fbpx

انفجار مرفأ بيروت على طريق المحاسبة: رهاب حصانة الرؤساء يتداعى

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبدو أن رهاب الحصانة قد بدأ ينكسر، وهذا أول الغيث في محاسبة المسؤولين ليس عن جريمة المرفأ وحسب، بل أيضاً عن جرائم كثيرة كنهب أموال اللبنانيين والصفقات المشبوهة التي تفوح رائحتها من الإدارات العامة والمؤسسات والوزارات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يبدو أن العلاقة الوثيقة بين القضاء اللبناني والسلطة السياسية تتعرّض لهزّة عميقة بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس، وإحالة القضية إلى المجلس العدلي، وهو محكمة خاصّة لا تسمح بالاستئناف، وبذلك خيّم شعور بأن لا مفرّ من كشف الحقيقة أو على الأقل المحاولة، وأن المحاسبة لن تكتفي بمسؤولين وموظفين صغار في المرفأ وحوله، بل قد تمتدّ شيئاً فشيئاً إلى الرؤوس الكبيرة. التحقيق الذي وعدنا وزير الداخلية بألا يستغرق أكثر من خمسة أيام، تفجّر الآن بعد أشهر من الانفجار في وجه السلطة ورجالها، الذين يتخبّطون، ويعتذرون عن كل قصائد الـ”نثق بالقضاء”، و”القضاء النزيه”، و”خلي التحقيق ياخد مجراه”. فالمحقق العدلي في جريمة المرفأ القاضي فادي صوان، ادّعى على كل من رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب (الذي كان تمّ إعلامه بخطورة النترات وبوضوح مرات عدة إلا أنه لم يتخذ أي تدبير)، والوزراء السابقين غازي زعيتر (التابع لـ”حركة أمل”، وهو تولى وزارة الأشغال العامة في 2014 التي كانت طلبت من القضاء تعويم السفينة وإفراغ حمولتها وهي أيضاً الوزارة التي تولّت تخزين المادة وحراستها وتملك سلطة الوصاية على لجنة إدارة المرفأ)، ويوسف فنيانوس (التابع لـ”تيار المردة” وهو وزير أشغال عامة سابق أيضاً) وعلي حسن الخليل (التابع لـ”حركة أمل”، وهو وزير مالية سابق علماً أن وزارة المالية هي صاحبة الوصاية على المديرية العامة للجمارك)، وفق مادة منشورة في “المفكّرة القانونية”. 

وبني ادعاء صوان على جرم الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة وايذاء مئات الأشخاص. كما استمع صوان رئيس الأركان السابق في الجيش اللواء المتقاعد وليد سلمان للاستماع الى إفادته بصفة شاهد، علماً أنّه الضابط الذي وقّع على رد قيادة الجيش على طلب مديرية الجمارك للاستفادة من النيترات، مقترحاً عرض نيترات الأمونيوم على شركة الشماس للمتفجرات لعلّها تشتريها. ويومها وقّع سلمان بالوكالة عن قائد الجيش السابق جان قهوجي. واستمع ادعى صوان على إدارة واستثمار مرفأ بيروت بشخص رئيسها ومديريها، وذلك بجرائم الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة ابرياء.

وسريعاً تحوّل القضاء إلى مدان، تارةً بجرم استضعاف حسان دياب الذي لا يملك كتلة نيابية أو وزارية تحميه، فما كان من رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري إلا أن تضامن مع غريمه حسان من أجل حماية موقع رئاسة الحكومة، الموقع الأعلى للطائفية السنية في البلاد. وتارةً أخرى، بجرم عدم الأخذ في الاعتبار الحصانة التي يتمتّع بها هؤلاء، فنيانوس وزعيتر لأنهما محاميان ووزيران سابقان، ودياب بصفته رئيس حكومة تصريف الأعمال وعلي خليل بصفته وزيراً سابقاً.

هذا الشرخ بين القضاء والسلطة وصل إلى درجة التشكيك في نزاهة القضاء والتزامه القانون، والتعنّت الواضح في المثول أمامه، واعتُبر قرار صوان مخالفاً للقانون، باعتبار أن الرؤساء والوزراء السابقين يمثلون فقط أمام مجلس محاكمة الرؤساء والوزراء وليس أمام المحقق العدلي.

