fbpx

لبنان: لوبي نيابي مصرفي يُسقط التدقيق الجنائي ويطيح بالإصلاحات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الإجهاز على التدقيق الجنائي في المجلس النيابي ظهر أخيراً كمسار واضح بعد مواجهة اللوبي المصرفي مع وزيرة العدل، لكنّ المناورات كانت بدأت منذ البداية للوصول إلى مرحلة إسقاط هذا التدقيق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في موضوع التدقيق الجنائي على حسابات مصرف لبنان، انسجمت أوركسترا نيابيّة عابرة للكتل والطوائف للإجهاز كليّاً على هذا الملف، إمّا عبر التحجج بعدم قانونيّة توقيع وزارة الماليّة عقداً يفرض التدقيق على المصرف المركزي، أو من خلال الحديث عن قوانين السريّة المصرفيّة وتعارضها مع فكرة تكليف الشركة بإجراء هذا التدقيق. من رئيس لجنة المال والموازنة في البرلمان النائب إبراهيم كنعان إلى النواب ياسين جابر وإيلي الفرزلي ونقولا نحّاس وبلال عبد الله، وصولاً إلى “كتلة المستقبل” نفسها، وجوه كثيرة كان سيصعب لمّ شملها حول فكرة ما، كما انسجمت في موضوع وضع العصي في دواليب التدقيق الجنائي. 

اللوبي المصرفي ينتصر مجدداً

باختصار، كانت النتيجة فرملة مسار التدقيق الجنائي كلّياً، فيما برزت أخيراً مناوارت جديدة من قبل هذا اللوبي النيابي المصرفي من قبيل التساؤل عن أثر رفع السريّة على ثقة الأجانب بالنظام المصرفي اللبناني، كما تحدّث النائب إيلي الفرزلي، أو عن سبب التركيز على التدقيق الجنائي في مصرف لبنان تحديداً، وليس في سائر مؤسسات الدولة الرسميّة، كما تساءل معظم رموز هذا اللوبي. علماً أن الثقة أساساً باتت معدومة في القطاع المصرفي بفعل الانهيار المالي الحاصل، فيما تستدعي استعادة الثقة الشفافيّة في التحقيق في أسباب الانهيار. كما يعلم جميع رموز هذا اللوبي المصرفي أن اشتراط التدقيق في جميع مؤسسات الدولة قبل الوصول إلى مصرف لبنان، يعني عمليّاً طرح مطلب تعجيزي سيطيح بمسار التدقيق بأسره.

النتيجة، فكانت يأس “صندوق النقد” من إمكان التفاهم مع الحكومة على خطّة ذات صدقيّة، بعدما تبيّن أن المجلس النيابي غير مستعد للسير بمقارباتها، كما أدرك وفد الصندوق أن القوى الأساسيّة في المجلس النيابي غير راغبة بالاعتراف الصريح بالخسائر ومعالجتها.

عمليّاً، يمكن القول إن الإجهاز على التدقيق الجنائي في المجلس النيابي ظهر أخيراً كمسار واضح بعد مواجهة هذا اللوبي المصرفي مع وزيرة العدل ماري كلود نجم، لكنّ المناورات كانت بدأت منذ البداية للوصول إلى مرحلة إسقاط هذا التدقيق. فلجنة المال والموازنة، التي يتركّز في صفوفها معظم مكوّنات هذا اللوبي المصرفي، ليست سوى اللجنة التي تغاضت منذ الأساس عن مواكبة هذا المسار، عبر اقتراح ما يلزم من تشريعات لمعالجة العراقيل القانونيّة التي تتحجج بها اللجان اليوم لعرقلة عمل شركة التدقيق. علماً أن الكثير من الآراء القانونيّة، كرأي هيئة التشريع والاستشارات ونقابة المحامين، تعتبر أن طلبات شركة التدقيق الجنائي لا تقع أساساً في نطاق المعلومات المحميّة بموجب السريّة المصرفيّة التي تنص عليها القوانين اللبنانيّة. وهكذا، بين تحجج “لجنة المال والموازنة” بالسريّة المصرفيّة وبانتفاء صلاحيّة وزارة الماليّة لتوقيع العقد، وبين عدم مبادرتها لتذليل العقبات القانونيّة التي تتحجج بها، تكامل جهدها مع جهد كل من حاكم مصرف لبنان ووزير الماليّة في مسار تطيير التدقيق الجنائي.

