fbpx

إلى الحكام العرب: ماذا فعلتم لفلسطين؟ أو ماذا فعلت لكم؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على رغم الألم الذي يسبّبه هذا الهوان العربي إزاء إسرائيل، إلا أنه لا مجال للصدمة أو المفاجأة هنا، وربما هذا المسار على مخاطره يحرر قضية فلسطين، كقضية حرية وعدالة وكرامة، من متاجرة الأنظمة بها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

من التطبيع المضمر أو الخجول مع إسرائيل إلى التطبيع المعلن أو الوقح معها، هذا هو حال تلك الأنظمة التي باتت تتهافت للتطبيع مع إسرائيل، بل ومع أكثر حكومة يمينية فيها، بطريقة دونية ومهينة ومجانية، والتي إن أكدت شيئاً، فهو مدى سذاجة من كان يعتقد أو يتوهّم أن فلسطين كانت همّاً لتلك الأنظمة، أو من انطلت عليه قصة فلسطين كقضية مركزية لتلك الأنظمة، والتي تكشّفت عن كذبة كبرى، وعن مجرد قصة للتلاعب والتورية أو المزايدة والاستهلاك، في العلاقات العربية البينية، كما للتغطية على تسلط الأنظمة على مجتمعاتها ومصادرة حقوق مواطنيها وتبديد ثروات بلدانها، بحجة أن “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.

ومع الاحترام للكتابات عن تاريخ القضية الفلسطينية، إلا أن ثمة جانباً تاريخياً خفياً، أو محجوباً، لتلك القضية، أو لعلاقة الأنظمة السلطوية العربية بها، ولما يعرف زوراً بالصراع العربي- الإسرائيلي، لم يظهر أو لم يكتب بعد.

وفي الحقيقة، فإن تلك الأنظمة سكتت، منذ 1948، عن إقامة إسرائيل، وسهّلت تشريد الفلسطينيين وولادة مشكلة اللاجئين، وساهمت في تهجير يهود البلدان العربية الى إسرائيل بعد إقامتها، ووأدت محاولات إنشاء كيان فلسطيني، ثم اشتغلت على مرمطة الفلسطينيين اللاجئين. وبعد ذلك عملت على تدجين الحركة الوطنية الفلسطينية وتهميش منظمة التحرير، طبعاً من دون أن نغفل مسؤولية القيادة الفلسطينية عن بعض ذلك.

مثلاً، ففي مواجهة خطر إقامة إسرائيل (1948) لم تبذل الأنظمة العربية الجهد اللازم لمساعدة الفلسطينيين، أو لمواجهة هذا التحدي. ويذكر هيثم كيلاني في بحثه حول “حروب فلسطين العربية الإسرائيلية” (الموسوعة الفلسطينية ج5 ص ـ485) أن مجموع ما قدمته اللجنة العسكرية المنبثقة عن الجامعة العربية (مقرها دمشق) للمقاومين الفلسطينيين بلغ 1600 بندقية فقط. ويقول إن “الأسلحة والأموال التي كانت تبرعت بها بعض الشعوب والحكومات العربية إلى اللجنة العسكرية كانت تكدس، في حين كان عرب فلسطين في أمس الحاجة إليها”. ويذكر هنا أن القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني جاء إلى دمشق لمناشدة المسؤولين في اللجنة العسكرية لمنحه السلاح من دون جدوى، إلى حد أن الموقف تأزم مساء 6 نيسان/ أبريل (1948)، وصاح عبد القادر في وجه أعضاء اللجنة: “أنتم خونة أنتم مجرمون سيسجل التاريخ أنكم أضعتم فلسطين”؛ وعاد غاضباً إلى القدس ليسقط في معركة القسطل (8/4/1948).

