى مديره الذي أكّد له أنّ الصوّان هو الذي استأجر شقتين في هذا المشروع، لكنّه لم يسكن فيهما وبالتالي استخدمهما ليخدع الناس ويسرق أموالهم. ويشكّ أ. ش. في أن تكون الشركة أيضاً متواطئة لكن يبقى هذا شكّاً طالما أن التحقيقات الجارية لم تجد أي علاقة للشركة بالموضوع حتّى الآن، وهذا ما أشار إليه المحامي وأستاذ الحقوق، د. أحمد سعد، وهو واحد من 5 محامين موكلين باستلام هذه القضيّة، خصوصاً أنّ صوّان كان يملك مفاتيح الشقّة وبطاقة الشركة للدخول إلى الموقع، لذلك من المرجّح أن تكون الشركة متواطئة.

وأ. ش. ليس الضحيّة الوحيدة، بل هو واحد من كثيرين من أهل برجا وشحيم في الإقليم، كانوا ضحية عمليات الاحتيال هذه، واشتروا عقارات وهميّة في تركيا بآلاف الدولارات. ولكنّه الذي كشف الاحتيال وأنقذ مئات آخرين كان يمكن أن يقعوا في الفخّ أيضاً، فشراء العقارات كان حلاً بالنسبة إلى كثيرين لإنقاذ أموالهم التي احتجزتها المصارف بسبب الانهيار الاقتصادي.

جذور الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة:

في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ومع تردّي الوضع الاقتصادي وفقدان الليرة اللبنانيّة قيمتها مقابل الدولار الأميركي، توقّفت المصارف اللبنانيّة عن إعطاء المودعين أموالهم من العملة الأجنبيّة، كما تمنّعت الحكومة للمرة الأولى في تاريخ لبنان عن دفع سندات اليوروبوند، وهي ديون على الدولة اللبنانيّة، وذلك بالتزامن مع اندلاع الانتفاضة اللبنانيّة. وشهد لبنان “أكبر انهيار مصرفي في التاريخ الحديث”، وفقاً لخبراء اقتصاديّين. واحتلّ لبنان المرتبة 137 من أصل 180 دولة (180 دولة هي الأسوأ) على مؤشر مدركات الفساد لعام 2019 الصادر عن “منظمة الشفافية الدولية”. فالفساد السياسي على مدار العقود الثلاثة الأخيرة وهندسات 2016 الماليّة “المشبوهة” التي اعتمدها المصرف المركزي، أوصلت البلاد إلى الهاوية، فدين الدولة العام مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي سجّل ثالث أعلى نسبة في العالم في مطلع عام 2020. وفي ظلّ هذه الظروف الاقتصاديّة القاسية، اجتاح وباء “كوفيد-19” البلاد ليعمّق المشكلة الاقتصاديّة ويرفع نسبة البطالة وشحّ العملات الصعبة في البلاد وتبعته فاجعة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس لاستكمال مسيرة الدمار والانهيار. فما كان من اللبنانيّين إلّا التفكير ببدائل وحلول، أبرزها كان شراء العقارات في لبنان أو خارجه (تركيا، اليونان وغيرهما) عبر شيكات مصرفيّة يشترون بها ممتلكات غير منقولة، خصوصاً أن شركات عقارات كثيرة تقدّم تسهيلات ماليّة باعتماد سعر صرف منخفض نسبيّاً مقارنةً بسعر الصرف في السوق السوداء. 

وكان م. صوّان قال إنّه صاحب مكتب لبيع العقارات والسيارات في تركيا، فسارع عدد من الأهالي لحجز عقارات، من طريق حاج محبوب ومعروف في المنطقة يدعى خز الحج، لعل ذلك يحافظ على ما تبقّى من أموالهم التي سلبتها المنظومة الحاكمة وعلى رأسها المصارف. ولكن ما لم يتوقّعه الأهالي أنّ هذا المكتب هو انعكاس للمنظومة التي حرمتهم أموالهم وهو بدوره سيقضي على ما تبقّى من جنى أعمارهم.

وكان صوّان يدفع للضحايا مبلغاً صغيراً شهريّاً على أساس أنّه إيجار الشقّة التي اشتروها وتبيّن أنّه يدفع لهم جزءاً صغيراً من أموالهم التي سرقها وهكذا تمكّن من الاستمرار طوال هذه المدّة من دون أن يكتشفه أحد.

كان عرض المكتب اللبناني مغرياً، إذ يعتمد سعر صرف متدنّياً نسبيّاً فكلّ دولار يساوي 3250 ليرة، بينما كان سعر الدولار في السوق السوداء آنذاك يتراوح بين 7 و8 آلاف ليرة لبنانيّة.

وبحسب اللائحة التي حصلت عليها معدّة التحقيق، فإنّ نحو 40 شخصاً سُرقوا بالطريقة عينها ومن خلال الوسيط نفسه. وتتراوح قيمة المبالغ التي دُفعت بين 14500 دولار أميركيّ و231 ألف دولار أميركيّ ويبلغ مجموعها نحو 1.5 مليون دولار أميركي، إلّا أنّ المعلومات تشير إلى أنّ الرقم أكبر بكثير، قد يصل إلى 200 ضحيّة والمبالغ المسروقة بين 6 و7 مليارات دولار أميركي و32 مليار ليرة لبنانيّة. أمّا المشتريات فتشمل شققاً فخمة، ومكاتب وسيارات في تركيا وحتّى الأثاث، علماً أنّ القانون التركي يتيح لمالك عقار بقيمة ما يزيد عن 250 ألف دولار أميركي بالجنسيّة وهذا ما سعى إليه عدد من الأشخاص.