جيش المصارف في المجلس

عمليّاً، يمكن القول إن ما حصل في ملف التدقيق الجنائي لم يكن سابقة، من ناحية تجييش كتلة نيابيّة منظّمة لمصلحة المصارف وأصحابها. فمنذ حصول الانهيار المالي في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، بدا واضحاً أن ثمّة مجموعة داخل المجلس النيابي منسجمة من ناحية الأولويّات والمصالح، وهي مجموعة حملت في كل المحطات مصالح النافذين في القطاع المصرفي من دون مواربة، ومارست شتّى أنواع المناورات لحماية هذه المصالح.

فحين كلّفت الحكومة شركة “لازارد” بوضع خطّتها للتعافي المالي، اعتبرت “لازارد” أن استقدام الدعم واستعادة الثقة بالنظام المصرفي اللبناني يقتضيان الاعتراف بالخسائر المتراكمة في ميزانيّات مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، والتي بلغت نحو 241 ألف مليار ليرة وفقاً لتقديرات الشركة. كما اعتبرت الشركة أن الوصول إلى مرحلة التعافي يقتضي إيجاد مقاربات للتعامل مع الخسائر بعد الاعتراف بها، ومن دون المساس بالأموال العامّة لإنقاذ المصارف. ولعلّ فكرة معالجة الخسائر، من دون المساس بالأموال العامّة، تنطلق أولاً من معرفة الشركة بأن صندوق النقد بات يعتبر هذه النقطة بالذات من المقدسات التي لا تمكن إعادة النظر فيها في أي ظرف من الظروف.

على هذا النحو، قدّرت الشركة الخسائر المتراكمة في ميزانيّة مصرف لبنان نتيجة الهندسات الماليّة والتفاوت الكبير بين التزامات المصرف وموجوداته بالعملة الصعبة، كما قدّرت الخسائر التي ستنتج عن تخلّف الدولة عن سداد ديونها بالليرة والدولار، إضافة إلى الخسائر الناتجة عن تعثّر قروض القطاع الخاص. أما النتيجة، فهي كتلة من الخسائر التي ينبغي التعامل معها أولاً عبر شطب رساميل المصارف نفسها، أي مساهمات أصحابها، ومن ثم تحويل جزء من الودائع الكبيرة إلى رساميل في المصارف نفسها، وهو ما يمكن أن يعطي كبار المودعين أملاً باستعادة أموالهم بعد استعادة النظام المصرفي لعافيته. كما تركت خطّة “لازارد” الباب مفتوح على فكرة تشكيل صندوق للتعافي، عبر استثمار جزء من موجودات الدولة المدرّة للأرباح لسداد جزء من الخسائر الناتجة عن تخلّف مصرف لبنان والدولة في سداد التزاماتهما.

أطاح صقور “لجنة المال والموازنة” بخطة “لازارد”، وانخفضت الخسائر الإجماليّة المقدرة في القطاع المالي من 241 ألف ليرة إلى نحو 115 ألف مليار ليرة فقط

هذه الصورة لم تعجب المصارف ولا أصحابها، وبالتأكيد لم تعجب حاكم المصرف المركزي. فخطّة “لازارد” لم تعنِ المصارحة في إعلان الخسائر كما هي وحسب، بل عنت أيضاً تصحيحها من خلال الاقتصاص من رساميل أصحابها، على رغم أن تحمّل المصارف مسؤوليّة الخسائر التي نتجت عن قراراتها الاستثماريّة يعد مبدأ بدهياً في النظام الاقتصادي الحر. في كل الحالات، كانت النتيجة اندفاع “لجنة المال والموازنة” بصقورها المتحمّسين، لإسقاط الخطّة وتبنّي جميع المقاربات المضادة التي كان ينادي بها كل من مصرف لبنان وجمعيّة المصارف.