أيضاً، خلال الفترة من صدور قرار التقسيم في أواخر1947 إلى 15/5/1948، موعد انتهاء الانتداب البريطاني، لم تكن الاستعدادات العربية على درجة مناسبة لدعم شعب فلسطين من النواحي السياسية والمادية لمواجهة ما سيحلّ به، خصوصاً إذا علمنا أن ثورة 1936 – 1939، استنزفت معظم قدرات هذا الشعب الاقتصادية والمادية، إذ تم التخلص من معظم قياداته، على يد القوات البريطانية. وبلغت خسائر الفلسطينيين، بحسب مذكرات محمد دروزة، 50 ألف معتقل و7 آلاف ضحية و20 ألف جريح، وعدد البيوت المنسوفة كان ألفين، عدا الخسائر الاقتصادية، فـ77 ألفاً من أصل 800 ألف (عدد الفلسطينيين) تأثروا مباشرة من الثورة، بمعدل 1/10 تقريباً.

من التطبيع المضمر أو الخجول مع إسرائيل إلى التطبيع المعلن أو الوقح معها،

هذا هو حال تلك الأنظمة التي باتت تتهافت للتطبيع مع إسرائيل.

هذا يوضح أن قصة الجيوش العربية التي دخلت إلى فلسطين هي مجرد أسطورة للتورية تتغذى عليها كل من الرواية الرسمية العربية لتبرئة ذاتها، والرواية الرسمية الصهيونية للتنصل من مسؤولية الحرب والنكبة وتحميلها للعرب، ولإظهار الجريمة الصهيونية باعتبارها فعلاً تحررياً وبطولياً، إذ صمدت قلة قليلة من الصهاينة (الطلائعيين) في مواجهة الجيوش العربية! لذا فإن تفحّص حقيقة الوضع يكشف أن عدد قوات جيش الإنقاذ (قبيل النكبة) لم يكن يتجاوز 5 آلاف جندي في مقابل 16 ألف جندي صهيوني. أما أثناء الحرب فبلغ عدد جنود “الجيوش” العربية: لبنان: 700، سوريا 2000، العراق 2500، الأردن 4500، مصر 28500، السعودية 1100، السودان 1675، وذلك مقابل 74450 جندياً إسرائيلياً في آب/ أغسطس 1948، ثم 121000 في أوائل 1949 (من أصل 650 ألف يهودي في فلسطين آنذاك). أيضاً كان ثمة فارق كبير بين الطرفين في السلاح، من حيث الكم والنوع وفي شكل الإدارة، لكن الفارق الأساس كان في القيادة إذ كانت الجيوش العربية تفتقد إلى القيادة السياسية الموحدة كما لاستراتيجية عسكرية مشتركة. والأنكى أن تلك الجيوش كان هدفها الأساسي الوقوف عند حدود التقسيم، وحتى تلك لم تحافظ عليها، كما ساهمت في إشاعة أجواء معركة لحض الفلسطينيين العزل من السلاح على ترك بيوتهم وقراهم ومدنهم، مع وعد بعودة قريبة، الأمر الذي مكّن القوات الصهيونية من الاستيلاء على 77 في المئة من أرض فلسطين، وتشريد حوالى مليون من الفلسطينيين.

بعد النكبة بدأ فصل جديد في هذه المأساة، إذ عملت حكومات عربية على تغييب شعب فلسطين وطمس قضيته، بعدم تمكينه من التعبير سياسياً عن نفسه، في كيان مستقل، في الضفة والقطاع، إذ تم ضم الضفة الغربية إلى الأردن وخضع القطاع للإدارة المصرية (حتى احتلال 1967). ولم يكتف النظام العربي بذلك إذ منع أيضاً قيام أي تشكيل سياسي للفلسطينيين، وعمل على وأد التجربة الكيانية الأولى المتمثلة بـ”حكومة عموم فلسطين” (1/10/1948). ففي حينه أجبر الحاج أمين الحسيني بالقوة، من قبل السلطات الملكية المصرية، على الانتقال إلى القاهرة ثم أجبر أعضاء المجلس الوطني ورئيس وأعضاء الحكومة الفلسطينيين على اللحاق به، وحوصر مقر هذه الحكومة. ولم يستطع الحاج أمين الحسيني من القيام بأي دور، وظل هذا الوضع قائماً حتى انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة وإنشاء “منظمة التحرير الفلسطينية” في أواسط الستينات. ولا شك في أن الحؤول دون قيام تمثيل سياسي للفلسطينيين أضعف من قدراتهم، وشكل نجاحاً للحركة الصهيونية.