ولكنّ لا شكّ بأن صاحب المكتب التركي المزعوم خبير في التزوير، إذ استكمل جميع العناصر لإيهام الأهالي وخداعهم من خلال سندات وعقود مزوّرة وباللغة التركيّة.

يقول ع. م.، أحد المتضرّرين والوحيد الذي استطاع أن يستعيد أمواله من صوّان أنّه تعامل معه لأنّه يثق بالحج ولكنّه كان محظوظاً، إذ التقى بأحدهم في المشروع الذي ظنّ أنّه امتلك شقّة فيه وأخبره بأنّ الشقق كلّها مباعة. فطالب بأمواله إلا أنّ صوّان أكّد له، في رسالة صوتيّة، أنّه يتواصل مع صاحب المشروع بشكلٍ مباشر وحجز الشقّة منه.

ووقّع صوّان مع الضحيّة عقداً مزوّراً في مكتبه وعند سؤال الأخير، لماذا لا يكون توقيع العقد عند كاتب عدل؟ قال صوّان “ما بدّي عذّبكم عند كاتب العدل”. إلا أنّ شكوك ع. لم تتبدّد مع محاولات صوّان المتكرّرة لإقناعه بأن عمليّة شراء الشقّة طبيعيّة، فطالب بأمواله واستردّها ن مدون التأكّد من أنّ العمليّة هي احتياليّة. وحينذاك لامه أصدقاؤه، علموا لاحقاً أنه الناجي الوحيد من هذه “النصبة”.

هل ستردّ الأموال؟

صوّان اليوم ما زال حرّاً طليقاً، وفقاً لسعد، وتعمل السلطات اللبنانيّة والتركيّة بالتعاون مع الإنتربول للقبض عليه، بينما يقبع الحج في السجن في لبنان بانتظار حكمه. وتقدّم إلى سعد ما يقارب 12 شكوى بهذا الخصوص ويعمل بتريّث في هذا الملف، مع المحامين الأربعة الآخرين، حتّى لا يتمكّن الموقوف من دغم جميع القضايا في قضيّة واحدة كما يتيح القانون اللبناني. ويسعى سعد إلى اعتبار القضيّة جناية لا جنحة فالأخيرة يسجن عليها الموقوف فقط لمدّة 6 أشهر بينما تمتدّ عقوبة الجناية لأكثر من 3 سنوات.

يستبعد الضحيّة أ. ش. أن يستردّ أمواله فعلى رغم رفع أكثر من دعوى في لبنان وتركيا بحق مرتكبي الجنحة، ولكن باعتقاده أنّ الأموال ذهبت هباءً “عتبي على من اشترى قبلنا، فالعمليّة بدأت من سنة ونصف السنة: ألم يكتشفها أحد، وإذا اكتشفها أحدهم، لماذا لم ينبّه الآخرين؟!”. ويقول سعد إنّه إذا اتّضح تورّط شركة Kristal Shehir بالقضيّة، سوف تكون مرغمة على إعادة الأموال، وهناك نظام قانوني يتيح حق ردّ الأموال ولكن هذا يتوقّف على الموجودات الماليّة للمتورّطين.

كيف يمكن تجنّب هذه الحالات؟

ينبّه حسام شبيب، الخبير العقاري وأحد مؤسّسي شركة MENAREACH للعقارات في تركيا، إلى ضرورة الانتباه لبعض التفاصيل حتّى يتجنّب المواطن أن يقع في ألاعيب كهذه أبرزها:

  • “شراء العقارات الجاهزة للتسليم مع وجود سند ملكية kat mülkiyet tapusu.
  • ضرورة التوقيع بشكل مباشر في دوائر الطابو مع إحضار مترجم محلف من طرفك.
  • الحصول على تقييم من شركة معتمدة من الدولة قبل الشراء، يتضمّن صور العقار قيد الشراء وتفاصيله، واحرص على أن تكون هذه الشركة مكلّفة من قبل الشاري أو وكيله وليس من قبل البائع.
  • دفع ثمن العقار داخل دائرة الطابو قبيل عملية التوقيع بدقائق وبوجود صاحب العقار أو وكيله حصراً، عبر حوالة مصرفية مع ذكر عنوان العقار كاملاً في وصف الحوالة أو عبر شيك مصرفي يسيل بعد نقل سند الملكية إلىى اسمك.
  • عدم الوقوع في فخ السعر الرخيص جداً أو العائد المضمون على الإيجار لا سيما بالعملة الأجنبية، فكلها مؤشرات لعملية نصب محتملة”.

يحاول اللبنانيون، منذ بدء الأزمة الاقتصاديّة الحادّة، إنقاذ ما تيسّر من أموالهم عقب الانهيار المصرفي الكبير الذي حلّ بهم. وبناءً على ذلك، يتّجه كثر إلى شراء عقارات تحفظ لهم أموالهم. ولكنّ مأمن أموالهم انقلب عليهم. فبينما يحاولون التحرّر من سطو المصارف والطبقة السياسيّة على ودائعهم، علقوا في عمليّة احتيال ضخمة وقد يكون وقعها أشدّ عليهم من الأولى.