سريعاً تحوّل القضاء إلى مدان،

تارةً بجرم استضعاف حسان دياب الذي لا يملك كتلة نيابية أو وزارية تحميه،

فما كان من رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري إلا أن تضامن

مع غريمه حسان من أجل حماية موقع رئاسة الحكومة.

“حزب الله” أصدر بياناً أعرب فيه عن تخوّفه من أن “يضيع التحقيق في متاهات الاجراءات الإدارية والتعقيدات الروتينية والإشكالات القانونية، بحيث تطفو على السطح الشبهات غير الموثوقة والاتهامات غير المسندة والادعاءات غير الصحيحة، فيسقط التحقيق في أدغال السياسة ولعبة الشارع وصخب الإعلام على حساب الحقيقة والعدالة والقانون ودم االشهداء”.

أما “حركة أمل” فأصدرت بياناً طالبت فيه “بإبعاد التحقيق من أي تسييس وصولاً إلى تبيان الحقيقة كاملة في هذا الملف وتحديد المسؤوليات القانونية واتخاذ الاجراءات في حق كل المرتكبين والمقصرين”.

وكان النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات أعلن تنحيه عن متابعة النظر في ملف انفجار المرفأ بصفته مدعياً عدلياً في القضية لوجود صلة قرابة بينه وبين الوزير غازي زعيتر (متأهل من شقيقة عويدات) والذي ادعى عليه صوان.

إذاً بعد غيبوبة طويلة عن ملفّ المرفأ الذي سقط في انفجاره 200 شخص وشرّد وجرح كثيرون، استيقظت المنظومة الحاكمة وقررت تطبيق القانون، طبعاً بما يفيد رجالها ويؤمّن لهم الحماية والحصانة من أي إجراء قانونيّ أو قضائي، يضعهم أمام مسؤولياتهم في جريمة العصر.

في هذا الإطار، توضح المحامية ديالا شحادة لـ”درج” أن “التحقيق خطوة إيجابية، لكنها قد لا تعني أن المحاسبة ستحصل حتماً، إلا أن المحرّم بحجة الدستور انكسر، ونحن نتحدّث عن الجدل القانوني الحاصل حول محاكمة الرؤساء والوزراء”. وتضيف: “الجريمة الأبشع بتاريخ لبنان الحديث، نجحت تحقيقاتها حتى الآن في كسر المحرم وفق النهج السياسي اللبناني المريض، ورأينا في المقابل استقتالاً للدفاع عن موقع رئاسة الحكومة بعد الادعاء على رئيس حكومة تصريف الأعمال، وتجييشاً للعصب الطائفي والمذهبي كأسلوب خبيث لمنع القضية من الوصول إلى المسؤولين الآخرين ومساءلتهم”.

وتتابع: “في حال عدم انصياع المسؤولين لطلب القاضي صوان، فبإمكانه إصدار مذكرة جلب وهذا من ضمن صلاحياته، فيكلّف الضابطة العدلية المعنية بتنفيذ القرار. ولكن إلى أي حد ستتعاون الأجهزة الأمنية لجلب حسان دياب وسواه؟ وهل يؤدي ذلك إلى أحداث أمنية وهل يستطيع القاضي وغيره تحمل هذه المسؤولية؟”. ترى شحادة أنه “في حال عدم قدرته على متابعة التحقيق ومساءلة المسؤولين، فهناك مصادر تتحدّث عن إمكان تنحّي صوان. وفي حال حصل ذلك ربما علينا التفكير بتدويل القضية أي إجراء تحقيق دولي إنما بنموذج جديد مختلف عن المحكمة الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري. فنحن نريد المحاسبة، وإن كانت المحاسبة غير ممكنة محلياً، فلا حلّ أمامنا سوى القضاء الدولي”. وتتابع: “إذا قرر صوان التنحّي فهذا يعني أن السلطة السياسية أقوى من القضاء”.