وهكذا، انخفضت خسائر ميزانيّة مصرف لبنان وحده من 66 ألف مليار ليرة كما قدرتها شركة “لازارد” إلى نحو 6 آلاف مليار ليرة فقط، بحسب لجنة المال والموازنة (أي أقل من 800 مليون دولار فقط!)، بعدما تبنّت اللجنة مقاربات حاكم مصرف لبنان المحاسبيّة الغريبة، التي تحتسب الأرباح المستقبليّة الناتجة عن طبع النقد من ضمن موجودات المصرف. كما قررت اللجنة عدم احتساب أي خسائر عن تخلّف الدولة عن سداد سندات الخزينة بالليرة اللبنانيّة، بعدما احتسبت “لازارد” نسبة هذه الخسائر بحدود الـ40 في المئة، على رغم أن منطق الأمور يفرض على الدولة كطرف متعثّر التفاوض على حجم ديونها. أما تقدير الخسائر الناتجة عن تعثر قروض القطاع الخاص، فانخفض من نحو 44 ألف مليار ليرة بحسب “لازارد” إلى أقل من 14 ألف مليار ليرة، بعدما احتسبت اللجنة ضمانات هذه القروض، على رغم أن المنطق يفرض التسليم بعدم قدرة المصارف على ممارسة تهجير جماعي عبر انتزاع الضمانات العقاريّة من ساكنيها. 

ببساطة، أطاح صقور “لجنة المال والموازنة” بخطة “لازارد”، وانخفضت الخسائر الإجماليّة المقدرة في القطاع المالي (مصرف لبنان والمصارف معاً) من 241 ألف ليرة إلى نحو 115 ألف مليار ليرة فقط. أما النتيجة، فكانت يأس “صندوق النقد” من إمكان التفاهم مع الحكومة على خطّة ذات صدقيّة، بعدما تبيّن أن المجلس النيابي غير مستعد للسير بمقارباتها، كما أدرك وفد الصندوق أن القوى الأساسيّة في المجلس النيابي غير راغبة بالاعتراف الصريح بالخسائر ومعالجتها. مع العلم أن أي خطّة ماليّة ستحتاج لاحقاً إلى عشرات القوانين لتطبيقها، وهو ما يعني أن عدم انسجام الحكومة مع المجلس في هذه المرحلة سيؤدّي إلى فشلها في تطبيق الخطة نفسها. 

التكتّل الأقوى

سيناريو الانقلاب على خطة “لازارد، لمصلحة المصارف وأصحابها، تكرر في كثير من المحطات. يوم رغبت الحكومة بصياغة مشروع قانون للكابيتال كونترول، لمنع الإستنسابية في التعامل مع المودعين والحفاظ على السيولة المتبقية في البلاد، أطاح وزير الماليّة بهذه المحاولة من خلال سحبه للمسودة عن طاولة مجلس الوزراء. قضت ضغوط المجتمع الدولي في ذلك الوقت بإيجاد مخرج ما، فتمت إحالة صيغة عن مشروع القانون هذا إلى لجنة المال والموازنة نفسها، ومنذ ذلك الوقت نامت المسودّة في أدراج اللجنة ولم تبصر النور.

انخفضت خسائر ميزانيّة مصرف لبنان وحده من 66 ألف مليار ليرة كما قدرتها شركة “لازارد” إلى نحو 6 آلاف مليار ليرة فقط، بحسب لجنة المال والموازنة

باختصار، في المجلس النيابي ثمّة تكتّل نيابي قوي، عابر لجميع التكتّلات والطوائف والحواجز المناطقيّة. ما يجمع هذا التكتّل أكثر قوّة من الاعتبارات التي تجمع كل من الكتل المعروفة بالاسم، ما يجمعه كتلة كبيرة من المصالح المتجذّرة في القطاع المصرفي، والتي تتقاطع مع مصالح أقطاب الحكم في البلاد. نجح تكتّل المصارف، أو اللوبي، بالإطاحة بالتدقيق الجنائي في المجلس النيابي، بعد أن أطاح به كل من وزير الماليّة وحاكم مصرف لبنان في مراحل سابقة، ونجح تكتّل المصارف في إسقاط كل الإصلاحات المقترحة السابقة: من خطة “لازارد” إلى الكابيتال كونترول وغيرهما. ببساطة، ما يمنع الخروج من نفق الانهيار اليوم ليس سوى تشابك مصالح أركان الحكم مع أركان النظام المالي الذي يرفض المساس بمكتسباته. هذه هي الإشكاليّة اليوم.