والمعنى من ذلك أن ممانعة إقامة كيان فلسطيني لم تقتصر على الحركة الصهيونية وكيانها إسرائيل (في ما بعد)، بهدف تغييب الشعب الفلسطيني وطمس قضيته، أو على الأقل التحرر من أبعادها وتداعياتها.

بيد أن الأكثر إيلاماً وخطورة وضرراً بالفلسطينيين، والأكثر إفادة لإسرائيل، إنما تمثل بتهجير اليهود من البلدان العربية، لا سيما من المغرب والعراق واليمن، ففي حين هاجر إلى فلسطين في ظل الانتداب البريطاني حوالى 483 ألف يهودي، بينهم فقط 8 -10 في المئة من يهود البلدان العربية، تدفقت الهجرة اليهودية من البلدان العربية، بعد قيام إسرائيل، إذ هاجر إليها في الأعوام الثلاثة الأولى لقيامها 687 ألف يهودي، 50 في المئة منهم من البلدان العربية!

أما بالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين، فكان ثمة تباين في التعاطي معهم، إذ مُنحوا المواطنية في الأردن، وعوملوا في سوريا كما المواطن السوري (عدا حقوق الانتخاب والترشيح)، علماً أنه لا يوجد شيء اسمه “مواطنون” أو “حقوق مواطنة” في سوريا، بمعنى الكلمة، في حين تم التعامل معهم في الإطار العربي العام بوصفهم قضية أمنية، أو مجالات للتوظيف السياسي. وكان بدهياً أن الدولة العربية التسلطية، التي لم تستطع التحول إلى دولة مواطنين، غير قادرة على تمثيل اللاجئين الفلسطينيين، على رغم أنهم ينتمون إلى الهوية العربية، بدعاوى سياسية، وضمنها الحفاظ على هويتهم وحتى وطنيتهم!

ولعل أكبر مثال على ذلك توظيف قضية فلسطين، والتلاعب بها، في نظام الأسد، الذي ضيع الجولان وركب قضية الصراع ضد إسرائيل، وحاول الهيمنة على منظمة التحرير، وذلك بادعائه السعي إلى تحقيق “التوازن الاستراتيجي”، في حين تبين أنه يعد كل شيء للحفاظ على كرسي الحكم لعائلته، إذ قام في ما بعد بتوجيه ترسانته من أسلحة ضد شعبه، من دون أن يطلق رصاصة على إسرائيل منذ ما بعد حرب 1973، وحتى من دون أن يرد على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليه.

في العلاقة مع قيادة “منظمة التحرير” ثمة مسائل كثيرة يفترض الكشف عنها، وضمن ذلك كيفية تدجين المنظمة، بأخذها نحو الاعتراف بإسرائيل أو باعتبار أن الصراع هو على إنهاء الاحتلال من الضفة وغزة، مقابل الاعتراف بها كممثل شرعي وحيد لشعب فلسطين في قمة الرباط (1974). وهو ما حدث مرة ثانية بالضغط على قيادة المنظمة لحضور مؤتمر مدريد 1991، ثم بإجبار تلك القيادة على حضور مفاوضات كامب ديفيد2 (2000)، على رغم أن إسرائيل لم تنفذ حصتها من اتفاق أوسلو الانتقالي.

طبعاً في معظم تلك القصص ثمة مسؤوليات كبيرة أيضاً تقع على عاتق الفلسطينيين وعلى قياداتهم، إنما لهذا حديث آخر.

أخيراً، على رغم الألم الذي يسبّبه هذا الهوان العربي إزاء إسرائيل، إلا أنه لا مجال للصدمة أو المفاجأة هنا، وربما هذا المسار على مخاطره يحرر قضية فلسطين، كقضية حرية وعدالة وكرامة، من متاجرة الأنظمة بها، ويكشف تلك الأنظمة أمام شعوبها، وأيضاً يحرر الفلسطينيين من أوهام وأساطير وارتهانات كثيرة، أضرت بهم وبكفاحهم.