في مقال ذكرناه سابقاً يتحدّث المحامي ومدير “المفكرة القانونية” نزار صاغية، عن باطنية التمسك بالدستور والقانون بعد ادعاء صوان على المسؤولين الأربعة، يقول: “تمثل هذا الأسلوب بادّعاء القوى السياسية تمسكها بوجوب احترام الحصانات التي ينص عليها الدستور كحصانات الوزراء والنواب (زعيتر والخليل) أو القانون كالمحامين (زعيتر والخليل وفنيانوس) والتي انتهكها صوان حسب هؤلاء. وبمعزل عن مدى صحة هذه الحجج، فإن الإدلاء بها إنما يعكس باطنية معبّرة لدى هؤلاء. فبمعزل عن مسؤولية المدعى عليهم في ارتكاب مجزرة بيروت، فإن ثمة تسليما بأن القوى السياسية التي ينتمون إليها تتعامل منذ نشأتها بخشبوشية شبه مطلقة مع الدستور والقانون. يكفي تدليلا على ذلك التذكير بتعطيل المواد المتصلة بالموازنة العامة السنوية في الدستور بشكل كامل وذلك طوال 12 سنة مع ما استتبع ذلك لجهة جعل جميع عمليات الإنفاق والجباية والاستدانة كلها غير قانونية أو أيضا تعطيل الدستور بشكل كامل منذ 1978 لجهة وجوب إجراء قطع حساب قبل إقرار أي موازنة عامة. هذا دون الحديث عن ملف المخالفات البحرية وتمادي الاعتداءات عليها وتمادي وزراء الأشغال المتعاقبين في غضّ الطرف عنها. وبذلك، تتجلى الباطنية لدى هؤلاء في التمسك بشدة بمواد الدستور الضامنة لحصانتهم وامتيازاتهم الوزارية، مع استمرار خشبوشيتها المتمادية مع مجمل المواد التي ترتب عليهم بحكم وظائفهم تلك أي واجبات أو مسؤوليات. كأن لهم غنم الوزارة من دون أن يكون عليهم غرمها”. 

الشرخ بين القضاء والسلطة وصل إلى درجة التشكيك في نزاهة القضاء والتزامه القانون،

والتعنّت الواضح في المثول أمامه.

مجلس القضاء الأعلى أصدر بياناً، حول آخر مستجدات التحقيق في قضية مرفأ بيروت، يساند فيه الإجراءات القضائية التي أقدم عليها القاضي صوان.
وأوضح أنه “أرسل كتاباً مرفقاً بمستندات، إلى المجلس النيابي بتاريخ 24/11/2020، اعتبر فيه أنه يتبيّن من التحقيقات الاستنطاقية التي قام بها، وجود شبهات جدّية تتعلق ببعض المسؤولين الحكوميّين، وذلك إفساحاً في المجال أمام المجلس، لممارسة ما يعود له من صلاحيات بهذا الشأن، مع احتفاظه -أي المحقق العدلي-، بممارسة ما يعود له من صلاحياتٍ في الموضوع عينه. وقد تمّ الجواب على الكتاب المذكور في 26/11/2020، من قبل هيئة مكتب مجلس النواب، بما مفاده عدم إيجاد أي شبهة بالنسبة للأشخاص الوارد ذكرهم فيه حسب المستندات المرسلة، وأن المجلس ملزم بتطبيق القانون الرقم 13/90 المتعلق بأصول المحاكمات امام المجلس الأعلى المنصوص عنه في المادة 80 من الدستور”.

رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري مع رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب.

وأشار البيان إلى 142 شكوى جديدة وردته من نقابة المحامين وقد باشر بإجراء المقتضى بصددها.

ولفت المجلس إلى أنه أرسل طلب تعاون دولي إلى منظمة الأمم المتحدة بشخص ممثلها القانوني، بغية إيداعه أي صُور جوّية ملتقطة بواسطة الأقمار الاصطناعية، التابعة لأي دولة من الدول المنتمية اليها والعائدة ليوم 4/8/2020، أو أي معلومة عن تحرك جوي أو بحري حربي رصدته القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان UNIFIL، بواسطة راداراتها العسكرية، في النطاق الجوي والبحري اللبناني في اليوم المذكور.

في المحصّلة، يبدو أن رهاب الحصانة قد بدأ ينكسر، وهذا أول الغيث في محاسبة المسؤولين ليس عن جريمة المرفأ وحسب، بل أيضاً عن جرائم كثيرة كنهب أموال اللبنانيين والصفقات المشبوهة التي تفوح رائحتها من الإدارات العامة والمؤسسات والوزارات.

إقرأوا أيضاً: